بقلم: عبد القادر كعبان*
إن القارئ لقصص الأديبة الأردنية سناء شعلان
بشكل عام تستوقفه حتما قدرتها الهائلة في الغوص إلى أعماق الإنسان سواء كانت امرأة
أو رجلا، في محاولة منها للكشف عن خبايا النفس البشرية التي تتعارك مع الحياة
يوميا، وذلك بتكنيك عال في انتقاء الألفاظ والعبارات ووضعها في المكان المناسب،
كما هو الشأن في مجموعتها القصصية الموسومة "الهروب إلى آخر الدنيا"
والتي جاءت مرآة عاكسة لواقعية فنتازية عن الحب والانكسارات والأحزان.
نفتح هذه القصص الإثني عشرة على إضاءة لنادي
الجسرة الثقافي الاجتماعي الذي سعى لتقديم "الهروب إلى آخر الدنيا"
للكاتبة الأردنية سناء كامل شعلان كونها إضافة جديدة للمكتبة العربية، إضافة إلى
أنه قد ساهم في احتضان العديد من المواهب الشابة في مختلف الأجناس الأدبية.
جاءت القصة الأولى مؤثرة جدا تحمل عنوان
"لحظة عشق"، وكان الحب هو سلاح انتحار البطلة –الفتاة السمراء- لتهب
حبيبها الملحد قرنيتيها ليعود النور إلى عينيه، وكلها ثقة في الله أنه سيقرأ آخر
رسالة قد كتبتها له قبل أن تغادر الحياة لتجعله مؤمنا في النهاية بالله وبالحب: (على
مكتبها رأى نسخة من كتابه المشهور، فتح الصفحة الأولى، كان مكتوبا تحت العنوان
تماما، وبخط نسائي رقيق: "الله هنا في قلبي". تناول قلمه الفاخر، وكتب
في الصفحة ذاتها أعلى الكلمات التي قرأ "إلى حبيبتي هبة... عاشقك إلى الأبد
حكيم.")1.
القصة الثانية "سعادة الروائية"
تعكس قساوة السنين المجحفة في حق البطلة التي حالفها أخيرا الحب الذي كتبت عنه وعن
صاحبه في روايتها، إلا أنه أبى أن يبقى حبيس الورق، حتى أنها تلقت مكالمة غاضبة
منه كونه قد انتظرها طويلا: (قررت أن تعود إلى البيت سيرا على الأقدام، سبقتها
دموعها، وعندما خلت بنفسها في أحد البساتين، أجالت نظرة عجلى في المكان ثم صرخت بحنق
وقالت: "لماذا؟...لماذا؟")2.
لقد كان البطل الذي تعرض لذبحة صدرية حادة
يغار على فراشته الصغيرة التي أحب والدتها بجنون في قصة "باميلا
الصغيرة"، التي جرفها جنون المراهقة للانتحار رفقة حبيبها الصغير وفضلت أن
تقاسمه التابوت، كما جاء على لسان الساردة بضمير الغائب: (لقد هامت بفتاها حبا،
ومنذئذ غدت باميلا المشاكسة، حاول أن يساعد والدتها في إبعادها عن ذلك الشاب
الشرير، لكن دون جدوى، بل إنه حرض زوجته على تقديم شكوى ضد ذلك الشاب اللعين على
اعتبار أنه يتعرض لقاصر، ولم يسمح له بأن يخرج من السجن إلا بعد أن تعهد بترك زهرته
الصغيرة وشأنها.)3.
نماذج شخوص هذه المجموعة للقاصة شعلان تستسلم
بسهولة لشبح الانتحار، والذي يظل يلاحقها ملاحقة الظل لصاحبه حتى تجد كل شخصية
نفسها في دائرة تضيق شيئا فشيئا حد الاختناق، كما هو حال بطلة قصة "عروس
النيل" التي اختارت أن تهب نفسها وعذريتها للنيل الغاضب الذي بات يهدد
باجتياح الأراضي وإغراق الزرع وأهل مصر كما كان ضحيته عريسها الأسمر: (وقفزت في
الماء، تعالت الترانيم والموسيقات، واختفت الحلقات المائية حيث انزلقت حتحور، وهدأ
النيل بعد أن نال عروسه الحسناء.)4.
ما نلاحظه من خلال هذه القصة أنها جاءت كغيرها
تعكس الثروة اللغوية والإرث الشعبي الذي تختزنه ذاكرة الكاتبة، لتوظفه ببراعة بعد
ذلك في نسيجها القصصي لشد انتباه القارئ وتجعله يتابع أحداث السرد المتسلسلة
والمتراصة إلى النهاية.
جاء عنوان قصة "دعوة زفاف" مبنيا
على الخيال الذي يجمع عشيقين على أبواب الخيانة الزوجية، فهو أب لثلاث بنات ولا
يزال يراوده الحلم بطفل من حبيبته الخائنة بدورها لزوجها: (جاء إلى عالمها،
فنسف زوجها من قلبها، ولم يبق منه إلا الاسم والجسد، وجاءت إلى عالمه، فأصبحت
زوجته وبناته الثلاث خيالات تجوس في دنيا نورها الذي يغشاه.)5.
تهتم شعلان في قصص هذه المجموعة عموما
بالمشاعر النابضة بالحب في أعماق شخوصها، ولكن سرعان ما يتحول ذلك الشعور –الحب-
لسم قاتل يدفع صاحبه إلى الشروع في الانتحار أو الدخول في دوامة من الحقد أو
الكوابيس أو القتل في أحيان أخرى، كما هو الشأن في القصص التالية: "دعوة إلى
الحب والحياة"، "الهروب إلى آخر الدنيا"، "الغرفة
الخلفية" و"عينا خضر".
ما أجمل أن يتعانق الحبيبان ويتصالحا بأنامل
متعانقة و يخرجا سويا بجسدين متلاصقين من باب القضاء، ليتركا خلفهما شبح الفراق
ينتحر متألما لوحده في قصة "أنامل ذهبية"، كما نقرأ ذلك في المقطع الآتي:
(...اتقنا لغة مشتركة جديدة، ليست لغته الأم، وليست لغتها الأم، بل لغة المكان
الذي استوطنا فيه، جرح أنوثتها وصمودها الطويل، وجرحت حبه ومشقته الطويلة، وكاد
ينهار المكان، هددت بالعودة إلى وطنها، وهدد باختطاف الطفلين، والعودة إلى
وطنه.)6.
جمع الحس الفنتازي المتميز والمخالف للرؤية
المألوفة للحياة كلا من القصتين "كرنفال الأحزان" و"الملاك
الأزرق"، فالأولى تجسد صورة انفصال الجسد العاشق عن الروح، كما جاء على لسان
الساردة: (الهدوء بات يغمر المكان، والجسد لا يزال يزرع نفسه في المجهول، أتراه
مات؟ أيموت قبل أن يحضر الكرنفال؟؟!)7.
أما الثانية، فتظل البطلة باحثة عن ملاكها الأزرق حتى أنها تخبره أنها
ستموت لو اختفى من حياتها كما جاء على لسان الساردة بضمير المتكلم العليم: (أتأمل
عينيك، ما أجمل الأزرق وما أقساه!! الأزرق بحر، الأزرق سماء، الأزرق ملاك هو أنت،
الأزرق دثار دافئ يحتضن طفلا الآن أدرك الوجود، أو لعل الوجود أدركه، تضمه الأيدي،
وتسميه: "حبيبي الصغير.")8.
لقد استطاعت الأديبة سناء شعلان في قصص
"الهروب إلى آخر الدنيا" أن تدهش وتفاجئ المتلقي بحس شعري لا مألوف من
خلال بدائع الوصف وتشكيل صور مختلفة عن الحب بإيقاع سريع، لربما مخافة فقدانه أو
ضياعه مع الأيام.
هوامش:
1.سناء شعلان، الهروب إلى آخر الدنيا، نادي الجسرة الثقافي الاجتماعي، قطر، 2006، ص:13.
2. المصدر نفسه ص18.
3. المصدر نفسه ص20.
4. المصدر نفسه ص29.
5. المصدر نفسه ص32.
6. المصدر نفسه ص55.
7. المصدر نفسه ص67.
8. المصدر نفسه ص75.
*كاتب وناقد جزائري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق