سناء أبوشرار
عالمان متناقضان مختلفان ، الأدب بشفافيته وثرائه بالمشاعر الانسانية ،
والسياسة بجفافها وفقرها للمشاعر الانسانية ، فهل هما مختلفان حقاً ؟ وإن لم يكونا
مختلفين فما الذي يجمع بينهما ؟ وهل الأدب يؤثر على السياسة أم أن السياسة تؤثر
على الأدب؟
للوهلة الأولى قد تبدو هذه التساؤلات لا قيمة حقيقة لها ، لأن الأدب له
عالم والسياسة لها عالم آخر ، ولكن حين ندقق النظر ونمعن التفكير نجد أنهما يتبعان
لعالم واحد وهو عالم الانسان ، وحين تخطيء السياسة وتعتقد بأنها تتعامل مع المواطن
الرقم أو الملف تفقد انسانيتها وبالتالي تفقد ثقة المواطن بها . وحين يخطيء الأدب
ويعتقد بأنه جزيرة نائية عن قارة السياسة ، يتحول لمجرد تعابير وجمل تتحدث عن أي
موضوع ولكن هذا الموضوع لن يمس العصب الأساسي لحياة القاريء ، فيتحول العمل الأدبي
إلى مجرد لوحة فنية مكتوبة ولكنه ليس إيقاظ للضمير ولا نهضة بالفكر.
الأدب يتمتع بإمتياز التنوع ، بينما السياسة تفتقد للتنوع إلا بحالة وجود
سياسيين مبدعين مجددين وجريئين ليقدموا على إحداث التغيير . التنوع الأدبي يفرز
أدب ملتزم يتحدث عن قضايا انسانية عليا ، أو أدب عاطفي غارق في المشاعر وبرغبة
كاملة من الكاتب ، أو أدب تاريخي يؤرخ أدبياً لأحداث تاريخية ، لا حصر لأنواع
الأدب لأنه جزء من عالم الإبداع بشموليته ولامحدوديته . ولكن ومع كل هذا التنوع
للأدب لا يزال يؤثر على السياسة ، الأدب يجعل القاريء العادي يكتشف نواحي جديدة في
حياته ليس لأنه لا يعرفها ولكن لأنه يتجاهلها فيأتي الأدب ليوقظ فكره ويلفت نظره
لما هو منسي أو مدفون في واقعه أو ذاته.
أي أن الأدب يملك خاصية تشكيل فكر وشعور القاريء برغبة وإراده كاملة من
القاريء ، أما السياسة فإنها لا تمتلك خاصية التشكيل هذه ، ولكن تمتلك خاصية
التطبيق لما تريد وحتى رغماً عن إرادة القاريء أو المواطن ، يضطر للخضوع بدافع
البقاء ولكنه وبأعماقه يرفض ما هو قسري ، ينفذ ما تريد السياسة منه ولكنه ليس حليف
لها ، وحين تأتي الأزمات التي تعصف بالدولة يكون المواطن أول من يشهر عدائه بل
وسلاحه بوجه هذه الدولة التي تجاهلت خياراته .
لذلك كان الأدب وبأحيان كثيرة يشكل خطر على السياسة ، لأنه يؤشر للقاريء
على مكامن الخطأ ، يستفز مشاعره ، ويشحذ أفكاره ، يمده بالقوة الروحية لكي يقول لا
، فأغلب الثورات والتغييرات الجذرية في العالم كانت نتيجة أفكار ، مجرد أفكار
ولكنها غيرت أمم وبدلت حكام ؛ لهذا لا يجب تسخيف الأدب ، ولا يجب أن تتم كتابته
بسطحية ، لأنه بنية أساسية في تشكيل فكر وسلوك الشعوب ، ولابد لكاتب الأدب أن يكون
على دراية واسعة بالسياسة ليس لأجل أن يقوم بعمل الثورات بل لأجل أن يكون واعياً
بدروه ، مدركاً بأن مسؤولية كبيرة تقع على عاتقه ، لأنه يكتب وهناك من يقرأ له ،
أما إذا كان يكتب ليضع أوراقه بدرجٍ ما فيمكنه أن يكتب ما يشاء. حين يفكر الكاتب
بهذه الصورة تصبح كتابته حتماً جدية ومسؤولة ، لأنه يعلم وبعمق بأنه عنصر مؤثر
ولايهم عدد من يؤثر بهم ، المهم أن يكون ما يكتبه يترك رنين وصدى لدى من يقرأ له.
من أشهر الجمل الأدبية لرجل سياسة هي جملة مكونه من كلمتين قالهما مارتن
لوثر كينغ فغيرت تاريخ السود بأمريكا : " لدي حلم" . ومن الأمثلة على
تأثير الأدب على السياسة كتابات فولتير ومونتيسكيو الذين مرروا أفكارهم المنتقدة لسياسة
السلطة عبر المسرح والشعر وكذلك بلزاك و زولا وهجو. ويمكن للأدب أن يكون مزعج بل
وخطير بالنسبة للسياسة لأنه الوسيلة
الأولى والأكثر عفوية للتعبير عن ارادة الحرية والتغيير. فئة كبيرة من
الكتاب المعروفين كانوا مشغولين بالتحدي الضاغط على السياسة ورواية (قصة مدينتين)
لشارلز ديكنز عبرت عن هذا التحدي بين باريس ولندن خلال الثورة الفرنسية . يمكن
للكاتب الجاد الملتزم البعيد عن المصالح الذاتية أن يكون بذرة لتغيير طال إنتظاره
ولكن هذا لا يكون دون ضمير حي متيقظ يهتم بمن حوله أكثر من اهتمامه بقضاياه
الذاتية الضيقة. بل إن الأدب كان و لا يزال وسيلة هروب من التعسف والظلم .
ومن ناحية أخرى ، وإن كان الأدب له أثر على السياسة ، فإن الأدب أيضاً كان
ولا يزال له عميق الأثر على أصحاب السلطة من ملوك وامراء وحتى الجنرالات
منهم الإمبراطور اليوناني " هادريان" الملقب بالإمبراطور المثقف
ونابليون الذي جعل الأدب يخدم أهدافه السياسية ؛ كما أن الأدب بالنسبة لأصحاب
السلطة هو فرصة لتخليد أعمالهم وصفاتهم عبر أعمال ادبية تبقى خالدة حتى بعد
رحيلهم وهو ما يدركه كل رجل سلطة ، ويكفي
أن نطلع على العدد الضخم للمؤلفات الأدبية التي تناولت حياة رجال السلطة من كل
الجنسيات وفي كل العصور والتي لا تزال تلاقي رواجاً كبيراً لندرك أهمية الأدب
بالنسبة لأي سياسي .
ولكن هناك علاقة أخرى وهي
الأكثر أهمية بين الأدب والسياسة ، وهي مدى تأثير الأدب على فكر وشخصية رجل
السياسة . من المؤكد أن شخصية رجل سياسي يمتلك ثقافة أدبية عميقة تختلف تماماً عن شخصية سياسي لا اهتمام
لديه أو دراية بالأدب . حين نعلم بأن الدراسات العلمية قد أثبتت أن قراءة
الأدب رفيع المستوى يشحذ القدرات العقلية ، ويمنح العقل أبعاداً فكرية واسعة وينشط
خلايا الدماغ ندرك أن الانسان المثقف
يختلف عن الانسان غير المثقف ، وتتسع دائرة الإختلاف هذه حين يتعلق الأمر برجل
السياسة .
لطالما ساد
الاعتقاد في مجتمعنا العربي بأن رجل السياسة لا يجب أن تكون له
معرفة بالأدب ،
بل إن الأدب عالم لا علاقة له بالسياسة التي عالمها المصالح
والأموال
والمطامع بل والمؤامرات ، ولكن الحقيقية هي أن إبتعاد الأدب عن
المفاهيم
السياسية أفرز عالم سياسي جاف جشع ولا انساني الهدف لديه يبرر
الوسيلة .
ولايمكن لأحد أن ينتقد رجل السياسة بأنه لا يمتلك المعرفة الأدبية الكافية
بل ولا يهتم
بالأدب ، لأننا نعتقد بأن الأدب عالم منفرد بذاته بهذا الوجود ، عالم
يخص فئة ما من
البشر ، ونكاد لا ندرك بأن الأدب هو انعكاس للانسانية على سطور
وحروف الكاتب ،
وأن الكاتب لا يكتب ما يرى أو يسمع ، فكل انسان يرى ويسمع
ولكن الكاتب يكتب
عما يدور في مساحة الفكر والشعور بأبعاد تتجاوز حدود حواس
الانسان العادي.
لذلك وحين يكون
رجل السياسة رجل أدب أيضاً ، فإنه يكون من عظماء رجال السياسة
وتدخل مقولاته
التاريخ ، ويكون مرجع أدبي وسياسي بنفس الوقت لما لديه من اتساع
انساني استوعب
المفاهيم السياسية ومزجها بالمفاهيم الأدبية ليكون أكثر فهما ، أكثر
تعاطفاً ، أكثر
إبداعاً لكل ما يدور من حوله ؛ يقول إليانور روزفلت :
"
أحياناً أتسائل ، إذا كنا سوف ننضج في سياساتنا بأن نقول اشياء محددة تعني شيء
حقيقي ، ام أننا
سوف نستعمل دائماً عموميات يرضى بها الجميع والتي – وفي الحقيقة
–
لا تعني سوى القليل" هذه المقولة
البسيطة تلخص صدق رجل سياسة مع ذاته وأنه انطلق من شعور انساني
أدبي بعدم الرضى عن المراوغة وعدم الصدق في السياسة .
ويقول ديفيد
إيزنهاور :
"
الشعب الذي يقدر امتيازاته فوق مبادئه ينتهي بأن يخسرهما معاً".
وهي مقولة يمكنها
أن تكون أدبية أو سياسية وبعمق انساني وأخلاقي واضح .
إن تقليص مساحة
الأدب في السياسة خصوصاً في الزمن المعاصر ، أنتج نوع آخر من
السياسة ، سواء
في الغرب أو في المجتمع العربي ، انتج شخصيات لا تهمها سوى
مصالحها الخاصة ،
وحتى لو أهتمت لمصلحة بلدها فهو اهتمام شديد الأنانية والمادية
والنفعية تزول
أمامه كل الإعتبارات الانسانية وهو أخطر ما تقدمه السياسة في زمننا
المعاصر ، أصبح
رجل السياسة شخصية تُثير الخوف والقلق لأنها مجردة من نظرتها
الانسانية
للأمور . الأدب ليس مجرد صور بلاغية أو
روايات ممتعة ، إنه أحد الأدوات
الهامة بتطوير
الحس الانساني سواء على الصعيد الفردي أو الجماعي ، حتى أن السياسة تتقلص مساحتها أمام
امتداد انسانية الأدب وتتحول لموضوع من مواضيعه ، أما الأدب فلن يكون أبداً ضمن
برنامج شخصية سياسية ترشح نفسها لمركز ما ، ولكنه سيكون
حتماً حاضراً
بنظرة الناخبين له ، لأنهم ينتخبون صفاته الانسانية لا مكتسباته المادية.
وأخيراً ، هل
أفقدتنا التكنولوجيا متعة تذوق النص الأدبي ، واكتشافنا لمشاعر أخرى
بذواتنا
وبعلاقتنا مع الآخرين عبر نصوص أدبية تنساب مثل القطع الحريرية في الفكر
والروح ؟ الأدب
هو اكتشاف لجمالٍ آخر للذات البشرية ، إنه مواجهة الحقيقة بإشراقها ولو
كانت مؤلمة ؛
وبذات الوقت فإن جمال الأدب يجعل ألم الحقيقة رقيقاً جذاباً بل ومرغوباً لما
به من صقل
للنفس ولأنه وسيلة للتواصل مع الروح
الصامتة لكل منا .
الأدب بالنسبة
للسياسة لا يجب ان يكون خيار بل هو ضرورة ، لأنه مرشد السياسة نحو
الانسانية
والرحمة والتعاطف ، هذا إذا كان هدف السياسة الأول هو مساعدة الناس
والإرتقاء بهم ،
أما إن كان هدفها هو الإنتفاع مما لديهم فهي ليست سياسة بل انتهازية
متجردة من
الانسانية والحضارة ، أفضل دليل على ذلك هو إندثار ذكر كل من استعمل
السياسة لمصالحه
الخاصة ، ليس فقط إندثاره بل يصبح تاريخه شاهداً عليه لا مجداً له.
قد تتلخص أهمية
الأدب والثقافة بوجه عام لجميع مجالات الحياة بهذه المقولة للكاتبة
والمؤرخة
الأمريكية باربرا توشمان:
(الكتب هي حاملة
الحضارات ، بدون الكتب يصبح التاريخ صامتاً ، ويصبح العلم عاجزاً
وتطور الانسانية
مستحيلاً ، الكتب هي أدوات التغيير ، هم الرفاق ، هم المعلمون ، المبدعون وهم
خزائن كنوز العقول ، الكتب هي الانسانية جمعاء).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق