بقلم: سناء
أبوشرار
من هو هذا الكاتب
الذي نمنحه جزء من وقتنا طال أم قصر؟ من هو هذا الشخص الذي قررنا أن نفتح له
بيوتنا وافكارنا بل ومشاعرنا؟ هل يكتب عنا أم عن نفسه أم عن المجتمع؟ هل يكتب
بموضوعية أم بإنعكاس لما يفكر به؟ هل يفرض علينا ما يفكر به بطريقة ساحرة نشعر من
خلالها أنه لم يفرض علينا ما يفكر به بلل إقتنعنا بما يفكر به؟
سوف تكون الإجابة
البديهية أن الكاتب هو كل هذا أو بعضه ولكن هذه الإجابة البديهية لا تنفي عمق هذا
الموضوع لما له من أبعاد عميقة على الفرد والمجتمع. أحد الفروق الهامة بين السياسة
والأدب هو أن السياسة واضحة المعالم رغم تعقيد التطبيق؛ فالسياسي لا يداري أهدافه
ولا يصطنع المسالمة هو يريد القيادة والرئاسة بل ويباهي بذلك؛ أما الأدب فهو ليس
واضح المعالم؛ بل يسير بمداراة لأمور كثيرة في الحياة وذلك كي لا يصطدم بما هو
ممنوع وبما هو مرفوض وبما هو قديم؛ يتحسس طريقة في المجتمع وينظر جيداً أين يضع
قدميه كي لا يتم رفضه لأن رفضه أسهل بكثير من رفض برنامج سياسي. وعدم وضوح معالم
الأدب ليس نقيصه بل ميزة لأنه بذلك يتقمص كل الشخصيات ويتجول في كل الزوايا
والصالات؛ بل لو أنه إتخذ ملامح محدده لفقد بريقه وجاذبيته.
ولكن الكاتب لابد
له أن يكون واضح المعالم؛ وقد لا يستطيع ذلك؛ لأنه هناك شخصيتان تتنازعان الكاتب؛
شخصيته الحقيقية وشخصيته الأدبية؛ شخصيته الحقيقة يعيشها بكل سلبياتها
وإيجابياتها؛ أما شخصيته الأدبية فيسعى جاهداً إلى تجميلها لأنها لو كانت مشوهه لن
يتم قبول ما يكتب. ولكن لأي مدى تنعكس سيكولوجية الكاتب على ما يكتب؟ وهل يمكن
للقاريء أن يستشف إن كان الكاتب يعكس نفسيته في ما يكتب أن انه يكتب بتجرد موضوعي؟
الصعوبة تكمن بأنه
قد لا يتمكن الكاتب من الإنسلاج من سيكولوجيته الخاصة؛ قد لا تكون لديه هذه القدرة
بأن ينسلخ من ذاته ويكتب عن مواضيع واشياء وأشخاص خارج دائرة ذاته أو خارج دائرة
ما يشعره أو يعتقده. وهنا بالذات يكمن سر تألق بعض الكتاب مقارنة بغيرهم؛ إنها هذه
القدرة على الإنسلاخ عن الذات والتحليق بعيداً في عوالم أخرى؛ بل أن تتقلص هذه
الذات إلى أن تتلاشى حين يكتب؛ وهي قدرة ليست سهلة لأنها تحتاج وبالدرجة الأولى
لأن يكون الكاتب على علاقة وثيقة مع ذاته وأن يكون لديه نضج فكري ونفسي وعقلي بأن
يتوقف عند حد معين حين يكتب ويعلم بأنه الآن مُبحراً في جزيرة نائية بعيداً عن
ذاته. وكل هذا لا يتطلب فقط ثقافة واسعة بل تواضع عميق بأن يرى أن ما في الحياة
أكثر ثراءً مما يراه بذاته حتى ولو كان عبقري الفكر والقلم. ثم يتطلب نظرة إلى
الحياة تتجاوز النظرة التقليدية للأمور؛ أن يكون لديه فكر خاص تنعكس عليه الأحداث
ولا ينعكس تفكيره على الأحداث؛ وهذا يعني أنه يطوع أفكاره لما يمر حوله ولكنه لا
يفرض افكاره على ما يدور حوله؛ فالثراء الفكري ليس بفرض ما نفكر به بل بقبول ما لا
نفكر به والإستيعاب المتجدد بأن الحياة لا تعرف الركود وأن الفكر أيضاً لابد أن
يواكب تغير الحياة وتلونها؛ بمدها وبجزرها؛ بإقبالها وبإدبارها.
وليعرف القاريء إن
كان الكاتب يكتب بإنعكاس سكيولوجيته الخاصة على ما يكتب؛ سوف يشعر بأنه سجين ما
يقرأ؛ لأنه سيقرأ عن ذات أخرى سجينة أفكارها؛ وحين يقرأ القاريء وتنفتح أمامه آفاق
أخرى غير عادية ولا تقليدية حينها سيدرك ان هذا الكاتب قد تجاوز سيكولوجيته الخاصة
وإنطلق مع القاريء بأبعاد أخرى غير تقليدية؛ تماماُ كأنه يشاهد فيلم بثلاث أو
اربعة أبعاد عوضاً عن أن يشاهد فيلم ببعد واحد.
والكاتب حين يكتب
كي يُقنع القاريء بما يفكر، ريما ينحج مع فئة من القراء وربما لا ينجح مع فئة أخرى
ولكن هذا الإقناع المبطن ليس من الأدب بشيء؛ فالأدب هدفه الأسمى هو التأثير وليس
الإقناع؛ فمجرد محاولة إقناع القاريء تتحول العلاقة إلى طلب التأييد وهو ما يتنافى
مع سمو رسالة الأدب؛ إن أهم رسالة يحملها الأدب هو التأثير الصامت المكتوم الراقي
دون إلحاح ؛ فهذا التأثير بالذات هو ما يطور ويوثر في مسيرة الفرد بل والمجتمع.
فالروايات التي تم تخليدها لم تهدف إلى إقناع القاريء؛ كتبها الأدباء لأنفسهم قبل
أن يكتبوها للغير؛ كانت هناك حاجة نفسية عاطفية وفكرية تدفعهم للكتابة بغض النظر
عمن سيقرأها أو من لن يقرأها؛ ببساطة لأنها كان لابد أن تُكتب؛ فإن كان يمكن برمجة
أي شيء في الحياة فإن الأدب فقد يقف صامداً ورافضاً للبرمجة؛ لأنه تلقائية انسانية
أمام كل ما يدور بهذه الحياة. يستطيع الكاتب أن يكتب عن نفسه وعن معاناته؛ ولن
يأخذ ذلك أكثر من كتاب أو كتابين؛ ولكنه حين يكتب عن كل ما يدور حوله؛ وحين يُمعن
التفكير بما يدور من حوله خارجاً عن دائرة ذاته، سوف يقدم أعمالاً خالدة لأنها
يصبح مؤرخ لعالم الشعور والفكر في فترة ما من الحياة. إنه لا يؤرخ الأحداث ولكنه
يؤرخ ما ترافق مع الأحداث من مشاعر وأفكار وأمواج من التغيير النفسي والإجتماعي.
فالرواية ليست عمل أدبي محض بل إنعكاس نفسي وفكري وإجتماعي لحقبة ما من التاريخ.
وحين يعي الكاتب هذا الدور؛ وحين يكون إهتمامه متجاوزاً لحدود ذاته يصبح دون شك
أقرب للقاريء وأقرب للواقع وأقرب للحياة؛ لأن الحياة ليست هو فقط، الحياة هي كل ما
بهذا الوجود؛ فهناك وجه مادي للوجود وهناك مقابله وجه معنوي علوي غير مرئي لهذا
الوجود، ومهمة الأدب هو أن تجسيد هذا الوجود غير المرئي.
ولكن إلى أي مدى
يدرك الكاتب أن سيكولوجيته تنعكس على ما يكتب؟ فمن الكتاب من لا يدرك ذلك لأن
الإنعكاس السيكولوجي من التعقيد والغموض بحيث أنه يمكن أن يستحوذ على مشاعر وأفكار
بل وخيال الكاتب؛ فهو حين يكتب لا يستطيع أن ينسحب من هذا الأثر الدفين واللإرادي؛
لذا يقع على كاهل الكاتب مهمة صعبة وقد لا يعيها ويمضي بكتابته دون أن ينتبه لهذا
الجزء من ذاته المنعكس على كل أو على الكثير مما يكتب. هذه المهمة الصعبة وهي
التمييز أين يجد ذاته بين السطور وأين يبتعد عنها ويكتب بتجرد وموضوعيه لا يحتاج
فقط القدرة على معرفة الذات وقبول إنتقادها ولكنه يتطلب كذلك فهم هذه الذات وهو
الأصعب؛ ففهم الذات يتطلب المعرفة الدقيقة والسريعة بتسلل سيكولوجية الكاتب على ما
يكتب، أن يتوقف للحظات ثم يُبحر بعيداً عن شاطئه الضيق، ولكنه لكي يُبحر بعيداً
يحتاج إلى أفق واسع ورحابة صدر وقناعة كاملة بأنه ليس سوى انسان مثل الآخرين ولكنه
يستطيع أن يطوع الكلمة والفكرة والشعور لما يريد أن يقول؛ يستعمل كل أدواته الخاصة
لأجل أن يُنتج شيء ما غير خاص به؛ شيء ما يريده الآخرون، يعيشه الآخرون وهو بذلك
لا يمكنه أن يكتب ببراعة إلا إذا أتقن ذلك الإبحار في آفاق واسعة وأعماق دفينة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق