2016/04/20

رسالة إلى الحكيم من المرأة التلميذة .. بقلم: رولا حسينات

رسالة إلى الحكيم من المرأة التلميذة
رولا حسينات
لعل كتاب يقظة فكر وما هدانا فيه إلى سبيله العلامة الحكيم، هو ما جعلني أخطو بخطوات وئيدة باحثة عن الحقيقة التي طالما أضر بها الإعلام والأدب بإسفاف ووضاعة، لنرى أسفل سافلين من الطرق الفكرية التي أفضت إلى خلق سحابة من الضلالة بل غشاوة من التفكير المشوش لكينونة المرأة العربية واعتبارها خيمة حمراء وحسب. إن ما استعرضه لنا الحكيم في كتبه يعني بالضرورة عصفا فكريا لكافة أوجه الحياة نصوصا وحواشي، وإني كما رأت النساء إجحاف الحكيم لحقهن في بث الروح في صورة خواء بلا رحم ولا أنفاس للبعث، وجعلتُني بذلك استنكر العقل في النقاش، ولكني يقينا عدت أدراجي أرمق بشق ضئيل من النورانية لفرضية النوايا الحسنة، بقراءة سريعة لما وقع بين يدي من نصوص، يائسة ولو قدر لي على عجالة من الزمن لمضيت للحكيم محكمة رباطة جأشي وتروسي ومشهرة سيفي بالحرب، ولكن ما كبلني ما وجدته من تفرده وعقلانيته وأسلوبه في النسق الحواري البعيد النظر والمتسم بالعمق، جعلني أصيخ السمع مستجمعة الحواس تلميذة لا مقاتلة.
 فوجدتني أمام حالة نادرة من الأساليب التربوية التعليمية عالية الثقافة بعيدة النظر فلا كلمة قد وضعت جزافا ولا أُشير هكذا جدلا لصورة رمزية تستشعر مكنونا من مكنونات النفس الإنسانية، فغدوت صغيرة أقف على استحياء أمام عالم نفسي ونحات لغوي، فما تمثل أمامنا من نصوص حول علاقات إنسانية أبطالها بالتواجد الطبيعي الرجل  والمرأة، فلم تسقط سهوا بل بكافة صورها مُحترمة الشكل والمضمون كامل الاحترام، فما أشار لها منتقصا من إنسانيتها قط، فكانت في كتبه ترتدي سترا محتشما من الخلق وليس جسدا يباع ويشرى أو وصفا جنسيا تبيع الهوى، لكنها نص فكري له شخصيته الاعتبارية غير منقوصة بل تتمتع بكافة أوجه الاحترام.
 إن ما عمد الحكيم إلى إفراده في نصوصه عن المرأة الشرقية هو النيجاتيف أو الصورة السلبية لها ليعاد رسمها بصورة أخرى أكثر ايجابية، بمحو الخليفة الكئيبة والظل الأسود والرتوش الكثيرة التي تعمد إلى جعلها كومة بائسة من اللاجدوى بل قيمة مهمشة وحسب، ولم يعمد الحكيم إلى جلد المرأة علانية بصف الحروف ونسق الكلمات بل جعلها صاحبة الحق في الرد وتغير النمطية الملصقة بها، وفي هذا بحد ذاته إبداع لا يستطيع فعله سوى سحر الحكيم بأسلوب الصورة الأخرى التي تحكي نفسها، وهي المرأة الأوروبية.
 وقد يتبادر للذهن لأول وهلة مدى إعجاب الحكيم بشخصها وتفوقها فغدت من غيرها الطينة والعجينة، ولكن الأمر ليس على هذه الشاكلة بل هو ذو شائكية أقوى وأدل، فان كانت المرأة الأوروبية قد غدت وديعة النصوص بجعلها المؤدِبة فكان الأجدر بالمرأة العربية أن تكون صاحبة الرواية وبطلتها بأسلوب الموندراما، وهو ما صرح به الحكيم باستغناء المرأة عن دورها كشريكة في الحياة الإنتاجية بفكر ووعي، وليست كحالتها التي يرثى لها والتي لا تظفر بغيره تعفير القدمين، وذلك من دور الغيور على المصلحة لا المقرع، فقد تفرد بريادية الحل وهو منح المفتاح على طبق من ذهب، فما أنت صانعة أيتها المتعثرة بحبائل واهية من مكائد المغرضين لحقوقك أولا؟ ولن يسمى الحل حلا إلا بالإمساك في زمام الأمور بعقلانية وروية وليس بهوجاء ورعونة.
وبنظرية الإحلال لملئ الكأس الفارغة فلتُملئ بما هو لصالح المجتمع وصالح المرأة على حد سواء، وما عمد الحكيم إلى إظهاره هو قلة حوار المرأة الغربية ومأثرتها العمل والإصلاح الداخلي والخارجي على حد سواء، بينما عكسها من صورة المرأة العربية التي اتخذت من المجالس في محيط العمل أو البيت أو أي محيط كان فسحة ضوئية شاسعة للثرثرة والإسراف الفكري في التركيز الحواري على القشور من لذة الحياة وبهرجتها وترك المسؤولية الأولى لها، في خلق جيل واع أسيادا لا عبيدا، فإن تغلبت الأوروبية بعد صراع دام عهودا من الزمان بدءا من النظرة المنتقصة لها على مر التاريخ مسلوبة الإرادة والحقوق الإنسانية في أبسط حقوق الحياة وهي أن تعامل كمخلوق صاحب كلمة، فكانت كما أنها لم تكن.
 وهل يمكن أن تكون غير الشيطان الذي أخرج آدم من الجنة بأسلوب روائي ركيك فكلاهما خرج وكلاهما قد أُسقط عليه حكم الإغواء من إبليس الرجيم، ومن ثم الكنيسة والرجس الذي أُلصقت عنوة، فهي الخطيئة ذاتها إلى عهد قريب، وقد سارت بمسيرة وعثاء وقد جُردت من حقها في التعبير عن رأيها بل من أبسط ذلك في مهورة اسمها بجانب ما قد أبدعت فيه.
 ولم تكن أبعد من كونها أمة في المعامل والمصانع مجردة من حقوق الاحتفاظ بعذريتها وعفافها، جسد هش تدمغه نطف شتى لا أصول لها ولا مبادئ.
 لكنها ما استكانت وما وهنت بل ناضلت وناضلت وأبدلت بعد قرون من الكفاح تهميشها إلى بروتوكولات دولية تعنى بحقوقها معنونة بالعدالة والمساواة، فكيف بالمرأة العربية والمسلمة التي ما عانت أيّا من هذه الانتهاكات إلا في عصر مؤطربالجاهلية؟؟! وقد صبغ عليها الإسلام مفهوم الإنسانية..وهو الخلق الأول من نفس واحدة، ثم ما شرع لها حقوقا وواجبات، فكانت المرأة المشاركة في السياسة والاقتصاد بل وفي الحرب، وكانت إحدى أركانها ودعمها اللوجيستي ولم يكن ذلك حكرا على المرأة المسلمة وحسب بل المرأة بشكل عام بغض النظر عن شريعتها وديانتها فقد اكتسبت ذات الحقوق والواجبات، ولم تعتبر قط كائنا ناقصا أو فكرا غابرا، وما ورد في الشريعة شيء يدل على الانتقاص من شخصها.وإن لم يكن في مجال طرحنا ولكن لا بأس من المرور عليه عابرين، فقد كان ورد مفردة الناقصة ضمن إطار محدد ذي حدود وأصول فيه توجيب للرفق بطبيعتها الرقيقة وتكوينها الفسيولوجي،  أي احتراما لطبيعتها الأنثوية، ولم يسحب إطلاقا على أيٍّ من مجالات مشاركتها الحياتية، وهو الذي غال به الراغبين من الانتقاص من المرأة فيه.
 وعبر تاريخ طويل أمضت المرأة فيه جلَّ وقتها، واشغلها وشاغلها وهو الانكماش مسلوبة الإرادة والذي يُفهم على أنه قاعدة من التفوق الذكري، و أجده حرمانا مبيتا ضد المرأة لسلبها حقها في التعليم والتنوير، وهو ما توافق مع الامتداد الاستعماري وسياسة التجهيل التي كانت على المرأة والرجل على حد سواء، ولكن إن اختلفت صور تشكيله فالمرأة حبست بين أربعة جدران جاهلة ممنوعة من طلب العلم، وهو ما طمح إليه المستعمر في ولادة جيل جاهل هش مطموس الهوية.
 أما الرجل فقد وفر له سبل المتعة بنشر بائعات الهوى والخيم الحمراء والغواني والخمارات، فعدل الرجل عن دوره البناء إلى الدور الرخيص في الوقوع بشرك الحب والعشق المحرم، وبطريق غير طريق الزوجة وهذا ما اتفق عليه الرجال في الإصرار على عدم خروج المرأة (حرمه المصون) لأنه ببساطة أسقط صورة الشارع والغواني بصورة ما يمكن أن يؤول إليه حال الزوجة والبنت، وبذلك كان لا بد للمرأة أن تخضع (لسي السيد) وتبقى تنظر من المشربية خلسة باحثة عن فارس الأحلام، وهنا قصر التفكير ووجه إلى التعبير عن الرغبة في البحث عن الزوج، عن الحب، بوصفه الخيط الرفيع الذي ستتعلق به لتخرج من عنق الزجاجة.
 ولعل قضية الحجاب العدو الأمثل للمرأة بإعتباره المقيد لحريتها وحركات تحررها، وعلى الأغلب هو اللاعب المنتقم من شخصها والمتمتع في قمعها ومحق كينونتها، وهو خلافا لما نُص عليه ليحفظ كرامتها قبل عصور بعيدة، فإن عُدَّ سلاحا في تجهيلها وقمع حريتها فقد كان في وقت ما وراء حريتها ونهضتها ليس هذا وحسب بل تفوقها على نفسها وهذا موثق تاريخيا للمشكك في دور المرأة الريادي طيلة عصور النورانية.
ولكن ما غرس في العقل الباطن لكثير من النساء على اختلاف طبقاتهن كان خلاف ذلك، فباتت الحرية بالتخلص من القيد وبات القيد هو الحجاب، وإن لم يكن تسليط الضوء على حقيقة الحجاب موضوع نقاشنا لكنه الفيروس الذي نجح  فيه المستعمر  وعملاؤه، في تضيق الخناق للكبسولة الزمنية وضبطها وتوقيت انفجارها، حيث أن أول دعوات التحرر من القيد في خلع الحجاب علانية كانت من قبل المطالبات بالتحرر واستكملن دورهن بالدوس عليه، وإن كنت أنكر عليهن فعل ذلك يجد الكثيرون ذلك الحدث تاريخيا وتطورا نوعيا في صعود المرأة إلى ساحة الحياة.
 وهذا التفكير بالفعل قد أضر بوضع المرأة، فما كان الحجاب هو الذريعة لإقصاء الحرية بل كان عاملا من عوامل نجاح العلاقات الاجتماعية، والذي تقوم عليه أي شراكة فعليه في محيط العمل على أسس من الشفافية واحترام الآخر، على اعتبار أن الجسد هو جسد مصون لا يمكن تجريده عن العقل والفكر وحسن التصرف.
 ولست هنا مدافعة عن الحجاب أو غيره، لكني أمضي قدما للدفاع عن المرأة بكافة وجهات النظر وفي هذا إحقاق للعدالة والمساواة التي هي أسس أي ثورة فكرية، وقد غدا الحجاب والتجرد منه عنوة قضية العصر، في اشتراط حصول المرأة المسلمة على حقوقها في التعليم والعمل أو التمثيل السياسي.
وعلى عجالة نستعرض النساء بموسعة الحضارات  حول العالم، والتي انتهجت رسما مقدسا لصورة المرأة، وهو ما نجده في الفلكلور الشعبي لأي شعب من هذه الشعوب واللباس التقليدي لهذه الأمم، وقد اصطلح على تسمية الأسرة بالأسرة المحافظة، وما كانت دون ذلك فهي الخادمة أو المنزوع منها شرف الرقي بالعائلة.
 وما كان الحكيم ليفرط في طرحه فهو بأسلوبه أرغم المرأة على مناظرة نظيرتها مما رسمه في  سطوره للعلاقات ذات الدرجة العالية من القدسية، وهي العلاقات الزوجية، وأباح لها أن تنتقد سلوكها وطريقة حياتها و حوارها مع الزوج، وتلك العلاقات الباردة والأسرة الرخامية، و الأجدر بها  أن تكون علاقات ذات كينونة متفردة كأساس للبنيوية المجتمعية.
 وإني لأجدُني تلميذة للحكيم، أتتلمذ على يديه في الأسس العلمية لبناء الشخصية وتلقي دروسا عميقة في العلاقات الإنسانية، وهو ما نحن أحوج إليه في عصر تكالبت عليه مفردات دخيلة تحمل فيروسا قاتلا، يمضي بمبضعه في القلب الإنساني وموسيقا نشازا عن فلسفة مجتمعاتنا، ولا يكفينا التمني لنبض الحكيم في زماننا يصوغ أبجديات الرسالة الأولى لمعنى المرأة في النصوص التاريخية والواقع الملموس.

ليست هناك تعليقات: