2011/01/02

"الســـــــراب" قصة قصيرة بقلم منير المنيري

الســـــــراب
منير المنيري
المطر خيط من السماء، والإنارة تتوهج مع أزيز الرعد ووميض البرق،وحيدا يتسمر في قارعة الطريق،تحت سقف دكان جزار الحي المغلق،يصوب نظراته الحادة نحو المارة والسيارات بلا إعمال فكر،من عمق البداوة وسفوح جبال الأطلس الكبير حيث ترقد العفة والعفوية بسلام وأمان بين بيوتات السكان الطينية أتى باحثا عن المجد المضاع والغنى الموفور الذي سمع عنه كثيرا ورآه متبديا في عيد الأضحى على ابن عمه الذي يشتغل في المدينة البيضاء،أما هو الآن فالحمراء هي من تحضنه في هذا اليوم البارد بجسدها السافر وبوجهها الذي ذهبت عنه حمرة الخجل وبقي ملطخا بحمرة مساحيق التجميل دون أن تروي عطشه بكيانها المباح للزائرين والعابرين والنوكى والعشاق،لا شيء حققه حتى الآن من المحطة الطريقية وهو يبحث،جاب الشوارع الفسيحة والأزقة الضيقة،طلب هذا وذاك لكن لا أحد حن لوجهه الشاحب ولأسماله البالية ،طرح هيكله الكليل على حاشية الدكان الرخامية وأسند رأسه على رزمة ملابسه وأغراضه الشحيحة،حاول أن يسترجع كل أحداث اليوم بكل تفاصيله،تسابقت إلى مخيلته تلك الوجوه النيرة والأعجاز التي رسمت في ذاكرته عند أول نظرة هناك في الحديقة التي تناول فيها وجبة غذائه قرب البناية الحكومية،وفي الساحة الضاربة في عوالم الخرافة والأهازيج والسحر الحلال والحرام والمسماة "بجامع الفنا"،كل سيفنى ومن حسن حظه أن الجو اليوم بارد والغيوم تحجب الشمس التي تسطع طوال أيام السنة على فنادق الحمراء وحاناتها نزولا عند رغبة ذوي السحن البلقاء المنتشرين في كل الأرجاء، تسلل النوم إلى جفونه،أدار وجهه نحو باب الدكان الفولاذي، أحس برجفة برد تسري في أطرافه النحيلة،سوى قطع الورق المقوى تحته وغادر عالم الأضواء إلى عالم الظلمات وكله أمل في تحقيق ما أنامه على الرصيف لأول مرة في حياته.

رجرجات الأحذية وأصوات السيارات وقطرات المطر المنهمرة على سقف الدكان البلاستيكي وصورة والدته وهي ترعى الغنم في مكانه المفضل بين الهضبة ونبع الماء في قمة الجبل،هذا كل ما استطاع أن يتذكره من ليلة البارحة،اليوم غير الأمس،الحرارة تكتسح الطرقات والبنايات الشاهقة والمنبطحة،كبد السماء لم تبلغها بعد الشمس ومع ذلك الكل بنصف لباس،هاهم يمرون حوله وهو كالمقبور بينهم، لا أحد يشير إليه أو يرمقه احتقارا رغم وضعه المزري،كم أراحه هذا الفعل، حسب أنهم يحبونه وأنه واحد من جلدتهم و أن الشارع كمنزل شيخ القبيلة في قريته،لا ضرر ولا عدوان،الجموع تلتقي تأكل وتنام سويا إلى أن يستقر حال كل واحد منهم فيغادر القرية سالما معافى،مدد جسمه استعدادا للوقوف بعدما نسج أحلام يومه الثاني في المدينة الحمراء ولكن الصوت المخروت لم يمهل قشعريرة النشوة تسري في بدنه:
_ قم أيها المتسول وإلا...
تطلع إلى صاحب الصوت وهو يرتجف ثم وقف ورد متلعثما بلهجته الأمازيغية القحة:
_ نعم،نعم.
آه إنه الجزار أتى ليفتح دكانه ويصرف مخزونه اليومي من اللحوم الحمراء إلى زبائنه المفضلين من المهندسين ورجال العقار أما اللحوم البيضاء فلها زبائنها في غير محله الصغير لذلك ترك بيعها كي لا يرمى بالظنون ويعد من ذوي المال والجاه والسلطة والأقنعة الملطخة بالعار الألى تضج بهم أندية الحمراء العامة والخاصة،استطرد قائلا وهو يفتح قفل باب دكانه:
_ اجمع كل القمامات وإلا...
_ نعم،نعم سيدي.
هم يجمع الورق المقوى الذي كان يبيت عليه وبعض الحشاشات التي صيرتها الرياح إلى حافة الدكان،رمقه الجزار من داخل الدكان وراء أفخاذ العجول والخرفان المعلقة،علم بقليل من التمعن والفطنة أنه ليس متسولا ولا من متشردي الحمراء الذين اعتاد رؤيتهم،نادى عليه بعدما أنهى تنظيف المكان وأثبت في يده اليمنى الصلبة بعض الدريهمات ودعى له بالتوفيق.
وضع الدريهمات في جيب جاكتته البنية اللون وتأبط رزمة أغراضه وابتسم في وجه الجزار شاكرا،استحضر كلمات شباب القرية أمامه عن المدينة الحمراء وشارعها الفتنة البارزة ثم مضى مع الطريق الطويل الموصل إلى الشارع الراقي والرابط بين طرفي المدينة الأصيل والحديث أو قل الثابت والمصطنع.

تلك الأمكنة نبيحها للناس، ليس كل الناس وإنما المهووسون بعالم الموضة والبحث عن اللهو من أجل اللهو والاسترخاء والتباهي و...،توسط الشارع مبهورا بزيه الأنيق وبلافتاته السامقة فوق سطوح العمارات،تساءل ما مكانه وسط هذا الوجود من المتناقضات،جال ببصره على المحلات المتراصة على رصيف الشارع الذي تتوسطه نافورة المياه الضخمة والمقاهي الفاخرة،ثم عبر الطريق إليها عل أصحابها يجودون عليه بعمل أو ما شابهه،عند وصوله اصطدم بصورة وجهه وحالته الرثة على أول واجهة زجاجية لمحل بيع الملابس الجاهزة، استيقظ من سباته ومن سكرة الأحلام الأفلاطونية،تحدث لنفسه بصدق وبدون مجاملة ولا إطراء"ماذا أفعل هنا؟" حاول التغلب على هواجسه ودفع الباب والتقدم نحو الفتاة الجميلة التي تقبع وراء المكتب الزجاجي اللامع وتحتسي القهوة الصباحية من الفنجان المزخرف،لكن شيئا ما كان يكبل رجليه ويوقفه على أعتاب الباب،لم يكن هذا الشيء يدا حارس أمن ولا يدا فقيه القرية اللتان كانتا تعنفانه وتكبحان هروبه من المسيد في صباه،ولكن هذا الشيء في الحقيقة كان هو تلك المقارنة التي أقامها بينه وبين من حوله من الجثة الضخمة، المتأنقة الرافعة رأسها إلى السماء والحاملة في يديها أطباق الورود والحقائب المزركشة بأسماء الشركات العالمية والمحلية،هذه المقارنة التي جعلته يلتفت إلى غياهب طفولته السعيدة ويدلف نفسه عند المساء في أول حافلة متوجهة إلى قريته، هنالك حيث مكانه بين البسطاء أمثاله ذوي الأنفس الساذجة الذين أحبوه وأحبهم بين السهول والهضاب والجبال والبيوت الطينية، بلا كلفة ولا محاباة، بلا كلفة ولا محاباة.

ليست هناك تعليقات: