الـوئـام و المـصالحة
هذه القصّة موّجهة لفئة الشبّاب الجزائريين ، الغيورين على وطنهم،
المحبّين له.
بقلم : وهيــبة سقــاي
كاتبة و مترجمة
(قسنطينة / الجزائر )
مرّت الجزائر بحقبة من الحرب الأهلية سميت بالعشرية السوداء .و هي فترة صراع مسلح قام بين النظام الجزائري و
فصائل متعددة، تتبنى أفكار موالية لـلجماعات الإسلامية المتّطرفة. بدأ الصراع عقب إلغاء نتائج الانتخابات البرلمانية، والتي
حققت فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ فوزا
مؤكدا، مما حدا بالجيش الجزائري التدخل لإلغائها، مخافة من أن تعّم الفوضى
في أنحاء البلاد، و يتزعزع الأمن الداخلي.
وتدّخل الجيش للسيطرة على البلاد، وتّم حظر الجبهة الإسلامية
،واعتقل الآلاف من أعضائها. فشنت هذه
الأخيرة حملة انتقامية مسلحة ضد الحكومة
ومؤيديها، وقامت بتنظيم جماعات مسلحة
اتخذت من الجبال مخابئ لها ،شنّت عقبها
سلسلة من الهجمات المسّلحة تستهدف الأحياء و القرى بأكملها، وارتكبت مجازر
رهيبة ضّد السكّان العزّل ،و عناصر الأمن من الجيش الوطني الشّعبي، و الدرك، و الشرطة .
ارتفع عدد الضحايا من الجانبين ، و قُرِّرا أخيراً وقف إطلاق
الناّر ،و إجراء انتخابات للموافقة ،
أو رفض قانون " السّلم و المصالحة الوطنية".
فازت الانتخابات بأغلبية " نــــعـــم" ،و تمّ انتخاب
رئيس جديد للبلاد، وبدأ عدد كبير من المقاتلين في الانسحاب من صفوف المرتزقة ،و
تسليم أنفسهم لسلطات الأمن ، والاستفادة من قانون العفو الجديد، وبدأت الجماعات
تتقلّص، وتختفي تدريجيا مع توقف لعمليات القتال، و عّم أخيرا السلاّم بعد عشر
سنوات، وقع خلالها ضحايا كثيرون، و
أسفكت دماء أبرياء لا عّد لهم و لا حصر.
في يوم من أيّام آب /أغسطس الشّديدة
الحّر ،و عند باب وزارة الدّفاع الجزائرية، تقّدمت امرأة طاعنة في السّن ، و
طلبت مقابلة قائد الأركان العسكري، أو ما يُعرفُ
بنائب وزير الدّفاع عند الكثيرين.
اندهش الحرّاس لطلبها و ظّنوا أنّها مجنونة تهذي
بما لا تعيه ، و راحوا يقنعونها بالعدول عن فكرتها بكّل لطف، تقديرا لسّنها و لحالتها النّفسية.
أصرّت المرأة العجوز على طلبها ،و رفضت
التزحزح من مكانها ، و صمّمت على الدخول إلى مقّر الوزارة و مقابلة المسئول
السّامي ،و عرض مسألتها عليه شخصياً .
حاول الحرّاس مرارا و تكراراً ردعها عن
ما تنوي القيام به ،و شرحوا لها أنّه من سابع المستحيلات أن تنال مبتغاها ، فصاحت
فيهم بأعلى صوتها ،و صبّت عليهم وابلا من الشتائم و الإهانات،فثارت ثورة أحدهم
،فامسك بها من ذراعها و سحبها إلى غاية
خارج فناء الوزارة ،و هدّد بحبسها إن هي
رفضت العودة من حيث أتت .
و كان احد رجال الأمن يشاهد ما يجري من
مشادّات كلامية بين الحرّاس و العجوز
،فأسرع إليهم ، و صاح في وجه الحارس الذّي سحب العجوز خارج حرم الوزارة،
بنبرة فيها كثير من الغضب قائلا :
ــ أبهذه الطريقة تعامل امرأة في سّن
والدتك يا هذا؟ ألم يعّلمك أهلك كيف تعامل كبار السّن ؟ كيف سوّلت لك نفسك أن
تسحبها ،و تعاملها بهذا العنف ؟ أَمنعدمُ الإنسانية أنت ؟ أليس في قلبك قليل من
الشفقة و الرّحمة ؟.
ارتعب الحارس من كلام ضابط الأمن ،فسكت
برهة ثّم قال :
ــ و لكن يا سيّدي إنّ هذه العجوز قامت
بإثارة فوضى و ضّجة أمام الوزارة، و بالرّغم نصحنا لها بالعدول عن ما تريده، فهي
لم تستسلم للأوامر بمغادرة المكان، و صبّت
جّم غضبها علينا، و همّت بضربنا، فما كان
بوسعنا سوى كبح جماح ثورتها و كّف أذاها عنّا، و هذه كلّها أوامر من أعلى ،إذ أنّه
وكما تعلمون ممنوع مقابلة أيّ مسئول عسكري من غير موعد سابق، أو من غير سبب
هّام يستوجب فعلا هذه المقابلة .
ــ أعلم كّل هذا ، و كّل ما ذكرته لا
يبرّر تعاملكم معها بهذه الشّدة و العنف، رّد عليه ضابط الأمن ، و هو لا يزال غاضباً من ما حصل.
التفت الضابط إلى العجوز مخاطباً
إيّاها بصوت ملؤه الحنان و الأدب :
ــ معذرة يا خالة عن ما أصابك من سوء
معاملة ،اقبلي اعتذاري بالنيابة عن الجميع ،ثّم انحنى قليلا، و أخد رأس العجوز بين
يديها و قبّلها بكّل تواضع و انكسار، ثمّ أمر لها بقنينة من الماء البارد، و كأس عصير، قدّمهما لها أحد الحرّاس على
الفور، على صينية بلاستيكية صغيرة بيضاء.
تناولت العجوز الماء و العصير ،إذ كانت
في أمّس الحّاجة إليهما، في ذاك الحّر الشّديد تحت تلك الشّمس الحارقة، التّي تذيب
الفولاذ. و بعد إن ارتوت ،التفتت إلى ضابط الأمن و قالت :
ــ بارك الّله فيك يا بنّي ،و شكرا
على لطفك و صنيعك معي !
الّله يرحم البطن التّي حملتك تسعة أشهر، و بارك الّله في الأم التّي
عرفت كيف ترّبي و تنشأ رجلا بأتّم معنى
الكلمة، الّله يكّثر من أمثالك و يبارك في شبابك . أصيل و الّله !.
ابتسم الضّابط لمدحها إيّاه، و رّد
عليها :
ــ لم أقم إلاّ بالواجب معك يا خالة، و
مادمت قد نلتُ رضاك فأنا لي طلب عندك، أرجو أن تلبّيه لي إن كنت فعلا تعتبرينني
مثل ابنك. عودي إلى بيتك الآن فلا جدوى من انتظارك في هذا الحّر، و أنا أعدك أنني سأساعدك على
مقابلة قائد الأركان أوّل يوم من الأسبوع القادم صباحا، و ...
ـــ و لكن أريد مقابلته اليوم من اجل
أن أعرض عليه قضيتي ، فأنا امرأة كبيرة في السّن لا أضمن أن أعيش لغاية الأسبوع
المقبل، يمكن لي أن أحدّثك عن قضيتي لكي تقدّر بنفسك بالغ أهميتها ،ردّت عليه العجوز مقاطعة إيّاه.
ــ يا خالة أعدك بان أدعك تقابلينه
الأسبوع القادم صباحاً، أرجوك صدّقيني فأنا عند وعدي ،و لا أريد منك أن تفصحي لي عن موضوع مقابلته لك ،لأن الأمر لا
يعنيني. هيّا عودي إلى بيتك، و أوقف الضّابط الشّاب سيّارة أجرة كانت مّارة، و أمر
السّائق بأن يوصل السيّدة العجوز إلى العنوان الذّي سترشده إليه، و دفع تكلفة أجرة
التوصيلة.
ركبت هذه الأخيرة السيّارة، و نظرت إلى
الضّابط بنظرات تنّم عن كثير من الاعتراف بالفضل و
الامتنان، و رفعت يدها اليمنى و حيّته بكّل أدب، و كأنها لم تعد تجد الكلمات المناسبة للتعبير عن شكرها له،
و ما أن هّم السائق بالانطلاق صوب وجهته حتّى نادته :
ــ
أوقف السيّارة من فضلك.
ثّم نظرت من نافذة التاكسي ناحية
الضّابط الذّي كان يراقب ذهابها و قالت :
ــــ يا ابني ، لم تقل لي ما اسمك ؟
ــ اسمي "النّقيب إسماعيل محمود"
يا خالة، هي انطلقي إلى بيتك، في أمان الّله.
بعد يومين، مع بداية الأسبوع، جاءت
السيّدة المسّنة إلى مقّر الوزارة و طلبت مقابلة نائب وزير الدّفاع، و كان
"النّقيب إسماعيل محمود" عند
وعده، فأدخلها الوزارة و اصطحبها بنفسه إلى غاية مكتب قائد الأركان.
استأذنا هما الاثنان، و دخلا المكتب،
كانت السيّدة العجوز تقف بجانبه، حينها تقّدم "النقيب" فحيّ القائد التحيّة العسكرية، و قال بلهجة
فيها احترام كبير :
ــــ تحيّاتي سيّدي ، عساكم بألف بخير ؟
كان قائد الأركان رجل في أواخر
الخمسينات من عمره ، قد لوّن الشيب أصداغه بالّلون الرّمادي ، و كان
يظهر من جلسته أنّه طويل القامة ،كامل الجسم ، قد زادته البذلة
العسكرية الزيتية الّلون المرّصعة
بالأوسمة ، هيبة و حضورا.
كان يجلس على مكتب من الخشب الأبنوس الفاخر، على يمينه الرّاية الجزائرية، و من
خلفه قد عُّلّقت صورة كبيرة للرئيس الجزائري، قد وضعت في إطار ذهبي أنيق.
رفع رأسه من على الملّف الّذي كان
يدرسه، نظر إلى النّقيب "إسماعيل" و إلى مرافقته، حيّاه بالمثل، و أذن لكليهما
بالجلوس، ثّم خاطبه قائلا :
ـــ نعم، ما وراءك ؟ لم أعهدك تزور
مكتبي في هذا الوقت المبّكر من الصّباح ،من هذه السيّدة التّي برفقتك ، ما
الموضوع؟
اعتدل النقيب "إسماعيل
محمود" في جلسته، و قال :
ــ سيّدي ،هذه السيّدة جاءت عدّة مرّات إلى مقّر الوزارة و
كانت تُبدي الرّغبة في مقابلتك ،من أجل موضوع خّاص لم تشأ الإفصاح عنه لغيرك. لقد
حاول الحرّاس ردّها مراراً، و لكّنها قاومتهم بشّدة، و لم تُثنها شّدة معاملتهم لها، في الإصرار
على طلبها.
نظر قائد الأركان إلى العجوز لبرهة من
الزمن ثمّ قال :
ـــ أهلا يا خالة ،ما سبب تشريفك
لمكتبي،و ماذا تأمرينني أن افعله لك ؟
نظرت إليه العجوز، و أجهشت
بالبكاء :
ــ لماذا تتعمدون إحراق قلبي أكثر من
ما حُرق؟ أليس لكم أبناء ؟أريد منكم أن تنصفوني،و أن تأخذوا لي بثأري....أرجوكم
برّدوا النّار المتأججّة بصدري ،النّار التّي أضرمها مجرمون سفلة، و جعلوا من
ضلوعي حطبها ،من فضلكم...
و قاطعتها عبراتها ثانية، فلم تقوى على
مواصلة حديثها، و راحت تذرف الدّموع تلو الأخرى.نظر القائد إلى النّقيب ثّم إلى
العجوز بدهشة بالغة، و بحيرة تنّم عن عدم فهم لما يدور حوله، و لا لما تقوله هذه
العجوز، الّتي داهمت مكتبه من غير سابق إنذار.
ــ يا خالة، ليس من مهمّتي الثأر
للمواطنين، أنتِ في مقّر وزارة الدّفاع، أي في بيت الجيش الشعبي الوطني، الذّي هو
مخّول للدّفاع عن الوطن و الشعب و الذود عن مصالحه، ليس الانتقام له، نحن لسنا في
غابة ،بل في دولة متحّضرة يحكمها القانون المدني و القصاص الشرعي....
هبّت العجوز من مجلسها مقاطعة
كلامه :
ــ هل تعارضوا أمر الّله عّز و جّل
،الذّي أمر بالقصاص قائلا في محكم تنزيله "و لكم في القصاص حياة يا أولي
الألباب لعّلكم تتّقون"؟ هل تأخذون من الشريعة الإسلامية ما يناسبكم ،و
تتركون ما لا يساير مصالحكم الخّاصة؟ أريد ثأري، أريد أن أعامل من
ظلمني بالمثل ، و إلاّ جعلتُ
عاليها سافلها، لا تستهينوا بسنّي و بضعفي، فأنا...
ثار قائد الأركان ، فهّب واقفا، ثّم
ضرب بيده بعنف على مكتبه، و صاح بملء صوته :
ــ
أَبلغت بك الجرأة يا نقيب" إسماعيل" أن تُدخل علّي عجوزاً ليست
في أتمّ قوّاها العقلية، تهينُ السلطة و تمّرغ هيبة الوزارة و الجيش الشعبي الوطني،
ثمرة الثورة التحريرية المظّفرة،في الوحل؟!.
ما هذه المهزلة التّي تحصل أمامي؟ ثّم
أنتقم لمن ضّد من، ما هذا الهراء ؟هل نحن غابة
يحكمها قانون الحيوانات الأقوى، أم ماذا ؟!.
اصفّر وجه النقيب "إسماعيل"
لما سمعه من توبيخ قائده له، و لم يعد قادراً على إيجاد الكلمات التّي تسمح له
بتبرير موقفه، نظر للعجوز بنظرات كلّها عتاب، و كأنّه يقول لها " ما كان لكِ
أن تحرجيني بهذا الشّكل "، ابتلع ريقه ثمّ قال :
ــ سيّدي، لم أكن أتوقع من هذه السيّدة
هذا التصّرف،رجاءاً أعذرها، أكيد أن في جعبتها أسباباً دفعتها للخوض في أمور
لم تعجبك، دعنا نسمعها للأخر، امنحها فرصة
ثانية، من فضلك سيّدي !.
ـــ حسنا، رّد القائد بعد أن هدأت
ثورته، هيّا قولي يا خالة ما الذّي تريدينه بالضبط ،أدخلي في الموضوع و حاولي
الاختصار، لي مهّام في غاية الأهمية تنتظرني، فوقتي ليس ملكي، و لا يمكن لي أن
أمضيه في الحوارات البيزنطية العقيمة .
مسحت السيّدة العجوز عينيها بمنديل
أخرجته من حقيبتها السوداء ،ثّم دّسته فيها ثانية، و قالت :
ــ سامحني يا ابني إن كان كلامي قد
جعلك تنفعل، فأنا امرأة عجوز لم تتعّود على مناقشة رجال في مثل منصبك العالي.
القصّة و ما فيها انّه كان لي ابنا يبلغ
من العمر خمس و عشرون سنة، الوحيد الذّي جادت به علّي الدّنيا. أفنيت عمري في
تربيته ، و تفرّغت له بكّل ما أملك من جهد و قوّة و مال، و ذلك منذ أن توّفى
والده ،و هو لا يبلغ من العمر سوى ثلاث سنوات.
ربّيته أحسن تربية و علّمته، إلى أن تحّصل على شهادة الّليسانس بتفوّق. لم
يسعفه الحّظ في الحصول على وظيفة، إذ لم تكن له واسطة تسنده، فأولاد الحرام لم
يتركوا لأولاد الحلال مجالا في ميدان فرص التوظيف، كما تعلمون.
ظّل من دون عمل لمدّة خمس سنوات كاملة
،قرّر بعدها الانضمام لسلك الأمن، و كانت الفرحة الكبرى، إذ عُيِّنَ ضابطاً في سلك
الشرطة.
كان يباشر عمله في الصّباح الباكر، قبل
خروجه من البيت يأتي إلى غرفتي يقبّل يدّي، و يقول :
ــ " أنا جّد فرح بعملي ياّ أمّاه
،فمن خلاله صارت لي أُمّان : الأم الأولى هي الجزائر الحبيبة
،و الثانية هي أنتِ يا غالية، و الّله لن أتفانى في خدمتكما ما حييت".
و بعد مرور شهرين من مزاولته لعمله، و
في يوم من الأيّام الكئيبة الّتي لا يمكنني نسيانها، غادر "عماد" كعادته
البيت متّوجها إلى عمله صباحا، تناول
فطوره، ثّم ألقى النظرة الأخيرة على هندامه، وأصلح بدلته في المرآة، ثّم وضع قبّعتّه بانسجام على رأسه، سلّم علّي
كالعادة و قال :
ـــ"أريدك أن تحّضري لي " كسكسا " بالدّجاج من يديك الجميلتين هاتين، يا غالية، سأتناوله في العشاء.
عودي إلى فراشك يا أمّاه، فالجّو بارد، و الوقت لا زال مبّكراً ".
خرج "عماد" و أغلق باب
الشّقة التّي نقطنها في الدّور الثالث من العمارة، بمفتاحه الخّاص الذّي كان دائما
بحوزته بإحكام، و عدت أنا إلى فراشي ..
و ما كدت أن أستلقي على سريري حتّى
سمعت طلقات نارية في سلّم العمارة، تبعتها
صيحات للجيران، و ضّجة كبرى أرعبتني، و جعلت فصالي ترتعد من هول ما سمعت، أعقبتها
دقّات عنيفة على الباب، و صوت جارتنا، و هي تنادي بصوت عال :
ـــــ يا "أم
عماد"،يا"أم عماد" ،..
أسرعتُ إلى الباب حافية، فتحته، شدّتني
جارتي من يدي و نزلت بي السّلم إلى غاية الدور الأوّل، حيث كان الجيران ملتّفين
حول شخص طريح الأرض. فسحوا لي الطريق و هم يضربون أخماسا بأسداس، ويردّدون
"لا حول و لا قوّة إلاّ بالّله"،"ما هذا المنكر" ،و إذا
بالشّخص ....، و إذا به .....ابني "عماد" ممدّدا على ظهره في بركة من
الدّماء .
صحتُ صيحة ،أغميَ عليَّ إثرها ، وجدت نفسي بعدها ملقاة
على سرير في المستشفى..
نعم ،لقد اغتيلَ ابني وحيدي و هو على
أهبة مباشرة عمله،لا لذنب اقترفه ،سوى أنّه شرطي يحافظ
على أمن بلده ، و يرتدي الزّي
الرّسمي لهذه المؤّسسة الأمنية .
وبعد كّل ما جرى، بعد ما ذهب
"عماد" و أمثاله ضحيّة الأيادي المجرمة، و العصابات الّتي تدّعي الإسلام
و التّدين، ها هما لحكومة والجيش الآن، يوافقان على قانون العفو، عن هؤلاء الأشرار
المرتزقة، وترّحّب بدمجهم ، بأياديهم
الملّطخة بدماء الأبرياء ،في مجتمعنا المسالم النّظيف.
إذا كانت أغلبية الشّعب قد وافقت على مثل هذه المهزلة، فأنا أعارضها و
أطلب منكم سيّدي أن تأخذوا لي بثأري من هؤلاء السفّاحين .
تبادل كّل من القائد و النقيب
"إسماعيل" النظرات ،و خيّم سكون رهيب على غرفة قائد الأركان،الذّي ما
لبث أن خرج عن صمته، نظر للسيّدة العجوز بشفقة ،و قال :
ــ يا خالة هذه ليست مأساتك لوحدك، بل
مأساة الكثير من العائلات الجزائرية اللاّتي
فقدن أبناءهن ، تقبّلي تعازّي و
مواساتي يا أم "عماد" ،و مبروك عليك يا أم الشهيد البطل. نعم أقول
الشّهيد ،شهيد الواجب الوطني، مثله مثل شهيد ثورة التحرير التّي خضناها ضّد
"فرنسا"، و شهيد غزوة "أحد"، و شهيد "6 أكتوبر 73" ،و شهيد
"الجنوب اللبناني "، كلّ هؤلاء سواء عند ربّهم، أحياء يرزقون.
فيما يخّص موضوع اعتراضك عن قانون العفو ،فهذا
الأمر يخّص وزارة الداخلية، هي التّي تصدر القوانين و تنّظم
الانتخابات. أمّا بالنّسبة للثأر، فهذا أمر هيّن ،يمكن لي أن أنجزه لك في الحين،و
أشفي غليلك !.
استبشرت السيّدة العجوز لما سمعته ،و
انتفضت من مقعدها ،و كأنّها قد أصيبت بصعقة كهربائية، أو كأنّها لم تصّدق ما سمعته من قائد
الأركان :
ــ تقول يا سيّدي القائد أنّ الأمر
هيّن، و في وسعك أن تحقّق لي مرادي في الحين؟ !.
ـــ نعم هذا ما قلته بالفعل،و سترين
الآن ذلك بأّم عينيك.
وقف القائد من مجلسه و مّد يده، و انتزع أوسمة
الرّتبة العسكرية من كلتي كتفي النقيب "إسماعيل"، ثّم و بنبرة جّادة قال :
ــ لقد جرّدتكَ من رتبتكَ، هات سلاحك و
ضعه فوق المكتب، ستُحّول إلى المحكمة العسكرية في الغد ليُفصل في شانك، إمّا
السجن، وإمّا الإعدام رمياً بالرّصاص !.
لم يُعّقب النقيب "إسماعيل"
على أوامر رئيسه، سّل مسدسه من حزامه، و
وضعه على المكتب مطأطأ رأسه، و بصوت خافت يكاد أن يُسمع :
ــ أوامرك سيّدي ..
اندهشت المرأة العجوز ،و أصابها
الذّهول من ما رأته :
ـــ سيّدي القائد لم اطلب منكم أن
تطّبقوا القصاص على شخص ابني
"إسماعيل" البريء، طيّب القلب،
بل على المجرمين الذّين غدروا ب"عماد" و قتلوه،..
ـــ و ما أدراكِ أنتِ بأنّه بريء، ردّ
عليها القائد ،إنّ له أخا إرهابياً سفك كثيرا من دماء رجال الأمن و الجنود، و رفض تسليم نفسه و الإذعان لقانون
العفو الوطني، و ما دمنا بصدد تطبيق القصاص يجب أن يُعاقبُ أخاه مكانه، و لو لم
يرتكب أيّة جنحة.
فابنك "عماد" كان بريء هو
الآخر، و لم يقترف أيّ ذنب. سيُشفى غليلك يا خالة، و سنستدعيك حينما يحين وقت تنفيذ الحكم، لتشاهدي بنفسك كيف
تُطّبقُ العدالة في الجزائر. عودي إلى بيتك الآن، و نامي مرتاحة البال، هيّا مع السلامة.
ثّم ضغط القائد على زّر و طلب
بأخذ النقيب "إسماعيل" إلى مكان
خّاص، ليحّول في الصّباح الباكر إلى النيابة العسكرية.
وقفت العجوز ، و أمسكت بالنقيب
"إسماعيل" و صاحت :
ــ لا ليس ابني "إسماعيل"
الذّي يُنّفذ فيه الحكم ،فقد أكرمني، و كان حنوناً علّي كما كان المرحوم بالضّبط،
هل تريدون أن تُحرقوا فلذة كبدي مرّة ثانية، و انهارت باكية .
وقف القائد من على مكتبه، و اقترب من السيّدة العجوز، و
أجلسها على كرسيها برفق، و قال :
ــــ هوّني عليك يا خالة،أتُراكِ الآن
قد فهمتِ القصد من تطبيق قانون العفو الوطني.
لقد اختلط بمجتمعنا و للأسف الإرهابي، مع
ضحيّة الإرهاب، مع رجل الأمن، مع الأّم
الثكلى، لدرجة أنّنا لم نعد نقوى
على التفريق بين الجاني و الضّحية، المجرم و البريء.
فوضعنا هذا القانون الذّي صوّت عليه
عّامة الشّعب بأغلبية "نــــعم"، لكي
نتفادى الخوض في مسائل الثأر و الانتقام، و نغرق مرّة أخرى في
بحر من الدّماء، و نتيه في حلقة مفرغة لا نفاذ منها.
يجب أن نتسامح مع أبنائنا الذّين
غُّرِّرَ بهم، يجب أن نتقّبلهم في مجتمعنا، و نمنح لهم فرصة أخرى، يجب أن نحاول
مرّة ثانية و ثالثة، إذ لا جدوى من شحن الضغائن و الأحقاد.
كّل ما أطلبه منك يا خالة، هو الصّبر على هذا الخطب الجلل الذّي
سيجازيك عنه الّله عّز و جّل أحسن جزاء ، وكذلك العفو، و لو أنيّ اعلم أنّ هذا
الأخير صعب عليك تحقيقه، في الوقت
الرّاهن، فجرحك لم يُشفى بعد ، و لا زال
ينزف دماً .
هيّا عودي إلى بيتك و قرّي عيناً، فدم
"عماد" لا و لن يذهب هدرا . دعي لنا عنوانك و رقم هاتفك لكي يتسّنى لنا الاتصال بك قريباً ،
لأّنّني قرّرت إدراج اسمك في قائمة الحجيج
المتوجهين إلى البقاع المقّدسة، في الموسم القادم بحول الّله.
ستتكّفل الدولة الجزائرية بدفع تكاليف
حجّكم ،أنتِ و من معك.هنيئا لكِ مسّبقا !.
صحبتك السلاّمة يا ...أمّ
الشّهيــــــــــــد !.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق