شاطيء البلدة
هشام جلال أبوسعدة
سيارة بيضاء مَكشوفة تنطلق رَماحة في الطريق الواصل للمطار،
حافة بمنابع نهر النيل الأبيض لتصل لحَتَّى بوابات المرور، عابِرة منها دون
مُشكلات، تاركها راكبها الشاب في الموقف الخاص، مُترجلًا، مُنطلقًا لصالة السفر
الدولية، حاملًا حقيبة سفر بنية، متوسطة الحجم، مُجتازًا للجمارك مُنتصبًا في
طابور المصطفين للصعود إلى الطائرة. يقترب منه شخص بهدوء واضعًا في جيبه ورقة
بيضاء صغيرة، يفتحها بعناية يبدو المكتوب فيها مجرد تلميح: القارب البحري منتظرك
وزوجتك بالقرب من شاطئ البلدة، متمتًا عند رؤيتها: زي العسل، في عُمرِّ أمي إزاي
يعني؟ لقاء يبدو غيرّ مُدبر. انطلقوا في الحافلة البيضاء الضخمة،قطعوا الطريق
السريع، مجاورين لحافة الحدود. يرمقها بعينه، فيراها مرتدية ملابسها هفهافة ملونة
خلاف ما ترتدي في المؤسسة، فملابسها هناك مُحتشمة مُتحفظة، يبدو له جسمها فاتنًا
مثيرًا:
-
مالك! بتبصلي كده ليه!
-
حضرتك احلويتي أوي.
-
تُغلق عينيها بطعامة: يعني أنا ما كنتش حلوة؟
-
لأ لأ، بس متغيرة عليه، يمكن علشان استايلك اختلف؟
-
رايحين رحلة، حبيت أكون على راحتي، مش أحسن؟
-
طبعًا طبعًا، أحسن بكتير؛ بس حضرتك حلوة في كُلِّ وقت.
-
متشكرة على المجاملة، تنظرله بعيون فاتنة آثرة.
نقلتهم الحافلة عبرَّ الطريق البري، يشعُر بحرارةِ جسدها ملاصقًا له، فكأن
شعلة نار تحرق فؤاده، ركبوا بالطائرة، طوال الرحلة يتودد إليها، فلم تلحظ هي أكثر
من أنه شابًا في عُمر ابنها إن كانت أنجبت. لا تنسى أبدًا، سيظل ابن أعز صديقاتها،
في منزلةِ أمه، من اختارت له اسمه يوم ولادته أخذته من حروف اسمها. طوال الرحلة
جالسة بجواره براحتها، مطمئنة لوجود ابنها معها، نصف الرحلة نائمة متجردة من
الصندل الصيفي المكشوف، فتتبين له قدميها لحَتَّى أعلا الركبتين، فلم يغمض له جفن.
لم يدير رأسه عنها طوال الرحلة مُتفحصها مُتتبعها من أعلى قمة رأسها لحَتَّى أخمص
القدمين، منتظرًا عند كُلَّ بقعة لدقائق لتمتلئ ذاكرته بجمالها الفاتن. يحاول
بِكُلِّ جهده اخفاء ما انتابه، مُنزلًا بهدوء طاولة الطعام، واضعًا عليها ما معه، في
لحظة تفحُصه لها وتفكيره فيها تفتح هي نصف عينيها، بلطف:
-
مالك؟ نام شوية؟ كده هتتعب، الرحلة لسه طويلة.
قالت ذلك نصف نائمة، تُغمض عينيها غيرّ مبالية بما يتبين منها ولا بحالته.
انتصفت الرحلة بعد أن تعدت حالته لأول مرّة في حياته ذلك القدر من التوهج، فتلك
المرة الأولى التي يقترب منها لهذا الحد. فيتحول الحب الكامن لهاجس جنسي خالص،
أصبح غيرّ قادر على السيطرة على أفكاره وشهواته: رَّبنا يخرب بيتك يا فرويد، باين
كلامك هيطلع صح! يجلس بجوارها، يعاود النظروالتفحص، طالبًا من المضيفة كوبماءِ
بارد، يغمض عينيه، فلم يفق إلَّا على أصابعها:
-
صح النوم، الحمد لله على سلامتك، نزلت بالسلامة.
***
مُنتظرتهم أمام الباب الخلفي للمطار سيارة مكشوفة، تنطلق بهم مباشرة إلى
الساحل البحري، ليستقلوا معًا المركب البحري السريع الذي اشتراه له أبوه بعد تخرجه
مباشرة من الجامعة، لمعرفته بحبه الجارف لحياة البحر، يقوده تصاحبه بمفردهما،
متجهين ناحية شاطيء البلدة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق