بقلم: عبد القادر صيد
لا أتذكر منذ متى و الليل يحلّ عليّ من دون ظلمة عاجزا عن احتوائي .. لا يجد قبضة محكمة ليدجنني في حضيرة أسراه ، مع أنني لا أنكر أنه وسمني بعلامته المرعبة قبل أن أتمكن من البدء في مشروع كراهيته، يعزّيني أن وهج الشمس مازال على خدي يحميني من دكتاتورية النجوم التي انفضحت أمام الجميع .
يكفيني قليل من الترميشات أثناء مشيي كي أستعيد عافيتي و كي أحلم ،أعترف أنني لا أملك العناد اللازم ،و لكن عندي الالتزام باقتفاء آثار البرق على الأرض القاحلة ، فالبرق لا يحرق مكانا إلا إذا رأى فيه لمعان السراب ، و حيث ينتعش السراب ملتهبا تجدني هناك دائما ، أوصيت أن يحفر لي قبر في وسادة من صوفه ، هذا إذا مت طبعا ، أما إذا لم أمت ـ و هو يقيني ـ فإنني أقنع بالتدثر في قطرات الندى ، إلى أن أحيا أطول من عمري ، لا لأغيظهم ـ و هو وارد ـ و لكن لأكون أنا ،الانتظار إستراتجيتي الدائمة ، وتبا لأولئك الذين يحترمونني بعيون غيرهم ، كم مرة أردت أن أستلّ من الجريمة سلك التبرير الذي يركّز من مرارتها ،لكنني أبوء بالفشل ..
بعدما قصدني الموت عدة مرات ، ووجدني غير مستعد لاستقباله ، ملّ مني ، و قرر أن ينتظر زيارتي ، أتوقع أنني حينما آتيه سيعتقد أنه أمام مرآة ، أخشى أن يهملني و يتركني أعبر الضفة دون مراسم رسمية ..
محظوظ من لم يذق علقم الاحتضار إلا مرة واحدة في حياته .. و محظوظ من تاه مرة واحدة في فنجان عينيه ، و محظوظ أكثر من ذاق طعم الحياة مرة واحدة ! كم مرة هربت من اللصوص ، و لجأت إلى من علّمهم هذا الفن ! نعم لجأت إلى قوقعتي الذهبية المرصعة ببريق الأنا المقدسة حدّ التأليه ،و مع ذلك تراني أكثر البكاء مع الباكين ، الباعث في كل الأحوال واحد ، هو فتح الطريق أمام النهر العتيق ليندفع ، و يهدم السدود الخرافية التي تغطي كامل أجسادنا بحجارة نعتقد أن لها قرابة بالحجر الأسود ، و الحقيقة أنها كلها بيضاء ، بل و موغلة في البياض ، أقترح أن نجعلها حائط مبكانا الرسمي في مواسم الحنين الجافة .
لقد قضيت حياتي كلها في سفر ، و لكن منفصلا عن القافلة ، لأنني لا أثق في الدليل ،لا أريد أن يكون دليلي أحد مكونات قلبي الممزوج الولاء قبل الامتحان ، إنه يسمع أنّ هناك صوتا أنثويا قادما من بعيد ، لكنّه لم يصل بعد ، تراها هي ؟ غير مستبعد ،فالصورة أسرع من الصوت ، لكن الانتظار طال ، ولم ينكشف شيء ..ما قيمة السعادة منزوعة من الانتظار و الترقب ؟
ها هو الليل يتراجع قليلا ليزحف من جديد على الكائن المنتمي لي جغرافيا المتواضع داخل قفصي ، الذي لم يطلب المبارزة مع هذه الهلاميات العشوائية و الغوغائية التي لا تميز بين مثقف و سوقي .. لا تترج أمامها و لا تتوسل فلن تستمع إليك ، املأ فراغك فقط بما شئت و ستنصرف عنك ، هيا ارتجل ثلاثيات العشق المتبخر على سبيل المثال، و استحضر صورة تلك الكائنة المعذبة قبل المبارزة ، و سينهزمون ، لست محتاجا إلى تفاصيل دقيقة لفعل ذلك ، يكفيك أن تستحضر هيئة وجهها و شيئا يسيرا من لونها الذي ظللت تكتمه مدة قياسية عن الأقربين ..انتهت المباراة و لم يصبح لونها أو وجهها أو حتى اسمها ـ إن كنت ما زلت تتذكره ـ مجديا ..اخرج من وهمك ، كيف تودع الحياة و أنت تخشى من نظرة أحفاد أحفادك إليك ؟ ! عليك أن تطمئن ، فالتاريخ يتعاطف مع النزوات أكثر من اللزوم ، و أكثر من صواب العظماء ..
ما زال الغجر داخلك يؤدون وظيفتهم المعتادة بانتظام ، يحترمون مكانتك بين الناس ، و لا يبدون دبكتهم إلا أوقات الخلوات و أوقات السفر ، لذلك ليس بإمكانك أن تُقيلهم من مهامهم ، الغجريات على وجه الخصوص ملتزمات بالنظام أكثر من الذكور ، إحداهن ـ و ربما كانت أقلهن حنكة ـ تبرز لك من حين إلى آخر برقصة صوفية ثم تتبخر قبل أن تشبع من دوراتها الأسطورية بنكهة هوميروس ، وكأنك ما زلت تحتفظ بتذكرة آخر زيارة لمتحف روماني ،تحس بجسدك أكثر بعد كل عاصفة داخل بهوه ..
ما زال الليل يصارع كائنك العجيب ، لست أنت ـ كما تعرفك و كما يعرفك الناس ـ و إنما هو كائن تحمل منه أشياء و تخالف أشياء أخرى، احتمال كبير أنك التحمت به في إحدى الصَّرعات النهارية المنهي عنها ، لا تحدثهم عنه ، و إلا اتهموك بالصعلكة أو حتى بالزندقة ، الصراع على أشده ، هو ذا فعلا الليل كما عهدته ؛أعراس و أفراح و أنوار، ثم ماذا ؟ ثم زغاريد قادمة من بعيد ، أثر رجعي لنشوات لم تكتمل ، إنها زغاريد غير قابلة للتعليب ، و لإعادة التصنيع ، تأتيك على مزاجها، حياتها الافتراضية قصيرة جدا ، لذلك هي ثمينة ، أثمن من صاحبة العرس ذاتها ..
هل ما زلت تتذكر ليلة أغضبتك ؟ لقد خرجت هائما على وجهك ، مررت بتلك الدار المهجورة ، و رأيتهن يتجولن بثياب شفافة و لكن طاهرة و في غاية الستر ، يبتسمن صامتات في وجهك ، ثم استفقت ، و علمت أن المكان ملغم بالأرواح ، اقشعر بدنك ، و أسرعت تلاحقك نفس الزغاريد المشهّية، في النهار رجعت لتتفاجأ أن المنزل مغلق من جميع الجهات ، و أن ما رأيته يجب أن تصنفه في الخانة التي ترتضيها لتكمل حياتك مثل بقية الناس ..لماذا يصر الليل على أن يذكرك بمثل هذه الذكريات المفزعة ؟ أليس عنده البديل ؟ لا تكترث كثير بالإجابة ، و اهتم فقط بمقاومته ..
الليالي ليست توائم ، فكل ليل و جيناته و طباعه و مراوغاته ، ليل اليوم بالذات مزدحم بالخيالات الماكرة التي تحترف الرحمة وسيلة لجس النبض ، لا مناص لك من المواجهة إلى آخر قطرة من قساوتك و تحجّرك ، أرها منك ما تكره ، لتتراجع ، فطينتُها مزيج من الإنس الجن و الأنثى و أشياء من رماد ..
ليلك وحده يبحر حيث يشاء ، لا تخش فلن يصطدم بليل آخر ، و لن تلتقي بها أبدا ، فربما تكون قد سبق لك و أن رأيتها في إحدى القارات فلم تعرفك و لم تعرفها ، لم يعد يومك يكترث بليلك ، و لو رأيتها لأجّلت الاهتمام بها فيما بعد المغرب ، حينما تغتمض عين الزمن عن المنغصات و المشوشات ، و ستمهلها قليلا إلى غاية استجلاب زغاريد الشواظ ، لتدخل على رفيقاتها تتمايل زهوا باللقاء الذي كان مستحيلا ..أرجو أن يكون ذلك بعيدا عن غبار الركام الممقوت ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق