لماذا نكتُب؟
بقلم: زينب ع.م البحراني
لماذا يَكتبُ الكُتّاب؟..
ما أكثر تكرار هذا السؤال على لسان من لم يخترهُم قدر الكتابة ليكونوا من رعاياه شاؤوا أم أبوا، ولو اختارهم ذاك القدر لأدركوا أنّ الإجابة الكاملة عنه مُستحيلة. لأنّ الكتابة حين تصطفي رعاياها لا تترك لهُم خيارًا أو قرار، وإنّما يجدون أنفسهم مجذوبين إلى دوّامة ذاك الإدمان اللذيذ جذبًا لا فكاك منه ولا فِرار. ويغدو السؤال حينها مُشابهًا لسؤال الطيور عن أسباب تغريدها، والشّمس عن شروقها، والأشجار عن اخضرارها.. نحنُ نكتُب – ببساطة- لأننا وجدنا أنفُسنا محكومين بالكتابة. نكتُب لأننا لا نعرف طريقةً أخرى للتنفّس، ولا نُتقن طريقةً أجمل للضّحك أو البكاء أو الغناء، ولا وسيلةً أسرع للشّفاء من الكتابة. نكتُب لأنّ الكاتب لا يجد صدرًا أدفأ من الورقة ليضمّد نزفه الدّاخليّ و يحتضن أوجاع روحه المُزمنة، ولأنّه لا يمتلك سلاحًا للدّفاع عن آماله وأحلامه وثقته بنفسه غير قلمه. نكتُب لأنّ العالم الذي يُنجبه التّزاوج بين القلمة والورقة أكثر رحابةً واتّساعًا وطولاً وعرضًا وامتدادًا في الزّمان والمكان والأحاسيس من ضيق الواقع، وأجمل من بشاعة الواقع، وأكثر رأفةً من قسوة وجفاف الواقع. نكتُب لأننا نكون بالكتابة على طبيعتنا الدّاخليّة التي نريد ونرجو ونتمنّى أن نكونها دون وصاياتٍ خارجيّةٍ للظّروف المانعة على تصرّفاتنا. نكتُب كي نطير من الصّومال إلى الصّين في ستين ثانية، وتفيض نقودنا من نوافذ بيوتنا في خمسين ثانية، ونزور كوكب المرّيخ في أربعين ثانية، ونُنقذ الأرض من احتباسها الحراريّ في ثلاثين ثانية، ونعبر القارّات السّبع في عشرين ثانية، ونحكم العالم بأكمله.. في ثانية. نكتُب كي نرتدّ إلى طفولتنا في لحظة، ونرتدي صورة الشيخوخة في ومضة، ونشرب إكسير الشّباب والخلود إلى الأبد.
نكتُب كي نخترع بأنفُسنا إجاباتٍ لتساؤلات الكون الكبيرة، وكي نكتشف كوننا المنسيّ في أعماقنا قبل أن يلتهمه الصّدأ أو يأكله الغُبار. ولأنّ الشّمس لا يُمكنها أن تُشرق في تلك البُقعة الدّاخليّة السريّة إلا حين تًداعبها الكتابة. نكتُب لأننا نستطيع بالكتابة رسم خارطة العالم من جديد، وإعادة هندستها وفق ذوقنا وهوانا في سويعات؛ فنرسم القمر مُستطيلاً، والشّمس مُثلّثة، والسّماء خضراء، والبيادر كُحليّة، والمياه ورديّة، وأوراق الأشجر زرقاء، وقشور البطّيخ تتقاسمها ألوان قوس قُزح.
نكتُب كي نتمكّن من تجفيف أحزان العالم، وقطع دابر الشّعوبيّة والعصبيّة والطّائفية، ومسح المرض والجهل والجوع والفقر والجريمة، وإلغاء الشرّ بأكمله من العالم بضربةٍ قلمٍ واحدة. ولأننا أدمنّا رحلة الغوص في ذاك العالم اللذيذ القادر على الجمع بين كركرة الأطفال، وشهقات جرحى الحروب، وقفزات النّاجحين في المدارس الثّانويّة، ونحيب الثّكالى، وصرخات الأمّهات ساعة تقلّص أرحامهنّ بمولودٍ ينتظر ترحيب العالم به. نكتُبُ لأننا إن لم نكتُب؛ فسنتحوّل إلى تُراب قبل أن يُشرع اللحد فوهته لاستقبال عظامنا، يوم ختام رحلة حياتنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق