2018/04/15

الضمير السردي في خطاب المرأة في فلول وأنوف للقاصة "منة الله سامي" بقلم: رانيا مسعود



الضمير السردي في خطاب المرأة في فلول وأنوف للقاصة "منة الله سامي"
بقلم: رانيا مسعود

تتضح شخصية الكاتبة القاصة "منة الله سامي" من مجموعاتها القصصية كدارسة للعلوم في قسم الحيوان والكيمياء، وكمطلعة على الثقافات العالمية باعتبار عملها كمحررة للأخبار التي تبثها قناة النيل الدولية، و"منة الله" مواليد القاهرة عام 1983 في السادس من يونية، وعلى حداثة سنها نجدها كمثقفة تنهلُ من علومٍ شتى، وتبثها قصصها في تنوعٍ مثير، وعمقٍ فلسفي لا بد وأن يتفق مع سلسال الأحداث على أرض الواقع. خَطَتْ"منة الله سامي" خطواتها الواثقة الوئيدة إلى دنيا القصة فكانت في عام 2010 عضوًا باتحاد الكتاب وعضوًا بنادي القصة بالقاهرة.
وفي مجموعتها "فلول وأنوف" الصادرة عن المجلس الأعلى للثقافة عام 2013تبحرُ القاصة الشابة بجدٍ في بحار السرد الواسعة، وتنحِت في صخر جبال القصة بقوة اسمًا مختلفًا في مضامينه، متعمقًا في تناوله.وكسمتٍ عامٍ لقصص الكاتبة "منة الله سامي" نجدها تتسم بالدقة والتركيز والتكثيف، وعمق استخدام مساحات الوصف السردية بمفرداتها. وإذا نظرنا في مجموعتها "فلول وأنوف" نجدها منذ لوحة الغلاف عميقة الدلالة في التأثير الذي استُخدِمَتْ له عناصر الصورة من وجهين يتألف كل منهما من أنفٍ واحدةٍ بارزة وعين متسعة، وهذا الوجه الخياليّ من اختيارات اللوحات التشكيلية للفنان "بهجوري" المعروف بفن الكاريكاتير وبتشكيلاته المتفرِّدَة. وفي تفاصيل الوجه دلالة إلى مضمون اسم العمل الذي يتبلور فيما بعد في داخل المجموعة إلى نصوصها القصصية التي تقع في ستٍ وعشرين قصة قصيرة جدًا. حملت أسماء وعناوين القصص الدهشة في بعضها كـ فلول، محيط الدلافين، خيام، كهوف، زهرة أقحوانية، عن إذنك، الستارة الداكنة، النورس، 4000 م، وأخيرًا مكوك.بينما حملت العناوين الأخرى صفة التقليدية التي تُحيلك فيما بعد قراءتها إلى التعمق في شخص الكاتبة في توظيفها العنوان كدلالة للنص القصصي. ويتضح في اختيار بعض العناوين – كما سبقَ وأشرنا آنفًا – الثقافة الإبداعية المغذِّيَة لقريحة الكاتبة الإبداعية؛ فاهتمامها باختيار العناوين العلمية والتي ترمز أحيانًا إلى الحيوان كما في "محيط الدلافين" و"النورس" و"الفأر" لا يُعزى إلا إلى تجربتها الدراسية في قسم الحيوان والكيمياء بكلية العلوم؛ فبالتأكيد كان العمل في هذا القسم مؤثِّرًا فيها إلى حد اختيار الحيوان الذي يصاحبها في تجاربها المعملية كافة وهو "الفأر" ليكون عنوانًا لإحدى قصصها.

الإهداءُ يحملُ شاعرية القاصة إلى القارئ تمهيدًا إلى ما قد يتلمَّسه داخل المجموعة من تعبيرات بها الكثير من المجاز، واختيارُ الأم والزوج باعتبارهما أقرب إلى القاصة من نفسها حين استلهام الإبداع ليس غريبًا؛ إذ يتسم بالعرفان لجميلهما وحسن صنيعهما على الكاتبة وهو ما ذكرته عن زوجها باعتباره هدية الرحمن. وتبدو الروح النقية من اختيارها لشفافية البللورتين اللتين وصفت بهما زوجها ووالدتها.
وقد استهلت الكاتبة قصصها في المجموعة بفلول، وهي اللفظة التي تدفقت بقوة على ألسنة الشباب الذين خرجوا في يناير 2011 للتعبير عن رأيهم رافضين فساد شخصياتٍ بعينها، تتسم بصفاتٍ جعلتهم يتداولون تلك اللفظة كصفة لمن لا تتفق أيدلوجياتهم الثقافية والمعرفية مع أيدلوجيات الشباب الثائر. هي هنا قد تتناول بفكرة القصة المشهد الثوري، لتعبِّرَ به عن تلك المرحلة التاريخية المهمة التي شهدتها، وتريد أن ترصدها بقصتها.تستخدم القاصة هنا تقنية السرد الذاتي المعتمد على ضمير الأنا منذ وصف البدايات، بل وتستحضر وجود الآخرين بمنتهى البلاغة واصفةً إياهم بالمراقبين. ثم يأتي استحضار النص القرآني في جلب حدث قصة يوسف من السورة القرآنية عندما تصف قدميها (قُدَّتَا من صخر...). وترتسم الخلفية الموسيقية كذلك عند استدعاء احتكاك العصا بالخشب العتيق. ثم تنتقلُ بنا من مجرد ذاتية المشهد إلى المشهد البانورامي حيثُ مسرحية الأحداث باستدعاء عنصر الستار. فترى القاصة مجبرةً على المشاركة في هذا العرض الذي تستنكر على نفسها محاولاتها المتكررة الانفلات منه على الرغم من أنها تكرر المشاركة فيه. وتعلو الرمزية بالمشهد الإبداعي من جديد في استحضار شخصية المهندس الذي ينظر طامحًا إلى القصر، وهنا تشيرُ إلى الرغبة في السلطة. ولا بد أن للمهندس ملكًا يعلوه في سلطته حتى يكاد يستشيره ليطمئن قلبه. ثم تصفُ في سرعةٍ سرديةٍ غلبت على كادر المشهد التالي جموع المشاركين بمظاهرهم التي تتسم بالهَرَج. ومن جديد تخرجُ القاصة من المشاهد المسرحية أمامها لتبرز بقوة حين تشرك نفسها في المشهد الذي يقلق جفونها المسترخية فيه الأنوار البارقة. وبعينٍ دراميةٍ تدخلُ المشهد المسرحي وتظل تخرجُ منه، وهي تصفه تارةً كمشاركة وتارةً أخرى كمشاهدة. وتطبق المشهد على عينيها بإسدال الستارِ في تكرارٍ يحدثُ كل ليلة. ولا شك أن الإحالة الدرامية إلى الأحداث السياسية تتضح من خلال عناصر ومفردات الحدث الموصوف دراميًّا من خلال تلك المشاهد السردية للقاصة.

تترك القارئ ليستريحَ بعدها في "محيط الدلافين" حيثُ التحوُّل إلى مسرح آخر للأحداث. وموقع الحدث حيث تتقافز الدلافين على مسطح مائي يشي بالانطلاقِ والمرح ويبعث في النفس سعادة، إلا أنها تتغير فجأة حين تتكاثف الغيومُ، وتعج المشاهد بالضبابية التي تستغلها القاصة أيضًا لإلقاء الضوء برمزيةٍ مدهشة على واقعٍ من الأحداث المعيشة لقضية مهمة.وهنا ترمز باستقرار الدلافين في القاع بعيدًا لتتلقى فيما بعد الفتات المتبقي من الأسماك إلى الابتعاد عن المشهد بالتخلي عن المشاركة إلى أن تهدأ الأمور؛ حيثاتسم المشهد بالنفوق لكثيرٍ من الحيوانات التي غطت السطح أي أنه لم تعد للدلافين أماكن بين المتزاحمين الذين يتصدرون المشهد.وتُسقطُ القاصة بوضوحٍ على المشهد السياسي باستغلال الرقم 30 الذي يشير إلى حقبة سياسية من عصرٍ بائد استطال فيه نفوذُ ثالوث أحمق من العفن حتى أحكم قبضته. وتشيرُ إلى الثورة بانتفاضة الدلافين التي تنحت عن المشهد السياسي لعقود حتى انبعث بصيصُ الأمل فأخذت تلقي بأجسادها في الهواء مرفرفةً بزعانفها. ثم أشارت إلى العراك السياسي بأن أنشبت الدلافين أسنانها في بعضها البعض مما أدى إلى أن جمعت البوارج من جديد في شباكها الدلافين من بعد تناحر. منتهى الرمزية في التعبير بدقةٍ عن المشهد السياسي حيثُ العناصر الرمزية قوية الدلالة والتفاصيل في الأحداث المحيلة إلى الواقعية.
تنتقلُ من الراوي العليم في قصة الدلافين والراوي المشارك في الحدث بذاتية الحكي إلى استخدام تقنية السرد كراوٍ عليم مرة أخرى من خلال "خيام"، ولكن هذه المرة تنتقل القاصة من الرمزية إلى الواقعية، فترصد لنا مشهدًا في حافلة، وتتحركُ عين القاصة فيه برصدٍ لأهم حركات وسكنات المشاركين في الأحداث. وتصفُ بدقة التقاطة مشهد لامرأة أسدلت على وجهها السواد فاحتجبَتْ عن جميع المخلوقات حتى كان من بينها ابنها. صراخُ الطفل يعلو فيتأفف منه الراكب جوارها فيضطر إلى النزول من الحافلة. هي لم تصف المنتقبة بإسدال ثوبها وصفًا سطحيًّا كي لا نُحسِن نحن كقارئين رسم المشهد بعينينا، لكنها توغَّلَتْ بالوصفِ في تفاصيل تفاصيل المنتقبة حتى نقلتها إلينا بما حملته من وجهة نظرٍ خاصة تشجبُ بها عدم أحقية الطفل في رؤية وجه أمه المتشح بالسواد. والمفارقة صنعتها حين استخدمت الموقف في احتجاز المرأة للمساحة بينها وبين الرجل لتسد عليه فكرة شغلها بحقيبتها. وتتضافر الاستعارة الصريحة من اللفظ القرآني مع نصها حتى لا تنفر منها الآذان حين تقول: "... يُوَلِّي وجهَهُ شطرَ النافذة الملاصقة له"[1] وهو تناص صريح مع الآية القرآنية: "... فولوا وجوهكم شطره". وتختتم القاصة بمغادرة الرجل الحافلة وهو يتأسَّف لحال الطفل.
أما في "الكنبة" وهي تلك الأريكة التي يجلسُ عليها بعضُ المارة -كما وصفت القاصة- ليتناولوا الفيشار، هي هنا تجمع بين مفردات اللغة التي طغت على الساخرين ممن ابتعدوا عن أحداث الثورة بأجسادهم وشاركوا فيها بلسعات انتقاداتهم للمشاركين فيها بدمائهم، حتى أُطلِقَ عليهم لقب "حزب الكنبة".إنهم الجالسون على الأرائك متنعمين بمتابعة المشهد عن كثب، في انتظار من يفوز في المباراة ليحصدوا منها مكاسبهم.واستخدمت القاصة الفانتازيا في رسمِ أبعاد المشهد الثلاثية بخروج الرجل الذي يشبه رجلَ العصر الحجري القديم، بل ومن فرط العجب أن المشاهدين لم يحركوا ساكنًا لما تابعوه من مشهد سحلٍ للفتاة، والأغرب أنهم اختلط على آذانهم صوت صراخ المرأة بصوتِ تهشم الشاشة، وتصوره القاصة كرجلٍ يستأسِدُ على المرأة الضعيفة باستعارةِ مشهدِ الوحش الديناصوري الذي اختفى من ملايين السنين قبل أن يكون لوجود هؤلاء بين البشر مِن مكان؛ فالمرأةُ والمشاهدون في تضاد واضح أو بالأحرى في مقابلة أظهرَتْ اختفاء الوجه القيمي في الدفاع عنها والذي تبَدَّلَ إلى وجهٍ يعج بابتسامات، بل وبضحكاتٍ جوفاء. وتختتم بأن صرخات المرأة لا تُسمِع من بِهِ صمم. وهو تناصٌّ آخر مع البيت الشعري الشهير للمتنبي:
أنا الذي نظرَ الأعمى إلى شعري ... وأَسمَعَتْ كلماتي مَن بهِ صممٌ
في "كهوف" انتقلت بالزاوية إلى نموذج آخر نسائي أيضًا لتحكي عنه بضمير الغائب أيضًا بنمط الراوي العليم، وترصدُ تحركاتها في المكان بأفعالها اليومية. الأنثى التي تمارسُ أفعالها اليومية من تنظيفٍ لآثار الغبار الساكن ستائرها ونحوه تأتيها اللحظات التي ترفضُ فيها تكرار النمط اليومي، وتتمردُ عليهِ لتصبح ساكنةً لكهوفٍ مظلمة لا تراها الشمس. والحوارُ الأخير أزال الستار عن القصة وكشف لغزها في نهايتها.
أما في "قتل" فما زالت الشخصية النسائية طاغية، والقوة هنا في الرفض الذي تتبناه تلك البطلة من بداية القصة فهي ترفضُ أن تعيرَ أحدًا انتباهًا، ولا تنظرُ إلى الخلفِ في إشارةٍ من الكاتبة إلى أنها تستقبل الأفقَ كي تمضي إلى الأمام متخطيةً كل الصعاب. لكنها هذه المرة تبرز قضية الأمومة التي تمثلها بطلة القصة. وتطولُ القصةُ عن سابقاتها في البنية وتنامي الأحداث مع الشخوص، بل ويلعب المكان دوره حين تنتقل الكاتبة بالأجواء بين مدينة الإسكندرية والمستشفى ومحل سكن الجارة المسنة. وتتشابكُ الأحداثُ فتنتقلُ القاصة إلى أجواء الحافلة، حيث تحاولُ الضحيةُ الإفلاتَ من براثن الطامعيْن في جسدها، إلى أن تصفَ لنا الجريمةَ بتفاصيلها، حتى لحظة التلذذ بالحكم الذي انتظرته الضحية: الإعدام، وعندها تهونُ كل الجراحات، فتختتمُ القصة بسكون الحركة والهدوء الذي خَيَّمَ عليها. ولا عجبَ في اختيارِ القتل كعنوان للقصة على الرغم من أن الجريمة لم تضع نهايةً حقيقيةلحياة الضحية بطلة الأحداث، لأن قتلًا ما أصابها حين وصفت القاصة الجريمة بقسوتها وبشاعتها فكان القتلُ الحقُّ للبطلة.ذلك القتلُ الذي تمثَّلَ في مشهد ذبولها يوم المحاكمة حين ظهرت بوجهٍ أصفرَ شاحب وشعر نحيل ونظراتٍ زائغة، وكل هذه المظاهر تدل حقًّا على بشاعة تعرُّض البطلة كضحية لقتلٍ معنويٍّ بشع.

في "إعصار" تبدو الحياةُ العاطفيةُ بين الزوجة وزوجها على ما يُرام، بل وتتنامى في مثاليتها وتأخذ في إظهار مبلغ نشوتها بالوصولِ إلى ذروتها حتى يتفاجأ القارئ أخيرًا ببرودٍ وفتورٍ شديد تقابل به تلك الزوجة زوجها على عكس ما كان يبدو له منذ بداية القصة؛ فالجسدُ الموسوم بالوسادة الرخوة التي تتقلب بين أحضان الزوج في ممارسته للعلاقة الزوجية معها لا يلبث أن ينهي هذا النموذج الفاتر لعلاقةٍ ليست صادقة حين تدسُّ البطلة في القصة ثوبَ زفافها في الحقيبة وتقرر الرحيل بانتصارِ رغبتها الحقيقية بإرادةٍ تنفذها بمناداة سيارة الأجرة.
وفي "زهرة أقحوانية" تنتقلُ القاصة من ضمير السارد إلى ضمير الأنا مرة أخرى وتُخاطبُ القارئ كأنها تُشرِكه صفحةً من ملامح حياتها، وهنا تتضافرُ الوردةُ كعنوان للقصة مع بدايتها حين تلضمها القاصة في حديثٍ عنها استهلت قصتها به: " في ثنايا شعري وضعتُها تشَبُّهًا بسيداتِ ثلاثينيات القرن المنصرم..." وتظل تتحدث بضمير السرد الذاتي عن نفسها باعتبارها تلك الأنثى البطلة التي تتماهى مع الكاتبة في مفردات بعينها طغت على الوصف في المشاهد التفصيلية لتلك الحياة التي تصر فيها على أن تبرزَ أنوثتها ورقتها باستخدام التفاصيل الأنثوية ومنها تلك الزهرة الأقحوانية التي تزين خصلات شعرها. تتصاعد الأحداث إلى أن تذهب للقاء الشخص الذي طالما انتظرت أن تغذي بعينيها محياه وتحاول أن تنظر بعينيه كيف يراها. لكن المفارقة تأتي في آخر القصة كعادة القاصة "منة الله سامي" في تذييل الحدث بالمفارقة التي تخرج عن كل التوقعات؛ فالحبيب المنتظر والذي شغل فكر الفتاة لم يحضر، بينما ترك لها قصاصة ورقية داخل صناديق صغيرة بعضها داخل البعض ليقول لها بسخريةٍ: "فوت علينا بكرة.هذه السخرية من البطلة تهدم بدورها كل المشاعر الرقيقة التي بنتها منذ بداية السرد القصصي في النص. ومن هنا كانت المفارقة بأن حبيبةً تنشغلُ بمحبوبٍ زائفٍ أطل عليها من خلف شاشة الكمبيوتر وتعشَّمَتْ هي فيه بما جعلها تريد أن تبدو كأنثى حقيقية بعد أن أخفت أنوثتها ومشاعرها كثيرًا لتبثه هذه اللحظة التي حملت القارئ إلى تخيل المشهد العاطفي الذي سيجمعهما. مفارقة طرقت لنا باب قضيةٍ مهمة هي المسيطرة دائمًا على ألباب مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي وهي الزيفية التي يبدو بها الفردُ بشخصيةٍ ليست صادقة تمكنه من الاحتيال على مشاعر الجميع، وليس فقط ما ورد في هذه القصة من الاحتيال على مشاعر الفتاة وعواطفها.

وتستأذننا القاصة بعدها في عنوان جديد بعبارة "بعد إذنك" وهي العبارة التي قد تحتمل الحوار الفصيح أو العامي الذي يخلق مستوايت اللغة في القصة. وتعودُ بنا القاصة إلى الضمير الغائب بالسرد الراوي للحدث أو ما نسميه بالراوي العليم. والشخصيةُ أيضًا تطغى عليها الأنوثة بوصف القاصة تعبر عن مشاعر وأحاسيس المرأة، وتحديدًا امرأة في أعمار تقتربُ كثيرًا من عمرها. وهنا المكان المسيطر هو الكافيه، والذي كان في القصة التي سبقتها محور مكاني لرسم أحداث النهاية التي صنعت المفارقة الأخيرة. هنا مساحات الوصف للمكان كانت مدخلًا إلى القصة التي لم تخلُ أيضًا من الصورة المجازية في عبارتها: "... ليمتزج السكر بالـ "كابوتشينو" الذي يُسَرِّبُ الدفءَ إلى شرايينك المتجمدة."[2]تلك الصورة التي تعبر بدقة وصفية عن تفاصيل تهتم بها المرأة لتخلع عليها عاطفتها بمنتهى الرقة. ولم تكن تلك الصورة المجازية الوحيدة، بل تلتها الكثير من الصور "... وتشعر بحبات الثلج السارية مع نبضه."[3]وفي وصفها لانفراط عقد الحديث كذلك.
هنا تبدو القصة بمذاقٍ مختلف، قد يربطُ بينها وبين سابقتها، ففي القصة السابقة لم تتمكن من لقاء الشخصية التي صدمتها بالاستهتار والاستخفاف بمشاعرها، لكنها ها هنا تلتقيها وتزيدها وصفًا بالغرور والتكلف والاصطناع المزعوم. وتلك المرة الرغبة في الاستزادة من المساحة الزمنية للقصة تأتي من أحد أبطالها، وهو الرجل الذي رفض آنفًا في قصة "زهرة أقحوانية" أن يهدرَ ولو القليل من وقته للقائها. لكنها تتعجَّلُ الرحيلَ عن وجهه، وبذلك هي تثأر لما سبق لها من فواتٍ في القصة السابقة، وتنسحب بمنتهى الهدوء وهي تستأذن بالعبارة التي استخدمتها عنوانًا للقصة من قبل.
أما في قصة "حبلٍ سريّ" فتقليديةُ المشاهد الأولى للحياة التي تعيشها تقريبًا الفتيات في مثل هذا العمر لا تشي بأن الأمر سيصبح واقعًا حين توافق الفتاة على رغبة أهلها في البداية بالارتباط بهذا الشخص الذي سيطرت عليه والدته كالعادة. لكن المشاهد التي حملت من السرعة ما يكفي أن تعجلت القاصة النهاية الحتمية لتلك الزيجة الفاشلة، كانت نتيجة لصراع الوهن والألم الذي وصل بالقصةِ إلى إنهائها بالمأذون يقطع هذا الحبل السري بينها وبين الزوج بكلمةٍ منه أراقت لها دمها في فتورٍ وبلادةٍ من روحه أثناء تناوله العشاء في تغافلٍ لمشاعرها حتى تأججت بالفعل الانهياري وشجت رأسها بالارتطام الذي أنهى لها هذا الهوان. والقصةُ استطالت نوعًا ما على غير عادة المجموعة، لكنها انتهت نهاية حتمية حسمت للبطلة هذه الصراعات.

فحملتنا القاصة منها إلى صوتٍ كان لا بد لها من إخراجه إعلانًا قويًّا بعد تلك القصة التي أظهرت انتصار البطلة في مساحةٍ ضيقة من نهايتها. فإذا بمساحات الشك والظن تبدو بارزةً من حوار البطلة مع زوجها، حتى يتأكد لها من رد فعل الزوج ما أثار شكها بحديث الصديقة إليها من خيانته. يغادرها الزوج، فتلملم ما بقي منها وتعود إلى منزلها حتى تنصحها الصديقة بالعودة، لكن عودتها لا تعيدُ إليها علاقتها بالزوج حين بنى بينه وبينها حاجزًا جعلها لا تفتح باب شقتها بسهولة بمجرد أن تحاول أن تولج المفتاح فيه، لكن إصرارها الذي يزيد من إهدار كرامتها يجعلها تدق جَرَس الباب. وهنا يتضح ما استخدمته القاصة من تقنيةٍ في الالتفاف بالقصة من العنوان إلى أن تصل إلى آخر كلمات نصها فتذيلها به، وهو ما استخدمته كذلك في قصةٍ سابقة حملت عنوانًا ظل إلى لحظة الالتفاف في النهاية في "عن إذنك". والقصةُ استخدمت لها أيضًا الضمير السردي الغائب في رواية أحداثها، وهو ما لاءم الجو العام لها.
في قصة " في الحداد" مشاعر امرأة في لحظات أنثوية من طبقةٍ أرستقراطية تسيطر على القصة منذ بدايتها وتجعل القاصة تتخير لها أيضًا ضمير السرد الغائب أو تقنية الراوي العليم. هي تغرورق في تفاصيل التفاصيل التي تجعل للسيدة البطلة إطارها الخاص الذي يحكمها بالعادات والتقاليد الاجتماعية التي تبدو في ممارستها من عائلةٍ ذات شأن أو من طبقةٍ أرستقراطية ما يجعلها تتملل ارتداء الأسود، وتشتاقُ اللحظة التي سوف تخلعه فيها.على ما يبدو من الوصف أن المتوفى هو زوجها، لأن المرأة تمل ارتداء السواد سريعًا إذا توفى عنها زوجها لأنها اعتادت وجود هذا الرجل في حياتها. الخوف من تقاليد المجتمع وعاداته كذلك يؤكد أنه زوجها هو المتوفى. هنا توجه المجتمع لومًا على المرأة الفاقدة لزوجها يجعل الكاتبة تخفي هذا التصريح وتلمح به باستحضار شهادة الجيران بأن السيدة مصون.

في قصة "ارتباط" قد تبدو لنا مجروحةً منذ بدايتها أن القصة سوف تنتهي بالرباط المقدس، لكن الوصف في السرد الذي استخدمت له القاصة تقاناتها الجيدة صنع المفارقات التي أخذتنا إلى التأرجح بين أن تتحقق القصة بموضوعها البارز منذ البداية، أو لا تتحقق. هنا التنامي في الأحداث أخذ وقعًا سريعًا على الرغم من استطالة القصة أيضًا، ولكن استطالتها لا تبدو عيبًا حين نقيس لها مساحات التكثيف البعيدة عن الحشوات والتفصيلات التي قد لا تخدم القصة، وقد رأينا منذ بداية المجموعة كيف كانت القصص مركزة ومكثفة في تمكن واضح للقاصة من أدواتها. العبارات المجازية التي لا تصرح بها الكاتبة عن واقع الشخصيات يبدي للقصص حلاوتها ويرفع قدر طلاوتها بما يزيدُ من عمق الفهم للقارئ، بحيث لا يدفعه إلى السطحية بل يدفعه إلى التفكير في كل لمحة تترك لها القاصة بصمتها لتعطي من ورائها معلومة تفيدُ في تقدُّم الحدث. حتى لحظة نهاية القصة بأن ترك البطل للبطلة علبة صغيرة بين أوراقها فوق سطح المكتب هو لم يصرح بالارتباط البادي من العنوان، لكنه ألمح إليه بصورةٍ لطيفة.

في "صورةٍ رمادية" مفارقة تبدو من مقابلات لمشاهدات رصدتها الكاتبة في شخصية العجوز المتسولة. المظهر الذي قد يبدي الوَهَنَ والضعف والاستكانة لاستدرار عطف البطلة التي تشاهدُ عن كثبٍ وتراقب حال العجوز دفعها إلى إلقاء بعض مما أفاضت به عليها حتى يتبدل الحال من الركون والضعف والوهن الذي ترك على القصة تثاقل الأحداث إلى السرعة التي أذهلت البطلة حيث تشبه تلك اللحظة التي دبت فيها سرعة دبيب الطفل وخطوه لتلحق بالحافلة باللحظة الفارقة التي تبدلت معها كل النظرات المشفقة على العجوز إلى نظرات الدهشة من موقفها وهي تعد ما جمعته طوال اليوم.

وعودة إلى ضمير الأنا بذاتية السرد في "تحت الكوبري" وتماهي القاصة مع البطلة الساردة للأحداث حيثُ تتخذ دورها كمراقبة لشريحة نسائية من الكادحات اللواتي لا يكترثن إلا للقيماتٍ بسيطة يتحصلنها من بيع مشروباتٍ للسائقين. يختلطن بالقاصي والداني ويتحركن في المشهد أمامها وتحت عينيها وهي تراقبهن لترصد لنا مسلسل الكفاح اليومي والمعاناة.
ثم تعود مرة أخرى إلى ضمير السارد الغائب في "الستارة الداكنة" والتي قد تستدعي قصة أخرى في بداية المجموعة "كهوف" حملت بين طيات أحداثها تلك المفردة المكانية للستائر، لكن التناول هذه المرة مختلف؛ فالستائرُ هنا تزاحُ لتكشف للبطلة التي تتحدث عنها القاصة عالمًا مختلفًا بدى من وصف القاصة من خلف الستائر التي تحتمي خلفها البطلة لترصد لنا لحظات القصة. لكن المفارقة هنا في أن البطلة تستشعرُ وجود من تشبهها من نساء على الجهة المقابلة لها في تخوف بدا واضحًا حين هم أحدُ الرجال بوضح نصل السكين الحاد على رقبتها ليتفجر شلالُ الدم على الستائر الداكنة.
وضميرُ الأنا يحضر من جديدٍ في " الفأر" لكنه ما يلبث أن يختفي في تفاصيل القصة حين تسلط الضوءَ على الرجل والطفلة بعينيها الرقيبتين عليهما، وتتجردُ من إنسانيتها لتتقمص دورها الخفي في متابعة الرجل وطفلته إلى أن تتخطى حاجز وجوده داخل منزله لدى عودته من الخارج. وإذا بالبطل الذي تراقبه الساردة بضمير الأنا يحاولُ أن يتذكر أين التقاها، وهي مفارقةٌ أخرى إذ تُشرِكُ الساردة بضمير الأنا في الحدث عن طريق الدخول في السردِ بضمير الغائب عنها وعن البطل نفسه. لكن اللغز المبهم على القارئ هو في آخر لحظات القصة حين تبدو الشخصية النسائية الأخيرة وتطلب من البطل الطلاق، فلا يبدو من الحدث أن هناك ما دفع إلى هذا الطلب، وربما كانت هناك لحظة مختزلة تحتاجُ البطلة الساردة التي اختفت في ضمير الغائب في السرد إلى إظهارها، أو من الممكن أن تكون القاصة ذاتها قد فاتتها لحظة مهمة لتذكرها في الحدث، لكن ما يؤكدُ الارتباط بين العنوان في القصة وبطلها هو التصرف الذي قد يشي بالاختفاءِ أو بالخفة في السرعة، إلا أن الارتباط ليس قرينةً واضحةً على اتفاق على تأويل المشهد بهذا الوصف.
في "انتظار" هناك ثنائية بين الـ هو والـ هي وتطغى عليها الـ هي بقوة حيث تتصدر الحكاية حين تنتقي القاصة لقصتها تلك ضمير السرد الغائب أيضًا أو كما يقال الراوي العليم. ويتضح من هذا الثنائي أن استجلاب الضميرين كان لإبراز التضاد والمقابلة بين تفكيريهما. وتصطدمُ في النهاية من بعد انتظار بتخليه عنها مع الحاجة الملحة التي بدت من لفظةٍ واحدة أطلقتها البطلة للبطل "ساعدني".
في "النورس" تنتقلُ الكاتبة إلى أجواء جديدة مختلفة عن الأجواء التي تحدثت فيها من قبل. فالمكانُ هنا هو شاطئ البحر، والبطل واضح من البداية وهو يشاركُ البطلة التي بالتأكيد ليست في محطة سردها أقل من محركة لسير الأحداث المسلطة عليها أضواء القص. إلا أن الطيرَ في اختيار القاصة كمعادل رمزي هنا يحتملُ تأويلاتٍ كثيرة، فقد يتجاوز مجرد الانتماء إلى عالم الطيور إلى انتمائه إلى عالم الذكور في مقابلة مع عالم الإناث. وعين القاصة الراصدة قد تحتملُ أيضًا كثيرًا من التأويلات في قراءاتٍ متعددة للقصة من زوايا مختلفة. ومن الممكن أن تكون كل هذه اللحظات تأملات بعين راصدة من القاصة لحركة هذا الطير البادي أمامها.
في "انتهاك" من الواضح أنها تتحدث عن قضية استباحة المرأة من الرجل، وهو البادي من حديثها بانتهاكٍ والذي وصفته القاصة بالعنوان الذي تخيرت له لفظةً نكرة. في القصة انتهاكات صارخة وآلام واضحة انتقت لها القاصة مفرداتها أيضًا لتعبر عنها بقوة، فتنهي القصة بنهاية مفتوحةحتى تشير من خلالها إلى استمرارية الانتهاكات.
في وصفها للحدث في قصة "لكزة" كراوية على دراية به تلتقطُ لحظات الرغبة التي يكبتها سائق عربة الحصان التي تضطر في النهاية إلى أن تكون الفرس مشاركةً للحصان في جريمة قتل قائد العربة الذي كبح جماحهما، وأفرط في القسوة عليهما فكان هذا هو رد الفعل.
الأمر يختلفُ في قصة "4000م" حيثُ العنوان الغريب نسبيًّا على القصة وهو يدفعُ القارئ إلى محاولة الكشف عن لغز وجوده الرقمي المصاحب له الحرف "م". فالعودةُ إلى العلاقة الزوجية البشرية من ترتيب القصص التي سبقت بها القاصة بقصةٍ تتحدث عن العلاقة بين فرسٍ وزوجه بأحداثٍ تدخل إلى عالم الإثارة والفانتازيا. خيالٌ علميٌّ جامح يصل إلى حد التفكير في بلوغ الشمس، وعلاقة زوجية مشروعة تم عقدها على يد مأذون لكنها في إطارٍ يميلُ إلى الخروج عن السيطرة بتحكم الآخرين حيث تكتشف البطلة ضياع أحد العناصر المهمة الذي أفقدها حرية الرفض من عدمه. التواصل بين البشر بصورةٍ مختلفة داخل مباني تزيد طوابقها عن الآلاف قد يكشف لغز تصدر العنوان الرقمي للقصة بهذا الشكل. وعلى إبهامها تبدو القصة جديدة في التناول للمستقبل واستشرافه مع وضع العلاقة الإنسانية بصورة عجيبة في موضوع القصة.
هنا تعودُ "منة الله" مرة أخرى بالضمير إلى الأنا حيث تتحدث إلى القارئ وتطرح عليه سؤالها الذي تجيبه أيضًا في إصرارٍ على التعامل بديكتاتورية الحوار لصالحها. لكن النص القصصي هنا قد يخرجُ عن إطار القصصية، فالتحدث إلى القارئ بحقائق ربما لا يصنع للقصة حدثًا أو يضعها في أجواء تجعلها في قالبها المتعارف عليه. ويتضح تأثر القاصة في نهاية النص بالقصة التي سبقتها باستحضار عنصر آلة الزمن المفقود والأرقام.
ولأول مرة في المجموعة تتخلى القاصة عن الحكي عن المرأة بتبني إحدى قضاياها، فتنخلعُ بضمير السارد الراوي عن المشهد لترصد عنه هو كشخصيةٍ تشعرُ بالقيد في قصتها "حوائط" فالبطلُ يستشعر إحاطة من نوعٍ خاص جعلته يفقد السيطرة على ذاته ويجن جنونه، فلا يدري من سلبه القدرة على التحكم الذاتي، ولا يدري أين وصل به المقام حين يتحسس أشياءه فيدرك المختفي منها.
أما "مكوك" وهي القصة قبل الأخيرة في المجموعة فهي عودة بالضمير إلى الأنا مرة أخرى، فهي ها هنا في صراعٍ معه يصلُ بها إلى أن تريد المغادرة بالتعلل بوجود فضاء تريد أن تدركه حيث اللحظات الوقتية تختلفُ عن اللحظات الكونية في هذا الكوكب.
وتعودُ بالزمن من جديدٍ إلى "خمسون مليون سنة قبل الميلاد" وتختتم القصص بها في مجموعتها الفريدة التي تنوعت بين الفضاء الذي يستشرف المستقبل، والاغروراق في سحيق الأزمنة. والصراعُ الأبديُّ بين الرجل والمرأة الضارب بقوة إلى الوصول إلى حد الانتهاء بهبوط الرجل بمواصفاته الخاصة في حين تحمل أنقاض المرأة الصلعاء قدمٌ متفتتة.

تتميزُ قصص "منة الله سامي" بتعددية التأويل النابعة من اختيارها للسياقات والمعادلات الرمزية التي تلقي بها الضوء على قضايا المجتمع - أو بالأحرى قضايا المرأة - وهذا التنوع في الرمزية يعطي ثراءًباختلاف الثقافات لقراءة أعمالها القصصية، كل عملٍ على ما يراه القارئ من زاويةٍ مختلفة.

تنوعت شخصيات "منة الله سامي" في مجموعتها إلا أن الشخصية النسائية تغلب بالطبع عليها، بوصفها تعبر عن أبناء جلدتها من النساء، وكذا تعرضهن بالكشف أحيانًا إلى نقدها الذي ربما اتسم في بعض الأحيان أنه نقدٌ لاذع. والقضايا النسائية التي تناولتها "منة الله سامي" متنوعة على الرغم من قصر القصص الذي يتضحُ فيه درجة عالية من إتقان الكتابةِ بالتمكن من أدوات تكثيف القصة بلا ترهُّلٍ ولا إفراطٍ في تفاصيل قد لا تتفقُ مع ما تريدُ القاصة أن تركز اللقطة بتصويرها بإلقاء مزيدٍ من الضوءِ عليه.

اللغة القوية التي تكتبُ بها القاصة واضح أنها لم تكن إلا من تعددية ثقافية أدت إلى الاغتراف من معينٍ لغويٍّ غير راكدٍ من حيثُ انتقاء المفردات والعبارات والتشبيهات والاستعارات والمجاز. تلك اللغة هي التي مكنت القاصة من دقائق السرد حتى وصلت إلى ذروة التكثيف وتضييق الفرصة على وجود ما قد تلام عليه القاصة في الحشو والإطالة في مجموعتها. ومن هنا ينبغي الإشادة بما بلغته القاصة من تمكُّن أفرد لها نبلًأ في حمل مدادها للخطو كما سبق وذكرنا آنفًا بخطىً وئيدةً في عالم السرد.



[1]منة الله سامي، فلول وأنوف، صـ 13
[2]منة الله سامي، فلول وأنوف، صـ 29
[3]منة الله سامي، المجموعة نفسها، صـ 29

ليست هناك تعليقات: