فصلية "إبداع" المصرية وأضخم ملف عن الثورة التونسية
اختارت فصلية "إبداع" الثقافية التى تصدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب أن تواكب أحداث الانتخابات التونسية بإصدار ملف ضخم يربو على المائتى صفحة، يضم مختلف تجليات الإبداع التونسى بعد "ثورة 14 جانفى"، التى ألهمت العرب صياغة ربيعهم الذى بهر العالم، فاقتفت أثره شعوب العديد من الدول العظمى.
سافر الكاتب الصحفى المصرى مصطفى عبدالله، رئيس التحرير السابق لجريدة "أخبار الأدب"، إلى تونس وهو يحمل رسالتين إحداهما من الشاعر الكبير أحمد عبد المعطى حجازى، مقرر لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للثقافة، ورئيس بيت الشعر المصرى، ورئيس تحرير مجلة "إبداع"، موجهة إلى عز الدين باش شاوش، وزير الثقافة التونسى، والأخرى من الشاعر حسين القباحى، مقرر لجنة العلاقات العربية باتحاد الكتاب المصريين، موجهة إلى الهيئة المديرة لاتحاد الكتاب التونسيين لتفويضه فى عمل بروتوكول تعاون بين الاتحادين، فضلاً عن اعداد ملف يرصد إنعكاسات الثورة على صفحة الأدب، وقد عاد مصطفى عبدالله بمشروع البروتوكول وعدد ضخم من القصائد والقصص والمقالات الفكرية والنقدية، فضلاً عن دراسات فى فنون التصوير والنحت فى تونس، التى شكلت هذا الملف الذى يحمل عنوان "تونس الثورة والفكرة".
وقد حرص الشاعر الكبير أحمد عبد المعطى حجازى على أن يستهل هذا العدد بمقال بالغ العمق يتأمل فيه تطور العلاقات الثقافية المصرية التونسية فى محاولة للتأكيد على أن الثقافة هى أهم ما يربط بين البلاد العربية ويسمح بقيام علاقات أخرى، لا تزال للأسف محدودة مرتبكة خاضعة لعلاقات الحكام بدلاً من أن تخضع علاقات الحكام لها.
وقد جاء فيه:
"حين أتأمل العلاقة التى تربط بين مصر وتونس، أجد فيها ما يميزها بعض الشئ عن علاقة مصر ببلاد شقيقة أخرى.
ومن الطبيعى أن تختلف علاقات البلاد العربية فيما بينها. فبلاد المركز غير بلاد الأطراف، وعلاقة المتجاورين تختلف عن علاقة غيرهم.
وكما تختلف العلاقة فى المكان تختلف أيضاً فى الزمان. لأن الأيام دول كما يقولون. ومصر المكتفية بنفسها فى الدولة الفرعونية القديمة غير مصرالتى توسعت فى الدولة الحديثة ووضعت يدها على ما بين الفرات وأعماق السودان، وغير مصر التى فقدت استقلالها وأصبحت ولاية فى إمبراطوريات الفرس واليونان والعرب والأتراك. ولا شك فى أن علاقات البلاد العربية كلها بعضها ببعض، تطورت وأصبحت علاقات أشقاء بعد أن دخلت كلها فى العروبة والإسلام.
لكن الزمان والمكان وما يتميز به كل قطر على حدة، ظلت تفعل فعلها فى علاقة كل بلد بالآخر، ومن ذلك ما نجده فى علاقة مصر والسودان، وعلاقتها ببلاد الشام، وعلاقتها بتونس التى نرى فيها ما لا نراه فى علاقة مصر ببلاد أخرى.
وسوف أجعل الثقافة وما يتصل بها محور حديثى. فالثقافة حتى الآن هى أهم ما يربط بين البلاد العربية ويسمح بقيام علاقات أخرى، لا تزال للأسف محدودة مرتبكة خاضعة لعلاقات الحكام بدلاً من أن تخضع علاقات الحكام لها.
والعلاقات الثقافية بين مصر وتونس تبدأ من الزمن الذى أخذت فيه ثقافات المنطقة تتواصل وتتفاعل، نتيجة للتطورات المختلفة التى فتحت فينيقيا على مصر، وفتحت تونس على فينيقيا، ثم جمعت بين شعوب البحر المتوسط فى ظل اليونان والرومان. لكن هذه العلاقات تطورت تطوراً جوهرياً بعد الفتح الإسلامى، فلم تعد حواراً بين ثقافات ولغات مختلفة، كما كانت من قبل، وإنما أصبح الحوار داخل لغة واحدة وثقافى مشتركة. هكذا أنشأ الفاطميون القادمون من تونس القاهرة. وبنوا الأزهر ليكون منبراً شيعياً، فكان كما أرادوا قرنين أو أكثر، ثم تحول ليصبح أعلى منبر للإسلام السنى فى العالم كله، أى بالنسبة للمصريين ولغير المصريين، ومنهم التوانسة الذين قدموا للأزهر عدداً من أهم المتخصصين فى الفقه المالكى. وهكذا نرى مصرومدنها وبساتينها فى شعر تميم بن المعز كما نرى تونس. ونراهما معاً فى سيرة ابن خلدون وفى مؤلفاته. ونراهما معاً فى تغريبة بنى هلال. فإذا خرجنا من هذه العصور الوسطى ودخلنا العصور الحديثة، رأينا هذا التجاوب العجيب بين ما يحدث فى مصر وما يحدث فى تونس، كأن دوافع خفية عميقة تفعل فعلها هنا وهناك، إن لم يكن فى الوقت ذاته ففى أوقات متقاربة.
خذ مثلاً هذه التطورات السياسية التى عرفتها مصر وتونس فى القرن التاسع عشر، كيف تداعت كأنما كان وراءها محرك واحد ما إن تبدأ عجلته الأولى فى الدوران هنا، حتى تنتقل الحركة إلى ما يليها هناك.
فى القرن الثامن عشر استطاعت تونس أن تنال استقلالها الذاتى مع اعترافها بالسيادة العثمانية. وهذا ما فعلته مصر فى القرن التاسع عشر بفضل محمد على. وفى عام 1824 شارك الأسطولان المصرى والتونسى، للأسف الشديد!، فى قمع الثورة اليونانيةعلى الأتراك. وفى عام 1827 وقعت معركة نفارين البحرية، التى استطاعت فيها الأساطيل الأوروبية أن تدمر أساطيلنا. وفى عشرينيات القرن التاسع عشر أرسل محمد على بعوثه إلى أوروبا لنقتبس من علومها ونظمها الحديثة ما كانت مصر بحاجة إليه، لتخرج من الظلمات إلى النور.
وقد تبعتها تونس، ففى عام 1852 أرسل الباى أحمد وزيره خير الدين التونسى لحل بعض المسائل فاستمرت بعثته أربع سنوات، كان تأثيرها فى ثقافته ونشاطه السياسى بعد عودته لا يقل عن تأثير السنوات الخمس التى قضاها رفاعة رافع الطهطاوى قبله بعشرين عاماً فى باريس. وكما كانت تجربة الطهطاوى فى فرنسا موضوعاً لكتابه الفاتح "تخليص الإبريز فى تلخيص باريز"، الصادر فى القاهرة عام 1834، كانت تجربة خير الدين موضوعاً لكتابه "أقوم المسالك فى معرفة أحوال الممالك"، الذى استشهد فيه مؤلفه بكتاب الطهطاوى. وقد صدر كتاب خير الدين عام 1867 فى تونس. وفى ستينيات القرن التاسع عشر ظهر أول دستور تونسى، وفيها تشكل أول برلمان مصرى. وفى عام 1881 استولى الفرنسيون على تونس، وفى العام التالى استولى البريطانيون على مصر. وكما اتحد مصير البلدين فى القرن التاسع عشر، اتحد مصيرهما فى القرن العشرين.
فى خمسينيات القرن العشرين رحل البريطانيون عن مصر، وفيها رحل الفرنسيون عن تونس.
وفى يناير من هذا العام اشتعلت الثورة التونسية، التى أسقطت النظام البوليسى المستبد، وأجبرت زين العابدين بن على الفرار. وبعد ذلك بأيام اشتعلت الثورة المصرية وأجبرت مبارك على التنحى. وقد لغبت الثقافة فى هذه الأحداث الدور الأول.
فى أواخر الأربعينيات، وأنا فى حوالى الرابعة عشرة من عمرى، كنت أشارك فى المظاهرات الطلابية التى انطلقت فى مصر كلها تعبيراً عن مشاعرنا الوطنية المحتدمة.
وفى هذه المظاهرات كان مطلع قصيدة الشابى هتافاً من هتافاتنا المفضلة:
"إذا الشعب يوماً أراد الحياة
فلا بد أن يستجيب القدر"
وقد بدأت بهذا المطلع أول قصيدة نظمتها فى ثورة 25 يناير وسميتها باسم قصيدة الشابى "إرادة الحياة". فيا لها من حياة خصبة عاشتها هذه القصيدة وعاشها صاحبها، الذى رحل قبل أن يبلغ الثلاثين.
ولد فى تونس، وتلقى ثقافته الحديثة على ما كان يصدر فى مصر وبلاد الشام. ونظم قصائده فى وطنه، لكنه نشرها فى مصر لتصبح أساساً فى الرومانتيكية العربية، ونشيداً للحرية، وتحرض على الثورة فى مصر كما حرضت عليها فى ليبيا، وسوريا، واليمن... والبقية تأتى.
وكما غنى لنا الشابى بالفصحى، غنى لنا بيرم بالعامية المصرية، التى أصبح أباً من آبائها:
تونس خضرا ومخضّرها
رب القدرة ومنوّرها
برجال أُمَرَا وقصدناهم
أمرا شُعَرا ووجدناهم
كيف البحرين
يا صلاة الزين على تونس
يا صلاة الزين".
أما الشاعر الدكتور حسن طلب، نائب رئيس التحرير، فقد اختار لمقاله، الذى يرحب فيه بهذا الملف، أن يدور حول تاريخ الثورات والهبات والانتفاضات فى تونس، منذ ثورة صاحب الحمار فى القرن العاشر الميلادى.
وعلى صفحات هذا الملف نقرأ الحوار الذى أجراه مصطفى عبدالله مع وزير الثقافة التونسى، الذى لا يزال يفخر بأن طه حسين منحه أول جائزة فى حياته، ويؤكد أن عهد الرقابة والمصادرة انتهى بعد الثورة، وينتظر أن تحتفل مصر وتونس بمئوية نجيب محفوظ ومحمود المسعدى، ويخصص مليون دينار ميزانية لاقتناء الكتب من المؤلفين والناشرين.
وتحصل "إبداع" من الشاعر التونسى نور الدين صمود على شهادة بديعة بعنوان "لمحات من غابر الذكريات فى القصبة" حول أكبر ساحات تونس التى شهدت غضبة الشعب التونسى وإطاحته للطاغية زين العابدين بن على.
وتنشر قصائد: "تمرين على كتابة يوم الجمعة" لمنصف الوهايبى، و"تونسى دفعة واحدة.. أو لا أكون" لمحمد الصغير أولاد أحمد، و"مات الملك.. عاش الملك" لعادل المعيزى، و"هيأت جسدى أجنحة" لآمال موسى، و"عاصفة جديدة فى سيناء" لباسط بن حسن، و"سيدى الشعب" لنور الدين صمود.
وقصص: "التقرير الطبى" لأبو بكر العيادى، و"الكلب" لإبراهيم درغوثى، و"ساعة أينشتاين" لوليد سليمان، و"جرح فى اللوحة" لسعيف على، و"من اين لأمى بكل تلك الدموع" لكمال العيادى.
ويكتب فوزى الزمرلى عن (على الدوعاجى فى "سهرت منه الليالى")، ومحمود طرشونة عن (نظام الحكم فى "وقائع المدينة الغريبة")، وشوقى بدر يوسف عن رواية "سبع صبايا" لصلاح الدين بوجاه، وحسين عيد عن رواية "كائنات مجنحة" لحسن نصر، فيما تكتب الروائية التونسية مسعودة بو بكر عن مسرواية "لوز عشاق" لمحمود بلعيد، طبيب الأسنان الذى برع فى كتابة الرواية والمسرحية فى آن واحد، وتختار غادة الريدى، مدير تحرير "إبداع"، لمقالها عنوان "عبد السلام المسدى: نحو وعى ثقافى جديد"، أما الشاعر أحمد كمال زكى فيكتب عن "بيانات الثورة فى اتحاد الكتاب التونسيين"، فى نفس الوقت الذى تنشر فيه "إبداع" مقالاً لمحمد البدوى حول ثورة الجيل الجديد فى اتحاد الكتاب التونسيين، ويكتب جميل حمداوى عن "نظرية المسرح التراثى عند عز الدين المدنى"، ومحمود قاسم عن "الأدب التونسى المكتوب باللغة الفرنسية"، وفى مجال الفكر نقرأ هذه الرؤى الفلسفية: "الحساسية الثورية عند فتحى التريكى" لمجدى الجزيرى، و"تأملات أولية فى الثورة التونسية" لفتحى التريكى، و"الفلسفة فى تونس" لأحمد عبد الحليم، و"الثورة التونسية والثالث المرفوع" لزهير المدنينى، و"هوية الثورة" لفتحى المسكينى، و"التنوير العربى المعاصر" لصالح مصباح.
ويتسع الملف لدراسة أعدتها الكاتبة منة الله سامى، حول التشكيل فى تونس من خلال تقديم أنموذجان مختلفين هما: المثّال الهادى السلمى، والرسام رفيق الكامل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق