2011/10/23

"أخيرا .. يا حبيبتي" قصة قصيرة بقلم: فؤاد قنديل

أخيرا .. يا حبيبتي
فؤاد قنديل
الأرصفة ترحل والمدارس تطرد الطلاب كي تستقبل أكداس القمامة
أعمدة النور تسقط وتتمدد على الأرض وتغلق الشوارع
الحقول تبتلع المحاصيل وتسربها عبر الأنفاق إلى علية القوم
النهر متخم بالجثث .
أبواق الصحف والإذاعات المرئية والمسموعة والبرلمانية
تطلق صواريخ الوعود العظيمة .
يهلل لها البسطاء وينشرونها على أحبال الغسيل في الشرفات مثل جلابيب سوداء ممزقة
تنشر الصحف صورا للزعيم المزين صدره بالأوسمة والنياشين
مع كل خطبة تتبدل البدل فاقعة الألوان والنياشين والقبعات والملامح
عندما يأتي المساء
يلتف الناس حول أكواب الشاي الحزين الذي لا يصلح طن سكر لتحليته
كثيرون يدخنون النارجيلة المضمخة بالحشيش
الشاي والحشيش قرابين للوقت الذي يقضونه في محاولة الحديث إلى السماء
يشكون إليها أحوالهم
أنا مثلهم لكني أنزل إلى الشارع وأصرخ
أكشف أسماء المقصرين وأواجههم.. أقول للأعور : أنت أعور
وأقول للخائن : أنت خائن
وإذا لم أجده أستخدم ضمير الغائب
سُجنت عدة مرات ، وكل ساعة قضيتها في مقرعة السجن وحظائره البشعة
تركت بصماتها على جسدي ، وفعلت فعلا معاكسا على روحي
في المرة التي حان موعدها قبل عدة أشهر وكانوا قد ملوا اقتراف السلوك المتدني ذاته
اعتقلوني وحقنوني بالمخدر
ذبحوا لساني، ولم يغتصبوا عقلي وإرادتي
عدت لأجد الأسوأ في انتظاري
الحافلات عاطلة والشباب .. المستشفيات تخلو من الدواء
بدلا منه تم استيراد أدوات تجميل لزوجات وبنات كبار الساسة
القطارات تتصادم وتميل على أجنابها
زوارق كثيرة وسفن تسقط بمن عليها في النهر والبحر تخفيفا للكثافة السكانية
أنطلق في الشوارع وأكتب على الجدران
في المعتقل حقنوني بالمخدر ، وذبحوا كفي اليمنى
نزلت إلى الشارع أحمل اللافتات
اعتقلوني وحقنوني بالمخدر ، وذبحوا قدمي اليمني
نزلت إلى الشارع أحمل لافتات أكبر لها صوت عال وأنياب
اعتقلوني وحقنوني
قطعوا قدمي اليسرى
نزلت إلى الشارع ممتطيا المقعد والإرادة
أحمل لافتات تندد بالخونة واللصوص والمستبدين
كسروا المقعد
خرجت إلى الشرفة .. اقتعدت كرسيا وحملت اللافتات
سدوا شرفة البيت ونوافذه
أهداني ابن أختي جهاز كومبيوتر
طارت غضبتي إلى الملايين
حطموا الجهاز
اعتقلوني ولم يحقنوني .. لم يسمحوا لي بالعودة إلى البيت
زارتني حمامة في السجن البعيد وهدلت على شباكي
قدمت لها فتات الخبز ودعوتها للغذاء
كتبت بيدي اليسرى كلماتي وربطتها بقدمها النحيلة
طارت وطارت معها آهات الشعب المكلوم
خصصوا جنديا يراقب زنزانتي
كلما لمح طائرا يدنو مني اقتنصه
جاءتني الحمامة بالليل ولم يرها القناص
طارت القصاصة الصغيرة إلى الملايين
أجنحة الكلمات حملتها بعيدا
عبرت أنهارا وبحارا وجبالا وحواجز
سدوا النافذة
مرت أيام قليلة كدت خلالها أنتهي كمدا
كتبت على الجدران الحزينة الباردة
لم يقرأها غيري .. أخذت أقرأها عشرات المرات
طلبت ورقا وقلما من الجندي حامل الطعام
في البداية رفض ، ثم زودني بما أريد
سلمته ما كتبت .. أعطاه لأهالي السجناء
الشباب على الفيس بوك والشبكة العجيبة يطلقون سهام الكلمات
تحت عنوان آخر ما وصلنا من المناضل ( س )
أسبوعان فقط .. ثم تغير الجندي
عسكر وحرامية
قام على خدمتي جنود ذوو قلوب متحجرة وبعضهم من العميان
أضربت عن الطعام .. لم يعبأ أحد
فقدت كل وسيلة اتصال
الوطن ينهار والطغاة النهابون القتلة يتزايدون
فجأة .. سمعت أصوات الجنود يصرخون ابتهاجا ويهللون
اندفعوا داخلين الزنزانة التعسة ليعانقوا سجينها مكمم الأفواه
قامت الثورة .. قامت الثورة
سالت دموعي بغزارة وخفق قلبي كطائر صغير يحاول أن يطير..
علا نشيجي حتى تهاويت على الأرض
وضعت في كفي الباقية رأسي الملتهب بالسخط والفرح . بالنور والظلام .. بالأسى والسعادة
اليأس والأمل
أخيرا يا حبيبتي .. أخيرا


ليست هناك تعليقات: