أقيم على قاعة المركز الثقافي النفطي في
العاصمة بغداد يوم 30 حزيران 2013 حفل تكريم الفائزين في مسابقة شبكة أنباء العراق
الثقافية والأدبية في دورتها الرابعة وقد حصلت القاصة إيمان أكرم البياتي على
المركز الثاني عن قصتها (حلم جميل بلا عطب)
حلمٌ جميلٌ بلا عطب
إيمان أكرم البياتي
أحلمُ بيوم يسألني فيه طفلي: أمي، ماذا تعني كلمة حروب؟!
الشاعرة إيفا ميريام
تحاولُ تهوينَ الأمرِ على نفسها لكن لا جدوى، لم تكن خائفة أو قلقة أو مترددة وهي على سريرها البارد بل كانت غارقة في حزنٍ مطبق أحكم سيطرته الكاملة على لسانها كاللجام حتى افقدها القدرة على النطق وعلى ترديد آيات القرآن التي تحفظها منذ طفولتها.
أنينٌ من الأعماق يعتصرها ويتلوى داخلها، يُذكِرها بما فيها من أوجاع الذكريات وحسرات اليوم، هاهو حلمٌ آخر يُخلق داخلها ثم يتشوه فيسقط صريعاً سريعاً من فلكِ الأمل إلى مستنقع البؤس والضياع الذي فرضه عليها واقعها، كم تمنت أن يولد هذا الطفل، بل كم فرحت يوم عرفت أنها حُبلى تحمله في رحمها، لكن لم تُطرح سعادتها ربيعاً بعد ذلك ولم يعلو عطر زهوره الأفق ولم تتكور ثماره الشهية فوق أغصان الحياة الندية بل بُترت سريعاً أجنحة ذلكَ الحلم، لم يعلو ولم يرتفع فوق الأرض ولم تكن أجنحته البيضاء تلكَ سوى الكفن!
يترددُ على أذنيها الآن ما قالته الطبيبة لها يوم خَنقت سعادتها بسلكٍ من الحروفِ الشائك:
الطفلُ مشوه، حالتكِ هي الثامنة التي تمرُ بي خلال عام واحد، لا تستغربي ولا تحزني فلستِ وحدكِ في هذا المصاب يا عزيزتي، إنها الحربُ لم تحرق أرضنا وتقتلُ شبابنا وتُسقطُ بيوتنا فوق رؤوسنا فحسب بل حرقت حتى الأجنة في ارحمِ نسائنا حتى عشرات السنوات اللاحقة رغم انطفاء نيرانها رسمياً ودولياً، لا ذنبَ لكِ سوى انكِ رحم من هذه الأرض جرى عليكِ ما جرى عليها من حرب! احتسبي الأجر وتذكري أن طفلكِ سيكون طيراً من طيور الجنة، هناك لن يكون مبتوراً سيكون جميلاً.
عند الفجيعة نحن نتذكرُ كل أحزاننا المدونة في سجلات الأمس، فعقلنا لا ينسى رزنامة أوجاعه أبداً مهما رشوناه بأفراح قصيرة، تأملتْ حزنها لوهلة لا تعرفُ حقاً من ترثي اللحظة؟ طفلها الذي خُلق مشوهاً بلا رأس أم تبكي أنوثة سُلبت منها منذُ ولدت؟ كم ابتلعت من حسرات ذلكَ اليوم حين عقدت قرانها على فرحة ناقصة، يوم تزوجت برجلٍ أو نصفَ رجل كما وصفوه لها، مسكينة ظلت تقاومُ كابوس العنوسة لسنواتٍ طوال دون جدوى حتى جاءها رجلٌ فقير الحال يكبرها بعشرين عاماً وأكثر، قيل انه أسيرَ حرب سابق أفقدته سنواتَ أسره في تعذيبِ السجون بعضاً من عقله، فكانَ حلم الفستان الأبيض مبتوراً هو الآخر وفيه بعضٌ من رائحة العطب بدلاً من رائحة المسك أو العنبر! كل ذلكَ كان سيهون لو خرج طفلها للحياة، كانت ستتجاهل لأجله كل أحزانها، تتصالح مع القدر، ترمي بثوب سواد الأيام وتُزف إلى الحياة من جديد عروساً بنقاء الأمومة، لكن ها هي اليوم تستدين المالَ من الجيران لإنزاله من ظلمة رحمها لظلمة قبره مباشرة! إما أن يموت الآن أو يموت لاحقاً فالنتيجة واحدة بكل حال من الأحوال، أليسَ الأمرُ مضحكاً مبكياً حد الفجيعة؟! من تتحملُ ما يحملُ قلبها الآن من وجع؟!
تلتفتُ حولها، وتنظرُ إلى ساعةِ الحائط التي تقرأ السابعة مساءاً بتوقيتِ الحزن الآن، تبصرُ من بعيدٍ طبيبتها وهي تلبسُ الأكمام البلاستيكية البيضاء استعداداً لعملية الإجهاض، إذن لم يبقَ إلا دقائق وسوفَ يصمتُ عقلها العنيد عن التفكير رغماً عنه بفعلِ المخدر الذي ستحقنُ به، ظنتْ انه ربما من الأفضل أن تفكرَ بشيء فيه بعض من الأمل كما نصحتها الطبيبة، فأقحمت في أفكارها صورة ذلكَ الرجل المتفائل الذي لمحته من نافذة السيارة اليوم، كان واقفاً تحتَ أشعة الشمس التموزية عند مدخل المستشفى قربَ الجدران الإسمنتية وكأنه لا يشعرُ بالحرارة، يبدو منشغلاً بتفاؤله بين علب الألوان، يحملُ فرشاته ليرسمُ زهوراً وفراشات وأبراج حمام محاولاً إخفاء بشاعة وجه تلكَ الحواجز الصماء بألوان فرشاته وأحلامه ربما كان يرى صورةً مختلفة لبغداد في رأسه لا نراها نحن الحزانى الذين أنهكنا اليأس، ربما .... ربما ثم اخترق خيالها مشهدٌ جميل لأطفال مدرسة ابتدائية، شاهدت مسيرتهم في التلفاز ليلة الأمس خرجوا للشارع بزي أبيض ملائكي يحملونَ وروداً حمراء ويهتفون:
نعم للسلام...لا للطائفية! كان زيهم جميلاً وأحلامهم أجمل ليتها لا تعاني الاختزال هي الأخرى.
اقتربت منها الطبيبة وقطعت عليها أفكارها على اختلاف أنواعها، وراحت تحقنها بسائل مخدر، تمنت أن تنام سريعاً علها تصحو على حلم جميل بلا عطب، رددت بصوت ضعيف قبل أن تفقد وعيها:
لن يكون مبتوراً سيكون جميلاً... لن يكون مبتوراً سيكون جميلاً!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق