بقلم:الدكتور محمد سيف الإسلام بوفـلاقــــة
يرى عدد كبير من المتخصصين في مجال
الثقافة والحضارة أن هناك جملة من المغالطات التي تقع بين المفهومين، فهناك الكثير من الدارسين الذين يخلطون بين
مفهوم الثقافة ومفهوم الحضارة،حيث يذكر في هذا الصدد الباحث سيد غدريس هاني أن
الحضارات هي هويات ثقافية في التقليد الأنثروبولوجي الأمريكي،وهم نادراً ما
يُفرقون بين الثقافة والحضارة،وقد اعتادوا في الترجمات ذات الأصول الأمريكية أن
يترجموا الثقافة بالحضارة،والحضارة واحدة والثقافات متعددة،ففي«عصر ثورة
الاتصالات هناك حضارة واحدة،في الماضي سمعنا عن وجود حضارات،وهذا إنما يرجع إلى
أزمة التواصل ومشكلة العزلة،إن الحضارة ليست هي مطلق الحضور،كما ينحو الجميع،فمالك
بن نبي مثلاً وهو الرأي التقليدي السائد، بالنسبة إليه الحضارة هي أخص من
الحضور،إنها حضور أمثل وأقوى،والحضارة هي القوة،والثقافة هي أمر ملازم لكل أشكال
الحضور،الثقافة هي إفراز وجودي لكل الكيانات الاجتماعية،لكن الثقافة ليست بالضرورة
حضارية،فالثقافة تمثل من الحضارة مرحلة القوة،والحضارة تمثل من الثقافة مرحلة
الفعل،والحضارة أخص من الثقافة،فالقوة واجبة في حق الحضارة،ممكنة في حق الثقافة،ما يعني أن كل ثقافة تملك إمكانية التحضر،ولا يجب لها
التحضر حتى تصبح قادرة على إنتاج القوة»)1(.
ولابد من وضع مفاهيم دقيقة لكل من الحضارة
والثقافة،ذلك أن الاهتمام بالعلاقة بين الحضارات تمثل تجسيداً واضحاً لبروز
الاهتمام أو تجدده وانبعاثه وإحيائه بالبعد الثقافي الحضاري،وذلك باعتباره مجالاً
تتجسد على صعيده صراعات جديدة للقوى،ويتم على صعيده اختبار توازنات القوى.
إن مصطلح المثقف يحمل جملة من
الدلالات ،وبالإمكان تقديم مفاهيم جمة، تندرج في إطاره،فبمفهومه الواسع:هو الشخص
المستوعب، والمدرك لثقافة مجتمعه، وله مقدرة على تحليلها، وتفكيك بُناها، وله قدرة
على تعميق إيجابياتها، وهو أكثر الناس صلة بالمعرفة، وإذا أردنا تقديم مفهوم محدد:
فهو ذلك الشخص المشتغل بالثقافة،على أساس أنها نشاط من النشاطات الإبداعية
والفنية، كما أنه يمارس أعمالاً ذهنية تلعب دوراً في ترسيخ الوقائع القائمة.
وعندما
نتبصر في بعض المفاهيم التي وضعها طائفة من المفكرين،فإننا نخرج برؤى متباينة،
فالمثقف كما رآه إدوارد سعيد:« هو ذلك الشخص الموهوب، والذي يملك المقدرة الشخصية
على تمثيل، وتجسيد هموم شعبه، وتوصيل رسالته، ورؤيته، وموقفه، وأفكاره، وآرائه
للناس، ومن أجل الناس، مع ما يصاحب هذا الدور من محاذير».
وفي نظر
أنطونيو غرامشي:«كل الناس مثقفون،لكن ليس لهم كلهم مقدرة على تأدية وظيفة المثقفين
في المجتمع»،وقد انصرف غرامشي إلى مفهوم المثقف العضوي الذي يؤدي وظيفة محددة في
المجتمع،كما أنه منخرط في خدمة مصالح طبقة اجتماعية،أو ثقافية،أو اقتصادية، وغيرها
من شتى المجالات.
وأما جوليان
بيندا فقد تمثل أهل الثقافة على أنهم«عصبة صغيرة من الملوك الفلاسفة الذين يتحلون
بموهبة استثنائية، وبحسٍ أخلاقي فذ، ويشكلون ضمير البشرية،فهم من أمثال: يسوع
المسيح، وسقراط، وسبينوزا، وفولتير، ونيتشه، وارنست رينان، كما أنهم يُعرِضون
أنفسهم لمخاطر النبذ، والملاحقة، والمحاكمة، وكما رأى فهم فئة قليلة».
ويذهب جان بول سارتر إلى أن المثقف«ذلك الكائن
الشاهد على عصره، والمتمثل لضمير الجماعة، وهو الذي يتدخل فيما لا يعنيه،وأشار إلى
أن المثقفين ينقسمون إلى قسمين: المثقف الحقيقي، والمثقف المزيف،فالحقيقي هو من
يقول(لا)، والمزيف هو الذي يقول(لا ولكن)».
وبتأملنا في فكرنا العربي المعاصر، يمكن أن
نستشف أن الرؤى الفكرية العميقة لشخصية المثقف، بدأت تتبلور، وتظهر بشكل جليٍ منذ
عقد التسعينيات،حيث برز عدد من المفكرين حاولوا التعمق في ماهية المثقف، ورصد شتى دلالاته، وتتبع أدواره،كما
سعوا بجدية إلى التأصيل لها، ومن أهم المفكرين العرب الذين تعمقوا في هذا الميدان،
نذكر: الدكتور محمد عابد الجابري، في كتابه:« المثقفون في الحضارة العربية»،وإدوارد
سعيد-الذي أوردنا تعريفه سلفاً-في كتابه المتميز«صور المثقف»، وعلي حرب في كتاب:«أوهام
النخبة»، وعلي أومليل في دراسته:«السلطة السياسية والسلطة الثقافية»،وسواهم من كبار
المفكرين المعاصرين،أمثال:عبد الإله بلقزيز، ومحمد أركون، وجورج طرابيشي، وفهمي
جذعان...
فالثقافة
من » الثَّقْفِ «، الذي له عشرة معانٍ في لغة العرب، حسبما هو مدّون في القواميس
والمعاجم الموثوق بها عند علماء اللغة(2) ، وسنورد أهم هذه المعاني.
المعنى الأول :
تسوية الشيء، وتقويم اعوجاجه، تقول : ثقفتَ الرُّمح، أو القوس أو أي شيء معوج، إذا
قوّمتَه، وسويته من اعوجاجه، فيغدو مثقّفًا مُقوّمًا، وعلى هذا الأساس استعيرت
لفظة » مثقف « إلى كُلّ ما هو مستقيمٌ صَلْبٌ(3)...
المعنى
الثاني : الحِذْقُ والمهارة في إتقان الشيء، قال ابن منظور : »
ثقف الشيء ثقفًا، وثقافًا، وثقوفه، حذقه، ورجلٌ ثَقْفٌ، وثقِفٌ، وثقَفٌ، وثَقِفَ
الرّجلُ ثقافة، أي : صار حاذقا فطنا، فهو ثَقِفٌ، وثُقُفٌ، مثل : حَذِرَ، وحَذُر...
«(4). وقد ورد هذا المعنى نفسه في بعض عبارات المتقدّمين، مثل : عبارة أبي حيان
التوحيدي في » المقابسات «(5)، وعبارة ابن خلدون في »
المقدمة «(6)...
المعنى
الثالث : إنَّ الثقافة في أدنى مستوياتها هي مجموع الاستجابات والمواقف التي يواجه
بها شعب من الشعوب – بحسب عبقريته – ضرورات وجوده الطبيعي من مأكل وملبس وتناسل،
أمَّا على المستوى الأرفع فإنَّ للثقافة أوجهًا ثلاثة هي :
-تنمية الفكر وترقية الحس
النقدي.
-تكوين الحس الجمالي وإرهاف الذوق.
-الاستمساك بالقيم
وغرس الحس الأخلاقي(7).
أما الحضارة : - عند اللغويين - » خلاف البداوة «، وهي عند ابن خلدون : » تفنُّن في التّرف وإحكام الصنائع «. أمَّا في نظر الدكتور محمد بن عبد الكريم، فهي : » ظاهرة اجتماعية، تتبلور في نظم محكمة، وآثار ماثلة «. فقولنا : » ظاهرة اجتماعية «، احترازا من الظاهرة الفردية التي مبعثها الثقافة. ونعني بـ » النظم المحكمة « كل ما يقتضيه النظام والإحكام في تسيير شؤون الإنسان المتحضر : مثل : النظم السياسية، والاقتصادية، والإدارية والقضائية، والحربية، والثقافية، والزراعية، والتجارية، والأسرية، وهلمَّ جرًّا... ونعني بـ » الآثار الماثلة « فن العمارة بجميع أنواعها : مثل : تخطيط المُدن، وتمصير الأمصار، وتشييد البنيان، ثم النحت، والرسم، والتصوير، والزخرفة، وجميع الفنون الجميلة(8).
وهناك فرق بين » الثقافة « وبين » الحضارة « من عدة وجوه.
أولاً : إذا كان مفهوم
الثقافة ينزع إلى الخصوصية، فإنَّ الحضارة تنزع إلى العمومية، فالثقافة هي الحضارة
الخاصة بأمة من الأمم، لا يشاركها في شأنها أحدٌ، تحمل صيغة هذه الأمة، وتتّسم
بسماتها، ووراء كل حضارة دينٌ، وقد تصبُّ عدة ثقافات في نهر حضارة واحدة. فالثقافة
العربية التي ننتمي إليها هي في أدنى مستوياتها مجموع تقاليدنا وعاداتنا، أمَّا
على مستواها الأعلى فهي النهج الذي نهجه الغزالي في الجانب الروحي، وابن رشد في
الجانب الفكري، وابن حزم في الجانب الأخلاقي، وابن خلدون في الجانب الاجتماعي،
ونشكل – نحن العرب – بثقافتنا مع ثقافات أخرى – الفارسية والتركية – نشكل الحضارة
الإسلامية التي ساهمنا جميعا في إنشائها وإثرائها(9).
ثانياً : أنَّ الثقافة
تصور وإرادة، وأنَّ الحضارة أثر ونتيجة لهما.
ثالثاً : أنَّ الثقافة وصف
عـام للفرد والأمة، وأنَّ الحضارة وصف خـاص بالأمة، أي : مثلها مثل »
العلم «. يقـال : »
حضارة الأمة الفلانية «، ولا يقـال : »
حضارة الشخص الفلاني «، بخـلاف »
الثقافة «، فتصدق على الشخص والأمة.
رابعاً : أنَّ الحضارة
تتجسم في النظم السياسية، وفي العلوم، والصنائع، والاختراعات على وجه العموم،
وأنَّ الثقافة تتمثل في اللغات، والآداب، والتواريخ، والفلسفات، وجميع العلوم
الإنسانية، أي : إنَّ الثقافة تقدّمٌ من الوجهة الخُلُقية والفكرية، والحضارة
تقدّمٌ من الوجهة الاجتماعية على وجه العموم.
خامساً : كل أمّة مثقفة يصدق عليها أن تكون متحضرة، وليس العكس،لأن هناك الكثير من
الآثار الحضارية القديمة التي مازالت قائمة ومرئية حتى الآن، بَيْدَ أنّ إيجادها
لم يكن بدافع ثقافي : مثل أهرام مصر، ومختلف الأسلحة المحفوظة في المتاحف الدولية،
فتلك شُيّدت بدافع وهمي – على أحد الأقوال في سبب بنائها(10)- وهذه
صُنعت من أجل الدفاع عن النفس تارة، وسفك الدماء بها تارة أخرى. وما قيل في ذلك
يقال في القنابل الذرية والأسلحة الفتاكة، المصنوعة في العصر الحاضر، فإنَّ صنعها
لم يكن بدافع ثقافي، وإنَّما كان بدافع الترهيب، وحُبّ التسلط على البشرية، وسفك
دمائهم، وهذا منافٍ للثقافة، التي تهدِفُ إلى تهذيب الأخلاق، وتقويم السلوك، وحب الخير،
وإصلاح المجتمعات. وعلى هذا الاعتبار فالثقافة أعلى من الحضارة، وأرقى منها في سلم
الحياة. وهي، على وجه العموم، روحية في الجوهر... أمَّا الحضارة فمادية في جوهرها
ومحسوسة، والثقافة سابقة على الحضارة في الوجود... وليس في الإمكان ضبط الحد
الفاصل بين الثـقافة والحـضارة بوجه دقيق(11).
ويرى بعض الدارسين أن مفهوم الحضارة لم يلق إجماعاً على دلالته بين مختلف
الحضارات الإنسانية التي عرفها التاريخ،على الرغم من اشتراك هذه الحضارات في
الكثير من القيم الإنسانية التي تشكل جوهرها،فمن يرغب في المضي في مسار حوار
الحضارات عليه أن يتفق على حدود دنيا لمفهوم(الحضارات
الإنسانية)،ولتصنيفاتها التي تتفاوت نظراً لاختلاف المعايير، وهناك«أمر آخر،وهو
أننا ننسب الحضارات الإنسانية في محاولتنا تصنيفها إلى القارة حيناً(فنقول الحضارة
الغربية)،وإلى اللغة أو الأمة حيناً ثالثاً(فنقول الحضارة العربية،أو الحضارة
الصينية،أو الحضارة اليابانية)،وإلى العقيدة حيناً رابعاً(فنقول الحضارة
الإسلامية)،وإلى الإقليم أو النهر أو الوادي خامساً(فنقول حضارة بلاد
الرافدين)وإلى العصر سادساً(فنقول الحضارات القديمة،أو الحضارة الحديثة)،وإلى غير
ذلك مما يقع المرء عليه في قراءاته لتاريخ الحضارات الإنسانية،ولكننا نادراً ما
نسأل أنفسنا هل ثمة حضارة صرف نقية لا
تشوبها شائبة من حضارة أو حضارات أخرى؟ونمضي أحياناً في نزعة التمركز حول الذات
فنتحدث عن(عبقرية الحضارة)التي نتماهى معها،وننتسب إليها،أو نرغب في الانتساب
إليها»)12(.
الهوامش:
(1)أحمد مسجد جامعي:كلمة افتتاحية لكتاب محاضرات في حوار الحضارات ،منشورات
المستشارية الثقافية للجمهورية الإسلامية الإيرانية بدمشق،1421هـ/2001م،ص:9.
(2)انظر : د.محمد بن عبد الكريم الجزائري
: الثقافة ومآسي رجالها، شركة الشهاب للنشر والتوزيع، الجزائر (د.ت)، ص : 9 وما
بعدها.
(3) د.محمد بن الكريم : المرجع نفسه،
ص : 10.
(4)ابن منظور : لسان العرب، مادة : ثقف.
(5)أبو حيان التوحيدي : المقابسات، ص : 375، مطبعة الرحمانية، القاهرة، 1929 م.
(6) ابن خلدون : المقدمة، ص : 448، مكتبة المدرسة ودار الكتاب اللبناني،
بيروت، 1967 م.
(7) د.أحمد طالب الإبراهيمي : المرجع السابق، ص : 116.
(8) د.محمد بن عبد الكريم : المرجع السابق، ص : 38.
(9) د.أحمد طالب الإبراهيمي : المرجع السابق، ص : 116.
(10) اُنظر ما جاء في سبب بناء الأهرام كتاب : » حسن المحاضرة، في تاريخ مصر
والقاهرة « لمؤلفه
جلال الدين عبد الرحمن السيوطي (الجزء الأول).
(11) اسقينا معظم هذه المعلومات المتعلقة بالفرق بين الثقافة والحضارة من كتاب » الثقافة ومآسي رجالها « للدكتور محمد بن عبد الكريم، ص : 38 – 39.
(12)د.عبد النبي اصطيف:حوار
الحضارات في عصر العولمة،بحث منشور في كتاب محاضرات في حوار الحضارات،ج:01،ص:323
وما بعدها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق