2015/06/21

الرسالة العاشرة ل"ماريو يوسا": "المعلومة المخبأة" بقلم: خيري عبدالعزيز

 الرسالة العاشرة ل"ماريو يوسا": "المعلومة المخبأة"
 خيري عبدالعزيز
   يقول "يوسا" في رسالته العاشرة, المعنونة باسم "المعلومة المخبأة ", من كتاب رسائل إلى روائي شاب: "الكثير من التقنيات السردية الحديثة المعاصرة, إنما هي في حقيقة الأمر, جزء من التراث الروائي العالمي, كان الروائيون الكلاسيكيون يستخدمونه ببراعة, وما فعله المحدثون في معظم الحالات, هو تشذيب أو تنقية هذه الأساليب والطرائق السردية أو إضافة شيء من التجريب عليه"
   ونرجع إلى لُب الرسالة...
"  المعلومة المخبأة"؛ هي تقنية سردية تدعو القارئ إلى كتابة موازية للنص, وبمعنى أدق هي دعوة لسد الفراغات المسكوت عنها من قِبل الكاتب, عمدا ووعيا, وهو أسلوب سردي استخدمه الرواه منذ نشأة الرواية, أبرع من استخدمه الكاتب الأمريكي إرنست همنجواي, ففي غالبية أعمال همنجواي, على القارئ أن يُعمل قارحته في الفراغات المتروكة, ويفترض افتراضات يلتئم من خلالها كيان النص. الأمر يشبه قمة جبل الثلج في عرض البحر موحياً بالتكتل العظيم الكامن في العمق, ومن الجلي أن هذه التقنية تنفخ الحياة في العمل, كما أنها تزيد من حيز الإقناع, فالقارئ باحث عن الحقيقة, وجامع لشتاتها من المعطيات القليلة المتاحة.
  ففي رواية "وما تزال الشمس تشرق" لارنست همنجواي, العلاقة المربكة بين البطل والبطلة, لا يفسرها إلا عجز البطل الجنسي, هذا العجز الجنسي لم يُفصح عنه أبدا طوال العمل, وكان هو الصمت المحرض الذي مارسه الراوي أثناء النص, وكان هو التفسير الوحيد(العجز الجنسي) الذي بمثابة شعلة الضوء التي بمقدرتها أن تكشف عن كل هذا الغموض والارتباك الذي يلف هذه العلاقة المعقدة بين البطل والبطلة. ومن المهم بمكان, أن نوضح, أن القص مع الإغفال, لا يمكن له, أن يكون مجانيا أو متعسفا, فمن الضروري أن يكون لصمت الراوي مغزى ودلالة, وأن يمارس تأثيرا لا لبس فيه على القسم الظاهر من القصة, بحيث يشعرنا هذا الغياب بوجوده ويحرض فضول القارئ وترقبه. ومن ناحية أخرى, فإن هذا الأسلوب السردي, يحتاج لقارئ ذو صبر وثقافة, له قدرة على ربط الأحداث وافتراض وتخيل المسكوت, ولن يستثيغها القارئ العجول الجاري وراء الأحداث المثيرة المتسلسلة الواضحة, وهذا يجعلنا نؤكد حقيقة أن كل لون من الكتابة يجذب قطاعه الخاص ويبني ذائقته القرائية.
   وجلي أن نستنتج, أن, هذه التقنية )المعلومة المخبأة), ستدفع حتما إلى طريق الاقتصاد السردي, فالصمت الواعي الذي يمارسه الراوي في النص, من المفترض, ألا يدعه يسقط في فخ الاستفاضة في القسم الظاهر من القصة, وإلا أصابت القصة الترهل وفقدت عنصر التشويق وتحريض الخيال في الكشف عن القسم الخفي. ويمكن القول أن هذه التقنية تعتمد على نوع من الاتزان بين الظاهر والخفي, شيء يشبه تمارين الكلمات المتقاطعة, حروف في مقابل حروف, وكلمات في مقابل كلمات.
   ويوجد نوع آخر من المعلومة المخبأة, يمكن تسميته بالمعلومة المخبأة بالإزاحة المكانية, أو بالتقديم والتأخير, وهي, تلك المعلومة المحذوفة من تسلسلها الزمني الروائي, وسيتم الإفصاح عنها في وقت لاحق, وذلك بُغية خلق حالة من التشويق, كما في القصص البوليسية التقليدية, حيث شخصية القاتل لا يُفصح عنها إلا مع صفحات العمل الأخيرة, وهي طريقة في إخفاء المعلومة تختلف عن تلك المعلومة المضمرة, أو تلك المحذوفة نهائيا من النص, والتي لن يتم الإفصاح عنها في أي مكان من القصة, وعلى القارئ وحده, وبمفرده, استكمال هذا المسكوت عنه والمحذوف إلى الأبد لتكتمل أركان القصة, هي لعبة الكلمات المتقاطعة كما أسلفنا, ونضيف, أن هذه التقنية, وهذا اللون من الكتابة يفتح المجال لتعدد التأويل, والقراءات المختلفة للنص, كل قارئ يشيّد الركن الناقص من القصة تبعاً لتركيبته المعرفية والثقافية.
  وفي النهاية, فإن القسم المكتوب من أي رواية لا يشكل إلا جزءا من القصة التي نرويها, لأن عرض هذه القصة وحشد كل عناصرها (الفكرية والحركية والثقافية والأيدلوجية والتاريخية والنفسية), تتطلب الإحاطة بمادة أكثر اتساعا بما لا يمكن تصوره, مقارنة بالمادة المعروضة بالنص, وبما هو غير متاح لأي روائي من ناحية الإلمام الثقافي والمعرفي, وعلينا أن نتقبل حقيقة أن الرواية المكتوبة هي القسم المتاح للكاتب من القصة الكلية, وأنه يجب التخلص من الكثير والكثير من التفاصيل التي لا جدوى ولا طائل منها, والتي هي مضمرة ضمنيا في أجواء ومعطيات الرواية. ولتقريب ذلك إلى الأذهان, فلنفترض أن القصة الكاملة لرواية ما لها شكل مكعب, وأن كل رواية خاصة بعد حذف العناصر غير المجدية, والعناصر المخبأة عمدا, تتخذ بعد انفصالها عن المكعب شكلا ما, هذا الشكل يعكس أصالة الروائي (رؤيته, ثقافته, أدواته...), ولكن علينا التفريق بين هذه التفاصيل التي يمكن الاستغناء عنها, والتي هي معروفة بديهة من الأجواء العامة للعمل, ومن ثم, يجب ويتحتم حذفها لعدم جدواها, وبين المعلومة المخبأة المضمرة في طيات النص, والتي هي ليست واضحة بذاتها, ولكنها أيضا, ليست بغير ذات جدوى, بل هي جزء رئيسي من حبكة العمل وفلسفته, وفي أعمال روائية تكون محوره وعموده الفقري.
 

ليست هناك تعليقات: