2013/07/30

الكلمة . . رصاصة قراءة أولى في مجموعة (تجّار الفحم ) للقاص ناشد سمير الباشا بقلم: د.فائز طه عمر



الكلمة . . رصاصة
قراءة أولى في مجموعة (تجّار الفحم )
للقاص ناشد سمير الباشا
د.فائز طه عمر

لم يكن العراقيّون , يوما , غافلين عمّا جرى ويجري لهم , ومن حولهم , ولم تمرّ عليهم حيل المكر وألاعيبه , إلا بالقهر والقسر , على أنّهم , إن امسكوا بكُوّة من حريّة مهما صغُرت ، صبّوا بها ومن خلالها ما يعبّرون به عن وعيهم وموقفهم ورفضهم وحيويّتهم .
فذلك الاحتلال البغيض الذي هيمن على الوطن غصبا , لم يرض به العراقيّون , باختلاف ألوانهم وأطيافهم , إلا من جعله ممرّا له لإصابة مغنم أو لتطمين أطماع أو أمراض , لكن على حساب كرامة الشعب وآلامه وجراحه , وما تعرّض له من نكبات طوال سنواته العجاف , وما تمخّضت عنه .
والوعي , عند المبدع , يقترن بالانفعال المنبثق عن تفاعله مع الحدث , ليُصبح موقفا يتصوّر بالكلمات الموحية من خلال أنساقها وعلاقاتها , لتكون تلك الكلمات هنا فعلا مقاوما , فهي كلمات حارقة خارقة تفضح الجريمة وتحاول درء آثارها , وتعرّي المجرمين وتمحقهم , ذلك ما تجلّى في الأدب المقاوم الذي ما فتئ يبادر إلى فضح الجريمة والمجرم , ويصوّر نكبات هذا الشعب ويبكي آلامه , بوعي انفعالي شاعريّ مُفض إلى فتح منفذ , وإن صغُر , للولوج إلى قابل مشرق , لعلّه يأتي ذات يوم , بعد أن ملأ أحلامنا , وأرّقنا الشوقُ إليه , لعلّه يُقبل قبل نـفاد السنين , وذبول الدقائق والساعات , على أننا قد نورّث هذا الأمل لأبنائنا فتلمع في عيوننا لمعة أمل يبددّها هذا الحزن الجاثم على صدورنا  منذ سنوات عشر .على أنّ العراقيّ إنسان حيّ لا يستسلم للاحتلال ولا لإفرازاته بل يثابر على فضح جرائمه ومكره , ممّا تجلّى في مقاومة العراقيين له ولما يمثّله, مقاومةً أخذت أكثر من منحى حققّه هذا الشعب العزيز الأبيّ , وها هو القاص ناشد سمير الباشا واحدا من رموز المقاومة الأدبية في العراق , يُعرّي بأعماله القصصيّة الإبداعيّة  , ذلك الاحتلال ويصوّر مشاهد أبانت عن عُنجُهيّته وجرمه المشهود , في مئة قصّة وقصّة قصيرة وقصيرة جدا , ضمّتها مجموعتُه القصصيّة ( تجّار الفحم ) التي صدرت عن دار تمّوز , دمشق ,2011م , تمكّنت من فضح الاحتلال الكريه وقسوته وبطشه وقتله الأبرياء , بمواقف سرديّة مُثيرة مُستفزّة للقارئ , عرضت أيضا لرؤيات  متباينة منه , ممّا نجده , مثلا في قصّة (أستاذ جامعي  ص 128 ) التي تحدّثت عن مواقف عديدة من الاحتلال , من ذلك موقف مواطن سرعان ما طفحت مشاعره بعد حدوث انفجار ما عرف أمثاله العراقيّون قبل الاحتلال , فبعده بادر مدير المدرسة إلى إخراج الطلبة والمدرّسين من المدرسة , وهو يصبّ جامّ غضبه على الغزاة المجرمين ومن أتى معهم , معبّرا عن وعي جماعي يشير إلى أنّ من أتى لنا بهذه التفجيرات إنما هو الاحتلال : (  لعنات الله على الغازين وأشياعهم . . ) , فقبله لم تشهد مدن العراق , إلا نادرا , مثلها ولا شك في أنّ نسبة هذا القول إلى شخصيّة المدير مقصودة من القاصّ , فالمدير ذو معرفة بما جرى , بحكم السنّ والتجربة والوعي , ممّا يُشير إلى وعي القاص الباشا بفعل شخوص قصصه , فمن خلال إحدى شخصيات القصة نفسها يطرح لنا فكرة مهمة أخرى تتعلق بنظرة العالم الغربي إلينا , فهم الأقوياء المحتلون الآن , فما دمنا راضحين لهم  لن نحظى بأيّ احترام منهم , أمّا إن قاومناهم فسوف يحترموننا ويحسبون لنا حسابا , ممّا عبّر عنه مدرّس اللغة الانكليزية في خطابه تلاميذه بقوله)   : ضعوا هذه الوصيّة قرطا في آذانكم , إنهم لا يحترموننا ما دمنا لا نقاومهم ..) , فهذا المدرس مطّلع بحكم تخصصه , على ثقافة الغرب لذا كان قوله هذا مقبولا ويحمل فكرة دافعة إلى أن نكون أقوى وذوي فاعليّة في الحياة لنحظى باحترام الآخر , ويبدو أن القاصّ الباشا كان يزاوج في إبداء المواقف , فيقول أكثر من فكرة في آن واحد , محاولا إدانة مرحلة الاحتلال في إيجادها مناخا ملائما للفساد وسيادة الجهل الذي تبرقع بالشهادة العلميّة التي لم تعدّ دليل علم , منذ زمن , ممّا عرضه من خلال شخصيّة أخرى في القصّة نفسها , هي شخصيّة الأستاذ الجامعي صاحب اللقب العلمي الرفيع الذي غدا غير ذي معنى و لا مضمون , فهذا الأستاذ الذي صوّره القاص الباشا بصورة ساخرة تُظهر تشبّثه بلقب أو بقشرة سرعان ما تتهاوى أمام أيّ سؤال مهما كان سهلا , فـهــذا الأستاذ الذي كان ( يعـوج حـلقه قائلا : أنا فُـل بـروفسـور . . ) لم يقو على الإجابة عن سؤال ظلّ تلاميذه يوجّهونه إليه , طوال عام دراسي , عبّروا به عن رغبتهم في إظهار الشبه بين الاحتلال الذي شهده العراقيّون عام 2003م  والاحتلالات السابقة , وتبيان مخاطره وعواقبه , فبدا هذا الأستاذ فارغا إلا من تبجّح زائف .
إنّ إدانة الاحتلال الذي اضطلع به القاص ناشد سمير الباشا تحققت , ليس فقط من خلال عرضه آراء شخوص معيّنة ووجهات نظرها , بل  بسرده أحداثا ذات دلالة عميقة تدور حول موضوع القصص كلها وهو إدانة الاحتلال ومـن جـاء معه , على أنّ ذلك تحقّق بأنماط سرديّة قصصيّة متنوّعة ليس من السهولة الإحاطة بها في هذه العُجالة , على أنّ هذه المقالة ستعرض لعدد محدود من هذه القصص مع ما عرضناه  لما قاله في قصة : أستاذ جامعي سابقا , غير غافلين عن أنّ هذه القصص قـد اختلط فيها الخيالي بالواقعي , فالكثير مما انتجته مُخيّلة ناشد الباشا معبّر عـن واقع , فالقـصص الخيالية مـنبثقة مـن واقـع عاشه القاص  وعـاناه , كما عاشه العراقيون كلّهم , وعانوا ويلاته , ففـي القصة القصيرة جـدّا :(الـطعام , ص 30 ) , يسرد القاص , بسرد ذاتي , حدثا عبّر به عـن رغبته في طعام ما , فما إن افترش , كما اعتاد كثير من العراقيين , جريدة مُصوّرة , حتّى غدت صور الأشلاء العراقيّة  المنشورة فيها طعامَه أي أنها أبطلت رغبته في تناول الطعام , نتيجة ما بعثه مرأى هذه الصور من  تقزّز في نفسه , فما إن أخذ يقلّب الجريدة  ليُبعد منظر الجثث عن ناظريه حتى ارتسمت أمامه الأكاذيب المسطّرة والتزويقات الزائفة مما زاد من تقزّزه , بل إنه وجد أنّ كلّ شيئ بـدا باعثا على التقيـّؤ والحزن في زمـن الاحتلال , فلم تعد لديه رغبة في أيّ طعام , فالقصة صوّرت حال العراقي تحت وطأة الاحتلال الذي لم يكن  يعني أكثر من  القتل والفساد والقبح والكذب , فهو وجبة فاسدة جعلت السارد يشعر بفساد كلّ شيئ حوله  حتى الهواء , فقصة طعام قصة كثّفت مآل الأمور في ظلّ هذا الاحتلال البغيض , في سياق سرد ذاتي قصده القاص ليُعطي للحدث بعدا واقعيّا يكون السارد شاهدا عليه , ويتخلّل السرد  الذاتي سرد أوّلي رصد به شيئا ممّا جرى خارج إطار الحدث الأساس , على أنّه يعزّز ما أراده القاص .
ويستفزّنا اختيار اسم مالك لبطل القصة القصيرة جدا :( الإرث ص32 ) , فهو مواطن فقير لا يملك سوى وظيفة لا تدرّ عليه إلا بمـا يوصله وعائلته إلى الكفاف , مما يجعل لهذا الاسم دلالة ضدّية أفصح عنها الباشا بوصفه مالكا هذا بأنه مــواطن ( بلا زيادة , ولكن ربما بنقصان , فلا ملك صرفا يسكنه . . ) , فليس عنده إلا حبّ نقيّ قويّ صاف لبلاده التي وقعت تحت نير الاحتلال , قاده هذا الحبّ إلى أن يكون بطلا مقاوما تكللت مقاومته بشهادة كان يتمنّاها , وفاجأت من يعرفه  , وحمّلت اسم مالك دلالة أخرى نصفُها بالدلالة التوافقيّة فالملك الحقيقي هو ما حصل عليه هذا الشهيد , ولم تغب باستشهاده المبارك جذوة الكفاح عند العراقيين , ولن يُلغيها القتل والإضطهاد والتضييق , بل هي مُتّقدة في ضمائرهم , يأخذها أحدهم عن الآخر والأبناء عن الآباء إرثا عزيزا , فها هو القاص يسرد حدث قيام ابن الشهيد مالك فجرا , بالكتابة على الجدار الأبيض بلون أحمر : ( سنحرّر العراق . . ) , وقد وُصف اللون الأحمر بالبهيج , فهو مبعث فرح لمن رآه بكلماته التي تكتنز الآمال والعزم والتصميم , وهو إشارة إلى أنّ الهدف لن يتحقق إلا بدم أحمر قان هو مهر الحريّة المُرتجاة , ومن هنا نُدرك دلالة عنوان هذه القصة : الإرث , فالكفاح متواصل يرثٌه الأبناء عن الآباء الذين بذلوا و سقطوا شهداء لعيون العراق الذي يحبُه أبناؤه حرّا كريما عزيزا يرسم معالم مستقبله محبّوه الأصفياء , لا يحبّون به مالا ولا منصبا ومطمعا , فهم لا يعون ولا يعرفون سوى أنّ هذا العراق وطن أحلامهم التي لا تحلو إلا في أرجائه , لقد كان القاص ناشد الباشا بارعا في هذه القصّة القصيرة جدّا في اختيار عنوانها واسم بطلها ووصف اللون الأحمر بالبهيج .
ويلوّن القاص الباشا قصصه بتوظيفه فيها ما تكتنزه معارفـه وثقافته ليصوّر الأفكار على نحو موح ومُثير ومُستفِز , فها هو في قصّته القصيرة جدا : ( المُبشّر ص110) يستعير شيئا من المعراج الصوفي في الترقّي في العبادة إلى مُنتهاها في رحلة التخلّي عن كلّ علاقة بالدنيا وشهواتها , ولم يدُر في  هاجسه , كما صرّح , محاكاة شيوخ الصوفيّة فـي القيام بكرامة مـا : ( ولكنني لم أمشِ على الماء كجدّي البسطامي , ولم أغب في الهواء مثل جدّي بشر الحافي . . ) , على أنّه رغب في استباق الزمن ليطمئن على مستقبل العراق , ليعود من رحلته الكراميّة مُبشّرا بما رآه : ( إذ شهدت بأمّ عيني ما وعد الله على لسان دماء الشهداء . ) , فهذه القصّة القصيرة جدّا جاءت محاكية للسيرة الذاتية الصوفيّة في اعتمادها السرد الذاتي و مفاجأة المُتلقّي بحدث خارق للعادة  انتجته مُخيّلته , فضلا عن أنها بشّرت بأن دماء الشهداء لن تذهب سُدى فالنصر آت والمُحتلّ راحل غير مأسوف عليه .
ولم تفُت القاص الباشا أن يطرح أمام القارئ نماذج من أبطال هذا الزمان الذين ارتموا تحت حذاء المحتل سيّدهم الذي لولاه ما كان لهم قيمة ولا وجود في عراقنا الطاهر فهم الذين دنّسوا أرضه , ممّا أفصح عنه ذلك العبد الذليل الذي حصد منافع ورتبا ومناصب والذي أعلن لرئيس حمايته الذي لم يصدّق ما تعامل به جندي المارينز مع سيّده الذي صرّح له بأغرب ما رآه بقوله : ( هب أنه صفعني , أو ركلني , أو سبّني , فلا خيار لي إلا أن أتقبّل منه ذلك , فمن لنا غيرُهم ؟), ممّا صوّرته قصّتُه القصيرة الحواريّة ( المملوك ص 44 ), وقد اعتمد القاص السرد الأوليّ  القصير ليُهيّئ لحوار متبادل بين هذا الزعيم ( المملوك) , ورئيس حمايته , على نحو قلّب به الأفكار وصرّفها لتقترب من ذهن المُتلقّي مباشرة لا لبس فيها , مُحققة هدفها الذي كان إدانة سلوك دهاقنة الاحتلال وأزلامه والتبرّؤ منه , بل تبرّؤ العراقيين كلّهم منه .
إنّ هذه القراءة العجلى أبانت عن براعة استند إليها القاص ناشد سمير الباشا في قول ما أراد قوله في سياق قصصي تصويري موح ومُستفزّ للقارئ , بما امتلكه من قدرة على توظيف السرد والحوار والخزين الثقافي المعرفي الذي استقاه من منابعه الثقافيّة , وباختياره الدالّ أسماء بعض شخوص هذه القصص , ووضع اللون في سياق إيحائي , ممّا كشفت عنه قراءة خمس قصص من قصصه الغزيرة التي ضمّتها مجموعته ( تجّار الفحم ) التي تحتاج , كما أظن إلى منهج نصّي حديث يواكب قوّة الإبداع فيها , وهي في مجملها , تُنصف العراقيين  بأنّه شعب حيّ لا يموت , قادر على المقاومة وصنع الحياة , رافض لكل أشكال الاحتلال .

ليست هناك تعليقات: