أحمد طوسون
التقينا عند تعريشة سندس.
افترش كلٌّ منا صفحة من جريدة علي الرصيف وجلس فوقها، ( كنت اشتريتها بحثا عن باب الوظائف الخالية ولم أجده).. سمعنا سندس تنادي علي عامل المقهي ليبحث لنا عن مقعدين فارغين من بين مقاعدها التي تعد علي أصابع اليد الواحدة، لكن صاحبي أشار بأصبعه لها بما يعني أنه لا لزوم لهما وأوصي بكوبين من الشاي الأسود.
أخرج لفافة من جيب صدريته ووضع بها بعض التبغ وقطعة لا تكاد تري من الحشيش ومد يده بها ناحيتي.
شكرته معتذرا وقلت له إنني لا أدخن.
أخذ نفسا عميقا من دخان لفافته واحتفظ به لثوان قبل أن يطرده خارجا وتخيم حول رأسه دوائر الدخان الأزرق..
تنهد وهو ينظر إلي وهج سيجارته وقال:
- رأيتك عنده
وأشار إلي حيث أتينا من الشارع الذي يمتد بلا انتهاء.. ابتسمتُ وقلت:
- وأنا أيضا رأيتك
- وماذا طلب منك؟
- ألفين دولار
سحب نفسا جديدا، وقال باستهزاء:
- يبدو أن التسعيرة واحدة!
حينها أحضر العامل كوبين من الشاي وضعهما إلي جوارنا علي الرصيف وانصرف.
بدا وكأننا تألفنا بسرعة علي طريقة الغرباء عندما يجمعهم منفي واحد ويلذ لهم التخفف مما يحمل القلب من أوجاع_ رغم أننا لم نكن غادرنا بلدتنا بعد!
قال إنه لا حل لنا هنا.
الحل إن وجد لن يكون إلا هناك عند الشاطئ الآخر للبحر، حيث تستطيع الأفكار والأحلام أن تهبط من سمواتها وترتدي الأحذية وتسير بين الناس..
في بلادنا اللصوص يسرقون الأحلام ويلقون الأفكار بالحجارة وينعتونها بالكفر..
لن نجد فرصتنا إلا هناك..
الكبار عندنا يختزنون الفرص في دولاب نزواتهم ليبيعونها في مزاد أو يهبونها منحة لذويهم ومعارفهم، أو ليشترونا ببخس الثمن.
أحيانا يفكر الواحد منا لو كان حيوانا لصار له ثمن أفضل!
مرت السنوات واحدة بعد أخري وتسرب العمر كالماء من بين الأصابع دون أن نحقق شيئا.. الشاطئ الآخر شاطئ الفرص المحلقة بأجنحتها..
ولن أتخلي عن فرصتي للإمساك بالحلم!.
هززت رأسي بما يعني الموافقة علي ما يقوله وقلت:
- ولكن.. من أين سنأتي بالمال؟
- نستدينها.. نسرقها.. نطبعها
- لا يهم
- المهم أن نصل إلي هناك.
قال ثم أطرق برأسه إلي الأرض.
>>>
لم يسألني عن اسمي أو عنواني ولم أسأله عن اسمه أو عنوانه وإن اعتقدت أنه من أهل المدينة حين لم يرافقني إلي موقف الحافلات!
زمرت سيارة بالقرب مني وغطاني غبارها قبل أن يتقدم شاب نحيل شديد الاصفرار ويزيحني من أمامها لأسقط علي الأرض، بينما سائقها توقف للحظات يحدق في عينيّ ويسبني بسيل من الشتائم.
تجمع حولي آخرون وأشاروا له ليكمل طريقه.. مد أحدهم يده ليساعدني علي النهوض وقال:
- هل أصابك سوء؟
هززت رأسي وقلت:
- لا
لم يعقب بكلمة وتركني في لحظة وحيدا بين الزحام.. مسحت الغبار عن وجهي وسرت في طريقي إلي موقف السيارات المتجهة إلي بلدتنا.
ركبت السيارة في انتظار اكتمال عدد ركابها وعدت مع أكوام الظلام التي تكدست بمدخل بلدتنا.
عند الباب كانت زوجتي بانتظاري، مسحتْ كفيها من بقايا سواد وصابون في جلبابها وقالت بلهفة:
- حمدا لله علي السلامة
حاولت تحريك شفتي فلم تستجب من التعب.. دلفت من الصالة إلي حجرتنا في صمت، أزحت صغيري النائم مكاني علي السرير إلي المنتصف ورقدت علي ظهري إلي جواره متأملا سقف الحجرة الذي بدا أكثر قربا عما قبل.
عادت زوجتي بعد أن غسلت يديها ومسحتهما بمنشفة قديمة وأزاحت قدميّ الممدودتين علي أخرهما جانبا.
مدت كفها ودلكتهما فأصابتني قشعريرة، قالت بحنو:
- عملت أيه؟
أخذت نفسا عميقا وقلت:
- طلب ألفين دولار!
خبطت بكفها علي صدرها وقالت:
- يا لهوي ي ي
عاوز الفلوس بالدولار
هنجيب منين؟!!
نظرت عن يميني إلي طفلي النائم بهدوء ورحلة العلاج الطويلة التي تنتظره!
شردت برأسي إلي الشركة التي باعتها الحكومة، وصاحبها الذي قال إنه لا يحتاجنا.. عشرات الأبواب التي طرقتها بحثا عن عمل، ثم عدت بنظراتي إلي وميض الأساور في يديها، وقلت:
- سأتصرف!
>>>
في الصباح لم أسمع رنين أساورها، وضعتهم في كيس وقالت:
- توكل علي الله
- عندما تسافر ستأتي بأفضل منهم..
انزلقت عبر فرجة الباب وتلمست الطريق إلي بيت أمي القريب من الخلاء.. مع كل هبة ريح تتساقط أوراق الشجر كرشح الحنين.
كانت ترشق الماء علي النبات والتراب والحجر، قبلت يديها وشربت شايها الأسود بينما كانت تمط كلماتها بصعوبة، غمغمت وقالت:
- لم يبق في العمر بقية يا ولدي
- ............
خبطت كفيها ببعضهما وقالت:
- رب هنا، رب هناك..
استندت علي عكازها ونهضت إلي جوف الدار، ثم عادت بلفة صغيرة وضعتها في يدي وقالت:
- كنت أحتفظ بهم ثمنا لكفني..
- خذهم
- إن حانت ساعتي، أهل الخير كثيرون
ملت علي يديها لأقبلهما، فسحبتهما وشدتني إلي حضنها ثم أزاحتني إلي عتبة الباب ودارت بوجهها بعيدا وهي تقول:
- اجعل زوجتك تسأل عني
- لا أريد أن أموت وأتعفن دون أن يشعر بي أحد!
خرجت من الباب بينما انغرس بعض الرجال أمام الدور يدخنون النرجيلة وعلا صوت حفيف الأغصان في الأعالي.
ركبت السيارة وانحدرت إلي سوق المدينة المغطي ، غصت في زحام الصاغة وعددت الثمن.. جمعته علي لفة أمي وذهبت إلي سمسار التهجير السري.
وجدته هناك يحمل بين يديه جواز السفر وكيسا يشبه كيس نقودي، نظر كلٌّ منا إلي الآخر وابتسم بصعوبة.
>>>
خرجنا من عند السمسار ثقيلين نجر خطواتنا ككهلين..
مرة أخري توقف بنا عند تعريشة سندس، افترشنا الرصيف وأتي النادل بكوبين من الشاي وانصرف إلي زبائنه.
سألته عن اسمه، لكنه لم يرد.
تطلعت إليه بعد أن استند بوجهه علي قبضة يده وظل يحملق في سندس، لمحت نمشا بنيا داكنا يغطي وجهه.
أشرت ناحيتها وقلت:
- هل تعرفها؟
ظل صامتا، كأنه لم يسمعني.
مددت يدي وهززته برفق، فالتفت ناحيتي، سألته:
- أنت متزوج؟
مط شفتيه وسحب نفسا عميقا وظن نفسه عالقا بين الأرض والسماء، يتأرجح ولا تستطيع قدماه أن تحملاه، هرب بنظراته بعيدا يتابع طفلا يركب دراجته وأمه الشابة تتبعه بنظراتها.
ضحك وقال :
- إن كان لك زوجة وابن هل ستفكر في السفر؟
قلت :
- أنا عندي زوجة وابن!
فكر قليلا، وقال:
- ستسافر وتتركهما؟!
- ...........
- معك حق
علي الأقل تضمن لهما حياة كريمة بعيدا عن هذه البلاد!
صمت للحظات ثم سألني:
- وكيف دبرت النقود؟
- قل لي أنت
- هل سرقتها أم طبعتها أم استدنتها؟
رفع قميصه وكشف عن موضع جرح عميق بجانب ظهره، وقال بسخرية:
- يستطيع الإنسان دائما أن يعيش بكلية واحدة، ليأمن توفير النقود حين يحتاجها!
هززت رأسي مواسيا وقلت:
- أنا أيضا ابني مريض، ويعيش بكلية واحدة!
>>>
كدت أتراجع حين صحبنا السمسار إلي مخزن بالميناء وأشار إلي الصندوق، وقال:
- ادخلْ.
لكنه اقترب مني وقال:
- لا تتردد
- لن يكون الوضع أسوأ مما نعيشه في بلادنا، ساعات ونمر من المعبر وتتغير حياتنا أو نرتاح منها!
أمنَّ السمسار علي كلامه وقال:
- بمجرد أن تتحرك المركب وتغادرون الميناء، سيأتي أحدهم ويخرجكم من الصناديق.
سبقني وقفز إلي داخل أحد الصناديق، فقام السمسار بإغلاقه جيدا، وتسابق الآخرون للحاق كلّ بصندوقه.
تعجبت أنني لم أعرف عنه الكثير، حتي اسمه لم أعرفه إلا عندما صحبنا السمسار ونادي علينا ليعطي كل جواز سفره.
قال أنه لا قيمة لها، احتفظ بها ليتأكد من عدد المسافرين، عندما تصلون إلي هناك تدبروا أموركم بعيدا عن الشرطة.
سألته عن السبب الذي جعله لا يسألني عن اسمي أو يخبرني باسمه؟
قال :
- إذا وصلنا إلي هناك سنتعارف أكثر..
أما إذا فقد أحدنا الآخر الآن..
فلن يوجعه الفراق!
مر وقت حتي علا صوت الضجة، وهزتني رجفة شديدة.. توالي الاصطدام بجنبات الصندوق، وتعددت الخبطات محدثة ضجة مهولة وألما أكبر، أشبه بماكينة عصر عملاقة، تدخل البشر من ناحية لتخرجهم بقايا آدمية من الجهة الأخري، وتنقلهم من عالم إلي آخر.
بعدها ساد صمت وهدأت الحركة.
حاولت زحزحة أعضائي التي أنهكها التعب وأوجعها وخز الإبر، منذ حملتنا الرافعة من فوق رصيف الميناء وألقت بنا فوق ظهر المركب.
كنت أريد الصراخ ليخرجني أحدهم من هنا، لكن تكبلني تحذيرات السمسار أن يحدث أحدنا صوتا فينكشف أمرنا قبل أن نغادر الميناء.
تغلبت علي وجعي وقهرت رغبتي في الصراخ وملت برأسي إلي أسفل لأبتعد قدر المستطاع عن سقف الصندوق ووضعته بين قدمي الذين ضمتهما بقوة إلي صدري، أشبه بالوضع الجنيني.
فتحت عينيّ اللتين أغمضتهما منذ ولجت إلي الصندوق تنفيذا لتعليمات السمسار حتي لا يصيبنا الدوار، فلم أجد فارقا..
أكوام من العتمة الرابضة والوحشة المشتعلة.
طمأنت نفسي، وقلت:
- القاع دائما مظلم.
>>>
بين الخوف والوحشة لا أعرف كيف داهمني النوم..
لم أعرف كم مر من الوقت، كنت آخذ أنفاسي بصعوبة وجسدي داهمته السخونة وظل يرتجف دون أن أستطيع التحكم فيه.
شعرت بحركة من حولي وأصوات استغاثات.
دفعتُ سقف الصندوق بما استطعت من قوة وغصت في زحام الظلام والأجساد والأشياء التي تصطدم وتتراكم فوق جسدي، بينما الأصوات حولي تصرخ بعشوائية، لم استطع تفسيرها إلا حين قال أحدهم أن المركب تغرق.
دوي صوت انفجار عظيم وتطايرت بقايا أخشاب وزجاج مع تلاطم الموج من حولنا.
تعلقت بخشبة قذفها الموج ناحيتي، بينما آخر حاول جذبها نحوه حتي استقر إلي جانبي، نظرت إليه فوجدته هو..
ورأيت عينيه تلمعان بالرعب.
قال:
- سنموت؟
كنت أحس بأن روحي تخرج من جسدي ببطء..
نظرت إلي السماء فرأيت القمر الساطع بفضته الواسعة علي البحر، وتخيلت صغيري يرقد إلي حضن أمه مبتسما في سذاجة، ينتظر عودتي بكيس علاج الآلام..
سحبت نفسا عميقا وقلتُ:
- لابد أن أحدا سيأتي لإنقاذنا..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق