2013/12/17

مع يوميّات الدّكتور أبي القاسم سعد الله في القاهرة بقلم: عبد الله لالي



مع يوميّات الدّكتور أبي القاسم سعد الله
في القاهرة
بقلم: عبد الله لالي
أوّل كتاب كامل قرأته لشيخ المؤرّخين الجزائريين أبي القاسم سعد الله؛ هو يوميّاته في القاهرة عندما كان طالبا أثناء الثورة التحريريّة المباركة والكتاب من جزأين ويقع في حوالي 650 صفحة من القطع الكبير وفي الحقيقة أصبت بشيء من الخيبة وأنا أقرأ تلك اليوميّات ! فقد اقتنيت الكتاب وأنا أمنّي نفسي بقراءة تفاصيل دقيقة وتحاليل عميقة للأحداث في تلك الفترة ورأي الأستاذ سعد الله فيها، رأيه البكر لمّا كان ما يزال في مرحلة الطلب، كانت خيبة الأمل ناشئة بكلّ بساطة من الاختصار الشديد الذي سار عليه في تلك اليوميّات، بحيث كان يسجل أهمّ الأحداث التي تقع له يوميّا أو يسمع بها لاسيما ما يتعلّق منها بالثورة التحريريّة.
يقول في مقدّمة مذكراته هذه:
" بدأت أكتب يوميّاتي في القاهرة في فبراير سنة 1956 م. ودام ذلك مع بعض الانقطاع إلى الوقت الحاضر.( يقصد ماي 2004 زمن كتابة مقدمة الطبعة الأولى التي نشرتها وزارة المجاهدين ).
ففي الخامس من شهر فبراير المذكور اشتريت مفكرة صغيرة بحجم 10 × 15 سم، وكتبت فيها أوّل يوميّة متعهدا أمام نفسي بالاستمرار على ذلك المنوال، وقبل اليوميّة كتبت افتتاحيّة تحت عنوان ( بين يدي هذه اليوميّات ) لخصت فيها ما عشته منذ وصولي إلى القاهرة في 24 سبتمبر سنة 1955 م، ففي آخر كلّ يوم كنت أكتب صفحة واحدة فقط حفل اليوم بالأحداث أو لم يحفل.."      
لكن رغم ذلك أقبلت على اليوميّات بنهم وقد أتيت على الكتاب كلّه في بضعة أيّام، وتشكّلت لديّ صورة تقريبيّة عن شخصيّة الأستاذ سعد الله، وطريقة تفكيره وميوله ونشاطاته في تلك الفترة الهامّة من حياته وحياة الجزائر..   
وثاني شيء صدمني في تلك المذكرات هو العلاقة المتوترة التي نشأت بين الكاتب والشيخ البشير الإبراهيمي بادئ الأمر بعدما كان مقيما في مكتبه بالقاهرة مدّة 15 يوما، ثمّ أخرجه منه بطريقة مشينة، وهذه العلاقة المتوترة أصلحت بعد ذلك بقوت يسير،  بعدما زال ما كان بينهما، وقد قال الدكتور سعد الله نفسه :
 " وكان الشيخ عشيّة نزولي عنده يعاني من تقدّم السّن، ومن وضع سياسي متأزّم مع ممثلي جبهة التحرير في القاهرة لاختلاف في الرؤية، ومع السّلطات المصريّة لصلته بالإخوان المسلمين، ومن خروج بعض طلبة البعثة عليه، وغير ذلك من المشاكل التي بحكم سنّي وبعدي لم أكن أعرفها. ومع ذلك استقبلني كأحد أبنائه، وفتح لي الباب بنفسه ساعة وصولي، وعمل على تزكية طلبي للدّخول إلى إحدى الجامعات، ثمّ تولّى مكتبه دفع منحة السّكن المخصّصة لطلبة البعثة رغم أنّي لست منهم. إنّني أسجل هذا هنا لكي  أقول إنّ ما جاء في ( بين يدي اليوميّات ) هو مجرّد انفعال ناتج عن سوء فهم، وقد توطّدت علاقتي بالشيخ بعد ذلك فكان يدعوني " سعد السّعود " وكنت أزوره في بيته في مصر الجديدة بعد رجوعه للقاهرة..."
وقد كانت تلك المشكلة الناتجة عن سوء التفاهم أو الفهم؛ مجرّد سحابة صيف انقشعت سريعا، ومعروف بعد ذلك علاقة الدّكتور سعد الله بجمعيّة العلماء، ووفاؤه الكبير لرجالها وشخصياتها وتمسّكه بمبادئها وأفكارها، التي ربّما تسببت في تهميشه وعدم إعطائه المكانة المستحقّة من قبل الرسميين في الدّولة..     
ويتجلّى في هذه اليوميّات حسّ المؤرّخ بشكل واضح جدّا، أولا لأنّه كان يسجّل الأحداث التي تمرّ به أو تقع في العالم من حوله يوما بيوم، بشكل مركّز ومختصر، ثمّ بعد ذلك صار يسجّل أهمّ الأحداث فقط، وهذا دليل على الشعور بضرورة انتقاء الأحداث، لأنّ المؤرّخ لو يسجل كلّ الأحداث اليوميّة تستغرقه التفاصيل الصغيرة وتذهب بوقته وجهده، وربّما تشتت فكره، والأمر الثاني هو حرصه بعد كتابة تلك المذكرات أن لا تضيع منه وهو في موطن غير موطنه، فاضطرّ إلى تفريق المفكرات التي كتب فيها تلك اليوميّات عند عدّة أشخاص..وبذلك استطاع أن يحافظ على الجزء الأكبر منها في الحقيبة التي استودعها لدى أخيه علي سعد الله.
إنّ الدكتور سعد الله من خلال تلك اليوميّات كان منضبطا في دراسته؛ انضباطا شديدا جعله في كثير من الأحيان يعيش شبه انقطاع كامل يدوم بضعة أيّام متواصلة عن العالم من حوله، رغم أنّه كان متفتحا واجتماعيّا يرتاد المراكز الثقافيّة ودور السينما ويسهر مع أصحابه، غير أنّ جلّ وقته كان مسخرا للبحث والدّرس..   
وتعتبر مقدّمة كتابه هذا صورة حيّة لمنهج سعد الله في كتابة المذكرات أو اليوميّات وفقا للمصطلح الفنّي الدّقيق كما ذكر في هذه المقدّمة ذاتها، ولو تفرّغ الباحث العلمي لاستخلاص منهجه العلمي في الكتابة لاستطاع أن يخرج بالشيء الكثير، فهي مقدّمة غنيّة وثريّة..
بدأ كتابة هذه اليوميّات – كما ذكر – في فبراير 1956 م، وبعد مرور عام كامل على كتابة تلك اليوميّات سجّل ملاحظة بتاريخ الخامس من فبراير عام 1957 م ذكر فيها أنّه مرّ عام على بداية تسجيله لتلك اليوميّات وحمد الله تعالى على ذلك التوفيق، ثمّ غيّر منهجه في كتابة اليوميّات، إذ لم يعد يكتب كلّ شيء إنّما يسجّل أهمّ الأحداث في حياته التي يرى أنّها تستحق التدوين.
وجاء في اليوميّات ذكر لكثير من الأحداث والأخبار التي وقعت في تلك الفترة، لاسيما ما كان يتعلّق منها بأحداث الثورة التحريريّة، أو ما يتعلّق بحياته هو الشخصيّة، كما يذكر فيها كثيرا من الأعلام والمشاهير، ورجال السياسة والأدب والفكر والإعلام، وقد ذكر الدّكتور أبو القاسم سعد الله أنّه كان يراسل جريدة البصائر ببعض الأخبار، وكانت الجريدة تنشرها تحت عنوان ( رسالة القاهرة )، وذكر في اليوميّات أيضا علاقته التي توطدت بالشيخ ( الرئيس ) البشير الإبراهيمي وقال أنّه كان كثيرا ما يرافقه في جولاته داخل القاهرة، وذكر أيضا أنّه كان يشاهد معه بعض الأفلام السينمائيّة، وهذا يعطينا ملمح آخر يشير إلى شخصيّة البشير الإبراهيمي المتفتّحة والمرنة، رغم أنّه كان ثاني أكبر علماء الجزائر بعد الشيخ عبد الحميد بن باديس وكانت تربطه بالإخوان المسلمين وكلّ الحركات الإسلاميّة في العالم علاقة متينة. 
وفي هذه اليوميّات رصد متتابع لمعاناته الشديدة من النّاحية الماديّة إذ يذكر أنّه كثيرا ما يضطر إلى الاكتفاء بوجبات خفيفة، رخيصة الثمن أو يلجأ إلى أكل طعام مرّ عليها ثلاثة أيّام أحيانا، دون أن تكون عنده وسائل للتبريد أو حفظ الطّعام.  
وفي اليوميّات أيضا ذكر لقصائده الشعريّة التي كتبها في تلك الفترة وديوانه الذي طبعه وقدّم له الشيخ البشير الإبراهيمي وهو بعنوان ( النّصر للجزائر ).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
توفي شيخ المؤرّخين الجزائريين في 14 ديسمبر 2013 م فرحمه الله رحمة واسعة.

ليست هناك تعليقات: