2011/01/01

" شموخ" قصة قصيرة لفاطمة السيد عبدالكريم

شموخ
فاطمة السيد عبد الكريم

امتد خيطُ الشمس في الصباحِ ليلفَّ أرجاءَ السماء؛ حيث ترفعُ عينيها البنيتين إلى أعلى. تشاهدُ اختراقَ الأشعةِ لجدارٍ عازلٍ من الأرض والأشجار .. وخروجها بقوةٍ وثباتٍ لتملأ الكون بهاءً ونوراً... تتنهدُ ملقيةً بوحشةِ قلبِها خارجَ صدرها لتتناثرَ في هواءِ الصبح المشوبِ بدخانٍ .. وتقول:
" ما أصعبَ الحب ... "
ثم تتهاوى نظراتـُها إلى أن تصلَ إليه .. وهو يرقدُ في لحدِهِ الذي عَلِقَ بفروعِ زيتونتِهِ بعضٌ من مخلفات الرياح الهائمة.
" أتذكُر هذا البيتَ الذي كتبناه معاً؟ منذ أن تواعدنا لنكملَهُ في الصباح التالي وهو إلى الآن وحيدٌ .. لأن الصباحَ لم يدركْنَا..."
تستأنفُ عيناها النزول..، فتهبطُ إلى هوةٍ سحيقةٍ من الذكرياتِ ... وتستقرُّ على الأرض التي تنبشُ فيها بعصا من فرع زيتونٍ فتكتبُ عليها " وفاء .. خالد ".
تُدلي بدلو فكرِها في بئرِ الماضي، فيخرجُ لها صورتُه يوم أن أثقلهُما الجدالُ في أول لقاءٍ لهما في ندوةٍ بجامعة القدس وكانت تحت عنوان : " مفرداتُ الحوارِ عند العدوِ الصّهيوني "
حينئذٍ كان كلٌ منهما يؤمنُ بطريقةٍ مُثلَى للحوار ..؛ فخالدُ يصرُّ على التفاوض الذي تُؤيدُه كل الأوساطِ السياسيةِ العالمية ..، أما وفاءُ فتؤمنُ أن العدوَ لا يفهمُ إلا لغةَ القوة التي يسودُ العالمَ بها ...
بعد خروجهما من الندوة، استمرَّ الجدالُ على أشدِّه .. فتطلب الأمرُ استراحةً لتناول الغداءِ والتقاطِ الأنفاس. تحولَ الحديثُ من الجدال حول قضية الوطن إلى الجدالِ حول طريقةِ كلٍ منهما في النظر لمستقبلِهِ وطموحاتِهِ الخاصة .. واختُتِم الحديثُ بكلام كل منهما عن نفسِهِ لينقلبَ اللقاءُ الفكريُّ إلى لقاءٍ رومانسيٍ دافئ ... يتحولانِ بعدَهُ إلى معزوفةِ عشقٍ يبحث عنها كل مظلومٍ ليأنسَ بقلبٍ يحبُّهُ ويدافعُ عنه.
تنتفضُ وفاء من جلستها، وترمي بعصا الزيتونِ قائلةً له، وهي تعلمُ أنه لن يستطيعَ الردَّ عليها الآن:
" كم كنتَ عنيداً يا خالد .. أرهقتَني شهوراً لأُقنِعَكَ أنهمْ لا يفهمونَ إلا القوة ... إنها المقاومةُ لا شيءَ غيرها ... لكنك أوحشتَني كثيراً ..."
وتعودُ وفاء إلى شرودِها ..، ليخرجَ لها من البئرِ هذه المرةَ صورتَهُ وهو يحتضنُ أختَهَا ابنةَ السابعةِ وقد سقط عليها منزلُ عمها أثناء زيارةٍ لأسرتِهِ في غزة .. كانت نائمةً مع بناتِ عمها عندما انقضَّ عليهم سيلٌ من القنابل الفوسفوريةِ .. أفزعَ سكونَ الليلِ في أرجاءِ المدينةِ ..، وحين استيقظَ الغزَّاويون في الصباح وجدوا أن أكثرَ من سبعين طفل .. بعد أن كانوا مساءً يتضاحكون .. أصبحوا أطلالاً ورُكاماً .. ومعهم كثيرٌ من النساءِ والشيوخِ والرجالِ. يومَها قال عمُّها في آخر ما قال:
" وفاء .. الحمدُ لله أنكِ رأيتِ كل ما حدث .. لتعلمي أنني لم أجدْ أيةَ فرصةٍ لأدافعَ عن أختِكِ و عن بناتي .. سامحيني ..."
لم تنسَ وفاء كلماتِ عمها . ولا كلماتِ خالد وهو يحمل أشلاءَ أختِها .. وقد امتلأ قلبُه غضباً وأحسَّ بغصَّةِ الظلمِ والوحدةِ تـمزِّقُ حَلْقَهُ ..، قال لها:
" الآن يا وفاء أدركتُ ما كنتِ تقولينه ... "
تسقطُ منها عبرةٌ صامتةٌ وتردُّ عليه وهو مسجَى في قبرِهِ :
" والآن يا خالد أدركتُ ما فعلتَه أنت ..."
نظرَت إلى الأفق وقد بدا أنها عادتْ إلى البئرِ مرة أخرى ..:
" حبيبتي .. يا كلَّ معاني الوفاء التي عرفْتُها في حياتي .. كم عشتُ معكِ لحظاتٍ هي كل ما احتسبتُهُ من عمري..."
يبتسمُ في أسَى .. ويكمل:
" لقد فُزتِ أخيراً يا حبيبتي .. لم أكن أتوقعُ أن أكونَ من أهم رجال المقاومة في بلدنا .. الآن أرى مدينَتَنَا القدسَ في ثوبٍ أكثرَ جمالاً ونضارة .. منذ عرفتُكِ وأنا أراها مثلَكِ جميلةً وحنونة وشامخة .. هاأنذا لا أعرفُ لإحداكما شوقاً من دون الأخرى .. فأنا لا شيءَ بدونكما معاً ..."
علت ضحكتُها مثلما كان منها حين سمعتْ كلامَه هذا منذ سنتين. ثم تلاشت هذه الضحكةُ شيئاً فشيئاً وقد تذكرت ما قاله جدها حينئذ:
" لكن احذري أن تَضَعِيهِ في محل اختيارٍ بينكِ وبينَها ..."
فوجدت دموعها تتقطَّر قسراً على وجنتيها مثلما كان منها حين سمعت كلامه هذا .. ولكن دموعها اليوم صارتْ أشدَّ مرارة؛ لأنها كانت قد عرفتْ مصيرَ خالد قبل أن تتذكرَ كلماته الأخيرة:
" ربما أرحلُ عنكما .. ولكن لأجلكما .. عسى أن تَرَيْ برحيلي ميلادَ فجرٍ أو خروجَ شمسٍ من كهفِها ...
ما أصعبَ الحبَّ إن كان المحبُّ له قلبٌ من النور في بئر من النارِ "
" ياله من بيتٍ جميل .. ألن نكملَه قصيدةً يا خالد؟ "
" سنكملُه في الصباح .. حين تشرقُ الشمس ... أحبـُّكِ ..."
وهنا ابتسمتْ .. مثلما كان منها حينَ سمعتْ كلامَه هذا .. ولكن ظلتْ ابتسامتُها مقيدةً بأغلالٍ من الأسَى والخوف ...
هذه الأغلالُ لم نَرَها انفرجتْ حتى لحظتِها تلك ... لكنَّ العجيبَ أن هذا الابتسامة ظلتْ قويةً شامخةً شموخَ المحبوبتين ...

ليست هناك تعليقات: