2013/12/25

قراءة في العدد (4/5)من مـجلة بونة للبحوث والدراسات الخاص بـمالك بن نبي بقلم: محمد سيف الإسلام بـوفلاقة



في الذكرى الأربعين لرحيل فيلسوف الحضارة
قراءة في العدد (4/5)من مـجلة بونة للبحوث والدراسات الخاص بـمالك بن نبي
بقلم: محمد سيف الإسلام بـوفلاقة
 قسم اللغة العربية ،جامعة عنابة ،الجزائر
   دأبت مؤسسة بونة للبحوث والدراسات بعنابة منذ فترة على الاحتفاء بفكر وجهود فيلسوف الحضارة الجزائري مالك بن نبي،حيث أصدرت منذ فترة كتاباً هاماً للعلاّمة المغربي عبد السلام الهراس صديق مالك بن نبي الذي كان يسكن معه في غرفة واحدة في مدينة القاهرة،تحت عنوان:«من ذكرياتي مع مالك بن نبي»و هو عبارة عن محاورة فكرية أجراها الصحفي المغربي محمد البنعيادي مع المفكر والعلاّمة المغربي عبد السلام الهراس،وتطرق فيها إلى الكثير من  جوانب علاقته بمالك بن نبي،واستعاد من خلالها ذكرياته معه،فهو     يتحدث   عن حياة وفكر مالك بن نبي  كما عرفه،فقد كان صديقا له حيث سكن معه في غرفة واحدة في الخمسينيات بالقاهرة،وكان الدكتور عبد السلام الهراس من الذين سعوا إلى ترجمة كتب مالك بن نبي إلى  اللغة العربية.
كما أصدرت مؤسسة بونة للبحوث والدراسات التي يترأسها الباحث الدكتور سعد بوفلاقة عدداً مزدوجاً هاماً من مجلة بونة للبحوث والدراسات التي هي مجلة دورية محكمة احتفت فيه بالذكرى المئوية لميلاد  المفكر الكبير مالك بن نبي سنة:2005م، كتب فيه عدد كبير من كبار المفكرين العرب الذين عرفوا مالك بن نبي   واهتموا بفكره،كما قدمت ابنته رحمة بنت مالك بن نبي شهادتها عن والدها، وقد اشتمل ذلك العدد  على مجموعة من الدراسات القيمة عن مالك بن نبي وأفكاره، تناول فيها الكتاب قضايا كثيرة تتعلق بحياته، وفكره، ومنهجه، ومشروعه الحضاري، وقد تم تقسيم ذلك العدد المزدوج إلى قسمين :
   القسم الأول: تم فيه نشر المحاضرات التي ألقيت في ندوة مالك بن نبي الدولية التي نظمتها جمعية النبراس الثقافية بوجدة، بالمغرب الأقصى تحت شعار: مالك بن نبي مفكر شاهد ومشروع متجدد، أيام: 13، 14، 15 نوفمبر2005م.  وقد تم نشر تلك الأبحاث بالتعاون مع الجمعية المذكورة، و يذكر رئيس تحرير المجلة الدكتور سعد بوفلاقة أن الفضل في نشرها يعود إلى الأستاذ المغربي الفاضل/محمد البنعيادي الذي لفت انتباهه إلى هذا الموضوع.
القسم الثاني وقد ضم مجموعة من الأبحاث و الدراسات المتنوعة.
 ونظراً لأهمية العدد المزدوج الخاص بمالك بن نبي من مجلة بونة للبحوث والدراسات،فإننا نتوقف مع بعض القضايا الهامة التي أثيرت عن فلسفة وفكر مالك بن نبي بمناسبة مرور أربعة عقود على رحيله في انتظار إنجاز دراسة موسعة عن فكره وفلسفته ومشروعه الحضاري الثري بالرؤى المعمقة.
                وقبل أن ندلف إلى مضامين ذلك العدد الهام من مجلة بونة للبحوث والدراسات نشير إلى أن المفكر الكبير مالك بن نبي يعد أحد أبرز الفلاسفة الذين أثروا الفكر الإسلامي والعالمي في القرن العشرين، أغنى العالم الإسلامي بفكره المستنير،وتحليلاته العميقة،إذ يُعدّهُ  الكثير من الدارسين بمثابة ابن خلدون العصر الحديث،ويرون بأنه أبرز مفكر عربي عُني بالفكر الحضاري منذ أيام ابن خلدون، وإلى غاية زمننا هذا، فهو المفكر الفذ،والعالم الجهبذ، والمشروع المتجدد،يقول عنه العلاّمة التونسي( أبو القاسم محمد كرو)«الأستاذ مالك بن نبي مفكر حضاري تخصص في دراسة الحضارة الإسلامية وفهم معطياتها التاريخية والنفسية والاجتماعية وتعمق في أسباب الانهيار السياسي والاقتصادي والخلقي الذي أصاب مجتمعاتها لدى أحقاب طويلة مظلمة.ومن قرأ أو يقرأ مجموعة الكتب المختلفة التي ألفها ونشرها الأستاذ مالك بن نبي يدرك إلى أي مدى قد تميز أسلوب الكاتب وتفكيره بالفهم السديد والتحليل العميق لشخصية المجتمع الإسلامي في ماضيه وحاضره ومستقبله أيضاً.ومن خلال عناوين كتبه وأسمائها يمكن للقارئ الحصيف أن يفهم اتجاهه وحوافزه وآماله،فضلاً عن اختصاصه وميوله ومشاغل نفسه الفكرية واهتماماتها الروحية والفلسفية...».   
     ويشير شيخ المؤرخين الجزائريين العلاّمة الدكتور (أبو القاسم سعد الله) إلى أن مالك بن نبي قد درس الحضارات وخرج من ذلك بنظرية ثلاثية الأساس تقوم على الإنسان والتراب والزمن،وكان له مريدون أثناء حياته وما يزال جيل من المتأثرين به يؤثر بدوره في الحياة الفكرية
       وعن معرفته به يقول الدكتور(أبو القاسم سعد الله)  في تصديره لكتاب الدكتورة فوزية بريون المعنون ب: « فيلسوف الحضارة:مالك بن نبي»:«شرفتني السيدة الدكتورة فوزية بريون بأن طلبت مني تصدير كتابها فيلسوف الحضارة في عصرنا مالك بن نبي.وربما لا تعرف أنني عرفت ابن نبي فترة قصيرة وقليلة التأثير،وهي فترة إقامته في القاهرة خلال الخمسينيات،حين جاء هذه العاصمة طموحاً إلى أن يخرج بفكره من مجال فرنسا التي تحتل بلاده وترتكب الفظائع لمنع شعبه من تنفس هواء الحرية،وربما كانت له طموحات أخرى من هجرته إلى مصر عندئذ،فقد كان منذ الثلاثينيات من القرن العشرين يرغب في زيارة الشرق والحلول بالعاصمة المصرية،ولكن جهوده لم تثمر.
   عرفت مالك بن نبي عندئذ بالقاهرة،سواء أثناء إقامته بالمعادي أو الدقي،وسواء كان يعمل في سلك المؤتمر الإسلامي أو خارجه.وقد دعوته يوم كنت مسؤولاً عن النشاط الثقافي في اتحاد الطلبة الجزائريين لإلقاء محاضرة في النادي فلبى وألقى محاضرة طرح فيها لأول مرة على مستوى الطلاب نظريته في الحضارة بمعادلته الشهيرة(الإنسان زائد تراب زائد وقت تساوي حضارة).وكان بعض الطلاب قد أخذوا يلتفون من حوله في حلقة أصبحت معروفة لدى مريديه من طلاب المغرب العربي والمشرق العربي»
        ضم القسم الأول من مجلة بونة للبحوث والدراسات شهادة الأستاذة الدكتورة رحمة بنت مالك بن نبي التي تكتسي أهمية بالغة،ومن أبرز ما جاء فيها: « ...حينما تلقيت الدعوة منذ عدة أشهر تذكرت في حينها والدي رحمة الله عليه حين كان يتلقى مثل هذه الدعوة من أجل المشاركة في محاضرة أو ندوة وكان ينشرح صدره لها. كان يحاول أن ينتهز أي فرصة تتاح له من أجل توعية الشباب المسلم بإمكانية صياغة خطاب إسلامي إنساني يمكن أن يتواصل معه المسلم  وغير المسلم من خلال فهم اجتماعي وإنساني للإسلام، مما يؤهل ذلك الخطاب لحث المسلم على القيام بدوره اتجاه ذاته واتجاه الآخر أي بذلك يكون مصداقا لقوله تعالى (كنتم خير أمة أخرجت للناس).
    إن والدي رحمة الله عليه لم يكن ممن يحب الحديث عن شخصه وعن حياته. وكان بعض الطلاب يدمنون على دروسه، وكانت له لقاءات أسبوعية في بيتنا، حيث كان يخصص يوم السبت للطلاب الذين يتقنون اللغة الفرنسية ويوم الأحد للطلاب الذين يتقنون أو يفضلون اللغة العربية- فكان بعض الطلاب يحاولون استدراجه في الحديث عن نفسه، فكان يرفض ذلك ويتملص من ذلك ولكن نحن نعلم أيضا أنه كتب وترك مذكرات أصدرها تحت عنوان مذكرات شاهد القرن، فقد يستشكل البعض أنه كيف يتعايش الأمر أن يكون لا يحب أن يتحدث عن ذاته وشخصه وأن يترك مذكرات ؟ ولكن إذا ما قرأ الإنسان أو ما قرأ القارئ كتاب شاهد القرن فإنه سيدرك تماما أن تلك القصة أو تلك المذكرات  ليس لها بعد فردي و إنما بعدها بعد اجتماعي أكثر مما هو فردي، بمعنى أنه من خلال تلك المذكرات يرسم معالم مأساة شعب بأكمله، أي الشعب الجزائري تحت وطأة الاستعمار في تلك الحقبة. وكان والدي رحمة الله عليه يرصد أيضا من خلال تلك المذكرات الأفكار التي كان يحملها المحيط الجزائري والفرد الجزائري، مما جعله قابلا للاستعمار. إن القضية ذات بعد اجتماعي أكثر من كونها ذات بعد شخصي.
   إن الحديث عن شخص مالك بن نبي أو عن حياته هو عبارة عن الحديث عن أفكاره. فهو لم يكن ممن يجزئ بين الفكر والحياة، بل حتى أنني أذكر أن أحد طلابه الذين كانوا يعاشرونه حين كان والدي رحمة الله عليه يسكن في القاهرة وأنا هنا أذكر الدكتور الأستاذ محمد فنيش سألني في إحدى المكالمات الهاتفية: هل تغير مالك بن نبي بعدما تزوج لأنه كان في تلك الحقبة في القاهرة لم يكن بعد متزوجا لم يكن بعد أنجب الأطفال فقال لي هل تغير بعد أن تزوج وأنجب الأطفال. هل تغيرت حياته؟ هل تغير نمط حياته أم بقي لا يزال يفيق وهاجسه العالم الإسلامي وكيفية النهضة بهذا العالم وينام    ويبقى هاجسه العالم الإسلامي؟ إنه لم يتغير. فمالك بن نبي عاش حياته من خـلال فكره، فلا يمكن التجزئة بين الحديث عن شخص مالك بن نبي وعن فكر مالك بن نبي. وهذا يوضح أن الحديث عن شخصه في الواقع هو الحديث  عن فكره في الحقيقة، لأنه كان يعيش دائما يردد من خلال الطلبة الذين كانوا يدرسون عنده في المرحلة الأخيرة من حياته، إنه كان يعيش أفكارا قبل أن يلقي بها إلى الآخر أو قبل أن يكتبها في الورق كان يعيشها ويطلبها و يمارسها شخصيا في حياته ثم يدلي بها إلى الآخر...
      فمالك بن نبي حين نتذكره اليوم كما قلت لأسباب تاريخية ربما نذكر بعض هذه الأسباب و ربما بعض الإخوة و الأخوات المساهمين في هذه الندوة يذكرون أسبابا أخرى تجعلنا اليوم نبحث أو نتدارس كما قلت هذه المنظومة الفكرية، فمن هذه الأسباب أسرد على سبيل المثال وليس على سبيل الحصر إخفاق البدائل التي طرحت في الساحة الإسلامية من مثل الفكر القومي والفكر العلماني و الفكر الشيوعي وما إلى ذلك، وكل تلك الإيديولوجيات في تلك المرحلة أي في الثلث الأخير من القرن العشرين وكان مالك بن نبي قد كتب أو ألقى محاضرة في دمشق في سنة 1972 تحدث فيها عن دور المسلم في الثلث الأخير من القرن العشرين لأنه قال في تلك المحاضرة أن تلك المرحلة ستعرف تغيرات وقد عشناها نحن، فالإخفاق أو الأسباب التي أريد أن أذكر والتي جعلتنا ربما نتذكر مالك بن نبي و نبحث في قراءة جديدة لفكر مالك بن نبي هو إخفاق تلك البدائل وذلك الطرح. و كان مالك بن نبي من خلال كتاباته كان قد أنذر وأعلن إفلاس تلك الإيديولوجيات التي تحمل تناقضا يجعلها غير منسجمة مع الواقع الاجتماعي والثقافي في المجتمع الإسلامي وفي الساحة الإسلامية والعربية أو غير العربية فكـان فشلها حتميا. فكـان مـالك بن نبي قد رصد تلك الحقيقة قبل أن تقع في الواقع وأطلق على تلك الأفكار مصطلح الأفكار المميتة أو الأفكار القاتلة، وهنا ربما تتبادر بعض الأسئلة إلى الأذهان عن الخصوصيات التي جعلت مالك بن نبي  يتمكن من رصد بعض الأمور و مصيرها في المستقبل‑ في اعتقادي أن ما مكنه أو الخصوصيات التي مكنته أنه كان مبدعا : بمعنى أنه كان يستطيع أن يرى الأمور العادية برؤية جديدة. أو الأمور المحيطة التي يراها الناس الآخرون ولكن يراها برؤية خاصة به ورؤية جديدة.
ونعتبر مالك بن نبي مبدعا ولكن حين أقول مبدعا أقول إنه إذا ما لخصنا الإبداع في عدة أمور نقول:
إن مالك بن نبي كان استوفى شروط الإبداع التي نلخصها في حرية العقل وحرية الإرادة والملكة التي كان يكتسبها من خلال قراءته العديدة والعميقة لتطور التاريخ و تتبعه للحضارات في بدايتها حتى أفولها، وحين أتحدث عن حرية العقل وعلاقة ذلك بالإبداع فالقصد من   الحرية هي تلك الحرية التي لا يمتلكها إلا من اتصل اتصالا وثيقا مع الله سبحانه وتعالى، فذلك الاتصال هو الذي يمكن الفرد من التخلص من الخضوع للهوى ومن الفكر النمطي الذي كان في تلك الحقبة. وحسب ما أذكر وأنا طفلة كان رحمة الله عليه من أولئك الذين يقومون الليل صلاة و تضرعا إلى الله سبحانه وتعالى ويناجيه، فكان ذا صلة وثيقة بالله سبحانه و تعالى أورثته صفاء روحيا وضبطا للنفس وعقلا مميزا جعله قادرا على ربط الأحداث بالأسباب الحقيقية مهما كانت مستبعدة في الظاهر، والإبداع كما نعلم هو ضرورة لكل المجتمعات فإذا ما فقد المجتمع الإبداع يفقد الكثير ويفقد القدرة على المجابهة والتحديات، والأمور التي تطرأ على المجتمع وتواجهه يعني أن المجتمع إذا ما فقد الإبداع يفقد القدرة على التجاوب مع المستجدات، واليوم المجتمعات هي أحوج ما تكون إلى الإبداع ومن ثم إلى صلة مع الله سبحانه وتعالى حتى تتمكن فعلا من حرية العقل والإبداع، وأذكر أنه قال قبيل وفاته إن فكره سوف يعود بعد ثلاثين سنة، فقد كان يدرك أن فاعلية الأفكار مرتبطة بالمحيط الذي تولد فيه وتنتج فيه، وقد ذكر ذلك  في كتبه  حين أعطى مثالا عن الدورة الدموية وقال إنه تم اكتشافها في القرن الثاني عشر من قبل طبيب عربي ولم يتم توظيفها كفكرة فاعلة إلا بعد أربعة قرون على يد طبيب بريطاني، فقد كان يدرك حين قال : إن فكره سوف يعود بعد فترة يعني بعد ثلاثين سنة كان يدرك أن التاريخ قد عرف من قبل تأجيلا لتفعيل الأفكار وأن أفكاره ستفعل في يوم ما وها نحن اليوم في هذه الندوة وهي عبارة عن تأكيد لهاته الكلمات التي كان قد أدلى بها مالك بن نبي قبيل وفاته، وهنا أحب أن أشير أننا كما قلت لم نتذكره عبثا بل تذكرناه لأنه قد حان الوقت للتذكر: يعرف عن فيكتور هوكو أنه قال قد تهزم جيوش ولكن لا تهزم فكرة، وقد حان وقتها، وقت فكر مالك بن نبي ربما قد حان، فقد ينسى الإنسان أو ينسى المجتمع أفكارا صدفة أو عبثا ولكن لا يتذكرها عبثا، واليوم أحب أن أشير إلى أن هناك منذ بضعة أيام في فرنسا وتحديدا في باريس افتتحت مدرسة جزائرية تحت اسم مالك بن نبي، و قد يفسر البعض هذا الحدث على أنه انتصار لفكر مالك بن نبي وهو ذلك الشخص الذي عاش كمستعمر- بفتح الميم- حين كان طالبا في فرنسا وكان يحاول أن يشعل شمعة صغيرة يضيء بها من حوله ويبدد الظلمة التي كانت تحيط بالمجتمع الجزائري، لكن فرنسا ضيقت عليه وحالت بينه وبين التدريس الذي كان قد حاول أن يقوم به في الجالية الجزائرية في فرنسا، ومن الطبيعي إن رأينا تلك المحاولة وما لقيته(من تعنت السلطات الاستعمارية) ثم سمعنا أخيرا أن مدرسة بأكملها تفتح باسم مالك بن نبي، فلا عجب أن ذلك يفسر كانتصار لفكر أو لشخص مالك بن نبي، ولكن إذا ما أردنا أن نفسر هذا الحدث وفق رؤية مالك بن نبي أي وفق رؤية الإسلام كدور إنساني أو اجتماعي فإننا نرى أن افتتاح هذه المدرسة هو عبارة عن رمز لعصر الحضارة الإنسانية التي  كان قد رصد معالمها وجعلها خطوة في ذلك الاتجاه، فمنذ بداية إنتاجه الفكري يحدد الوجه العالمي أو الوجه الإنساني للحضارة، فقد كتب في كتاباته أنه لا بد على المجتمع الإسلامي أن ينخرط انخراطا فعالا وإيجابيا مع التطور العالمي، كما أضاف أنه حتى يتم هذا الانخراط لا بد على العالم الإسلامي أن يعرف ذاته ثم يتعرف على العالم ويعرف هذا العالم على ذاته مع القيام بعملية تقييم لما يحمل من قيم ولما يحمل العالم أيضا من قيم تشكل الإرث الإنساني. فمالك بن نبي كان يرى منذ بداية إنتاجه الفكري أن العالم يتجه نحو التكتل وأن على الإسلام أن يجد أو يعيد دوره الحقيقي ألا وهو الدور الاجتماعي الإنساني، فليست القضية كما كان يقول أن نقاطع الحضارة الغربية التي تمثل إرثا إنسانيا هائلا و إنما القضية هي قضية تحديد و تنظيم  العلاقة مع تلك الحضارة، وفي اعتقادي إذا ما لجأنا إلى تفسير افتتاح المدرسة وفق رؤية مالك بن نبي أن تلك المدرسة هي إعلان عن هذا الانخراط الحتمي الذي كان يتحدث عنه مالك بن نبي، واليوم نرى تناقضات كان عبر عنها مالك بن نبي بتخلف الضمير عن العلم ، فقد قال مالك بن نبي إن الاكتشافات العلمية والاقتصادية تتجه بالمجتمع الإنساني نحو مجتمع إنساني عالمي وبالرغم من التناقضات والرواسب الثقافية التي ورثها العالم عن العصور الوسطى كفكرة الهيمنة والسيطرة، واليوم أصبحنا ندرك ربما أكثر مما كان يستطيع أن يوضح لنا مالك بن نبي قضية الاكتشافات العلمية والتقنية والاقتصادية التي تتجه الإنسانية نحو العولمة مثل الأنترنيت والاتصالات والمواصلات والأسواق المشتركة وما إلى ذلك. فاليوم أصبح الاتجاه العالمي الذي يطلق عليه مصطلح العولمة أصبح أكثر بروزا ومن هنا يتحتم على الشباب المسلم أن يرصد حقيقة هذا الاتجاه وأن يحدد آليات التغيير التي تمكنه من النهضة حتى يلتحق بركب الإنسانية.
   أعود وأذكر بما قلته قبل حين أن القضية هي قضية تحديد وتنظيم العلاقة مع الآخر، فعلى الشباب المسلم وعلينا كأولياء وأصحاب مسؤوليات أن نسهم في تهيئة الشباب وندربهم على قضية تنظيم وتحديد هذه العلاقة مع الحضارة الغربية، فنحن نريد انفتاحا كما نقول دون ذوبان لأن هذا التفاعل كما قلنا عنه تفاعل دون ذوبان هو الذي سيمكن المسلم أن يقوم بدوره الذي قام به إلى الآن وهو دور المستهلك. فلا بد له من تحديد جديد في هذا الركب الحضاري الإنساني... »
     وقد قدم الدكتور عبد العزيز برغوث من الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا جملة من الأفكار عن أساسيات المنهج الحضاري عند مالك بن نبي(وحدة تحليل مشكلات الإنسان من "الحضارة" إلى "الحضارة العالمية")،ووصف ورقته بأنها تثير   قضية مهمة في فكر ابن نبي ومنهجه وهي قضية وحدة التحليل التي ينبغي توظيفها لفهم مشكلات الأمة والإنسانية بشكل موضوعي. وعلى الرغم من أن هناك بعض الدراسات حول رأي بن نبي في وحدة التحليل، إلا أن الغالب عليها هي تركيزها على "الحضارة" كوحدة للتحليل، وهذا غير كاف لفهم فكره ومنهجه إذ علينا أن نعيد اكتشاف فكر بن نبي في ضوء "الحضارة العالمية" كوحدة للتحليل وليس مفهوم الحضارة فقط. وقد خلصت الدراسة إلى أنه كما أدرك ابن نبي من قبل؛ فإنه ينبغي أن ندرك نحن اليوم أن الاختيار الصائب والمناسب لوحدة تحليل المشكلات هو الخطوة الأساسية الأولى على طريق فهم المشكلات وتفسيرها ومعالجتها. بمعنى الوحدة الأساسية التي ننطلق منها في دراسة المشكلات. فمن هذه النقطة تنطلق عملية بناء أنساق التحليل وأدواته ومناهجه ووسائله وتطبيقاته. إن أهم شيء نستفيده من جهد بن نبي هو أنه أختار وحدة التحليل المناسبة لظروف المجتمع الإسلامي والإنساني في ذلك الوقت. لقد اختار "الحضارة" لكي تكون وحدة للتحليل، وبهذا يكون قد استطاع أن ينظر إلى المشكلات الجزئية ضمن إطار ونسق كلي شمولي ينظمها كلها وهو "الحضارة" ليس كمنتوج لفعل حضاري ولكن كوحدة للتحليل. ثم فتح بن نبي الآفاق من خلال إطاره النظري ومنهجه الحضاري للتفكير العلمي الموضوعي في وحدة تحليلية مكملة وضرورية هي "الحضارة العالمية" كإطار لدراسة مشكلات المسلمين والبشرية عموما. ولهذا فالجهد المطلوب اليوم هو تطوير الأدوات التحليلية المناسبة لبناء مثل هذه الوحدة التحليلية وتوظيفها لمقاربة المشكلات علميا ومنهجيا وواقعيا  
    ويرى الدكتور عبد العزيز برغوث أن مالك بن نبي من القلائل في العالم الإسلامي الذين انتبهوا في وقت مبكر إلى ضرورة التحليل الحضاري المتكامل والعميق لمشكـلات الإنسان المسلم؛ حيث نجد عمق منهجه في قدرته الفائقة على الجمع بين توجيهات الوحي ومعطيات العلوم الإنسانية والاجتماعية في وقته، ومتطلبات المنهج المتكامل الذي يوظف مجموعة من العلوم والأدوات التحليلية لدراسة ظاهرة معينة، وكذلك فهمه لحركة التاريخ الإسلامي ولواقع العالم الإسلامي، واستيعابه لخصائص وظروف الواقع العالمي الذي مرت به الأمة والإنسانية آنذاك.
     لقد تمكن بن نبي من فهم نظريات التغيير ضمن نسق العلوم الإنسانية الغربية الحديثة وتوظيفها لتحليل قضايا الأمة ومشكلاتها تحت تسمية "مشكلات الحضارة". وحتى ولو عاب بعض النقاد على الأستاذ بن نبي توظيفه لهذه النظريات واستخدامه لمصطلحات تلك العلوم في دراسة قضايا الأمة تحت مسمى أنه أخذ مصطلحات ومفاهيم من نسق معرفي وثقافي مغاير ليوظفها في إطار ونسق معرفي وثقافي مختلف في الكثير من الأشياء، فإن الحقيقة الماثلة أمامنا اليوم هي أن الأستاذ بن نبي تمكن من وضع يده على الجرح الغائر في نفسية الإنسان المسلم وثقافته وحضارته وفكره ووعيه.
  وقد قاده تحليله لمسألة الحضـارة العـالمية كوحـدة للتحليل التـاريخي والحضـاري والاجتمـاعي يقـودنا إلى الخلاصات الآتية والتي وضعها مـالك بن نبي بكل  وضوح وعمق:
أولا: "وهذه الاعتبارات ترد مشكلة الحضارة إلى المستوى العالمي."
ثانيا: "إن تكامل النوع الإنساني وسلامته قد أصبحا أهم ما يهم نفسية القرن العشرين واجتماعه إلى حد ما."
ثالثا: "غير أن مهمة الإنسانية اليوم خاضعة في عمومها لقضية  السلام، التي تفرض نفسها مقدما على كل مشروع اجتماعي روحي في العالم الراهن، فمشكلة السلام قد أصبحت هي النقطة التي تلتقي عندها خيوط التاريخ جميعا."
رابعا: "فالثقافة الحضارية ينبغي أن تعطي لفكرة السلام شخصيتها الحقيقية، بأن تضعها منذ الآن تحت ضمان المبادئ."  وهذا يتطلب مما يتطلب: "إن الجهود يجب أن تصب في دائرة السلام، ولكن السلام لن يكتب له البقاء إذا لم يكن عادلا. فالمطلوب هو ذبح العدالة من أجل السلام، لأن العدالة تنتقم لنفسها، كما أن الحرية أيضا تثأر لنفسها... فالسلام الحقيقي ليس هو السلام الذي تفرضه القوة بدل القناعة كما يخطئ من يرى أن السلام أمر غير قابل للتطبيق، استنادا إلى أن السلام غير العادل لا يمكن تطبيقه."
خامسا: "فتفكيك العالم إلى عناصره الراهنة يهدف إلى تجميعه بعناصر جديدة صالحة لتمريره من مرحلة التجزئة والتميز إلى مرحلة التجمع والعالمية." يقول الأستاذ التويجري: "ولهذا يجب أن يكون التعايش بين الأديان دعما للجهود الخيرة التي يبذلها المجتمع الدولي من أجل التعايش الحضاري والثقافي بين الأمم والشعوب، وأن  يكون قوة دفع لهذه الجهود نحو تطويرها و إغنائها وتعميمها، وحتى يكون التعايش بين الأديان في خدمة السلام العادل، يجب أن تتحرر الأطراف المشاركة من كل القيود والضغوط والارتباطات التي تتعارض ومبادئ هذا التعايش وأهدافه."
سادسا: "أن بناء عقلية عالمية جديدة لا يصح أن يتصور من الزاويتين الاقتصادية والسياسية، بل من سائر الزوايا مقدمين في علاجنا العنصر النفسي الذي يخلق نوعا من القاسم المشترك في جميع المشاكل الثائرة حاليا بين الشعوب ونحن نلاحظ ذلك  في كل يوم."
سابعا: "فالمثقف المسلم نفسه ملزم بأن ينظر إلى الأشياء من زاويتها الإنسانية الرحبة، حتى يدرك دوره الخاص ودور ثقافته في هذا الإطار العالمي."  
      الدكتورة مهدية العياشي أمنوح الأستاذة بكلية الآداب والعلوم الإسلامية بتطوان بالمغرب الأقصى،رصدت في مقالها« منهج مالك بن نبي في دراسة الغرب» ورأت أن مالك بن نبي  لا ينكر   أن الغرب يمثل ظاهرة العصر الحضارية وأنه واقع تاريخي على المسلم أن يعرف كيف يعايشه لكن الذي لا يقبله مالك هو أن يغيب عن المسلم ما يمثله الغرب في واقعه فينظر إليه باعتباره قدوة ويرجع إليه باعتباره مصدرا في الوقت الذي ينبغي أن يجعله موضوعا ضمن بحثه ودرسه يتأمل في علله وأسبابه وينظر إلى نتائجه وأحواله،وبالنسبة إلى الغرب بين المصدر والموضوع عند مالك بن نبي،فقد حث  مالك بن نبي في مقـالاته المتنوعة على ضرورة الاطـلاع  على  تاريخ  الغرب الديني والسياسي والاقتصادي والثقافي لأن دراستنا لأصول الفكر الديني في الغرب مثلا تعود بفوائد كبيرة على الفكر الإسلامي وخاصة في مجال تفسير القرآن الكريم. فلا يتصور بحال أن ندرس الإسلام أو القرآن بعيدا عن تاريخ الأديان. وقد عبر عن ذلك في دراسته الظاهرة القرآنية وأثناء تحليله لموضوع الإعجاز القرآني وجد من الضروري "إعادة النظر في القضية (إعجاز القرآن) في نطاق الظروف الجديدة التي يمر بها المسلم اليوم مع الضرورات التي يواجهها في مجال العقيدة والروح"  ومن ثم يؤكد على الربط الواضح بين الرسل والرسالات خلال العصور وأن الدعوة المحمدية يجري عليها أمام العقل ما يجري على هذه الرسالات . ويستخلص من ذلك  :
-       أنه يصح أن ندرس الرسالة المحمدية في ضوء ما سبقها من الرسالات.
-       كما يصح أن ندرس هذه الرسالات في ضوء رسالة محمد صلى الله عليه وسلم على قاعدة أن حكم العام ينطبق على الخاص قياسا، وحكم الخاص ينطبق على العام استنباطا
   ثم إن تطلع مالك بن نبي إلى تأسيس رؤية جديدة عن علاقة المسلمين بالغرب وإلى بناء فكر حضاري جديد جعله يتحدث بلغة المحفز عن البحث الموسوعي و التوثيقي لتوسيع مدارك الباحث المسلم وذلك بإضافة شرط آخر إلى شروط المُفسر حين يقول:" ومن المفيد هنا أن نذكر كم سيكون مفسر الغد بحاجة إلى معرفة لغوية وأثرية واسعة، فإن عليه أن يتتبع الترجمة اليونانية السبعينية للكتاب المقدس والترجمة اللاتينية الأولى من خلال الوثائق السريانية والآرامية ليدرس مشكلة الكتب المقدسة...   دراسة موضوعية تسعفه في التعرف على أصول الغرب الدينية وتمكنه من أداة منهجية إضافية لتفسير القرآن الكريم. إذ المكتوب باللغات القديمة يعد أهم في شرح التاريخ القـديم من المكتوب باللغات الحديثة.
    إن أهمية دراسة موضوع الأديان في العصور الحديثة والتدقيق في هذا الموضوع هو بمثابة مقدمة إلى تفسير مالك بن نبي لتاريخ الغرب. إذ أنه يرى أن الفكرة المسيحية قد أخرجت أوربا إلى مسرح التاريخ، وأن عالمها الفكري قد نبت  انطلاقا من ذلك ولكي نفهم الغرب من الضروري أن نقف على أصوله الحقيقية وعلى العلاقات التي تربط بين واقعه وبين تلك الأصول فمثلا" لو أننا تناولنا بالدرس مشروعا اجتماعيا، كجمعية حضانة الأطفال في فرنسا على سبيل المثال، لبدا لنا من أول نظرة في صورة جمعية تقوم على شؤونها دولة مدنية، فنحكم إذن عليها بأنها مؤسسة نشأت في بادئ أمرها على أسس (لا دينية)، في حين لو درسنا تاريخها، ورجعنا إلى أصول فكرتها الأولى لوجدناها ذات أصل مسيحي؛ فهي تدين بالفضل إلى القديس (فانسان دي بول) الذي أنشأ مشروع الأطفال المشردين خلال النصف الأول من القرن السابع عشر"
إن تشبث مالك بن نبي بفكرة أن الحضارة الغربية ذات أصول دينية مسيحية تدفعه باستمرار إلى النبش في الأمس الغابر والبحث عن أولى بذور هذه المدنية لكي يبرهن لمحاوريه غير المباشرين بل لكي يفحمهم بقوله:" إن العلوم والفنون والصناعات ما كان لها أن توجد لولا صلات اجتماعية خاصة...وهل هذه العلاقة الخاصة في أصلها سوى الرابطة المسيحية التي أنتجت الحضارة الغربية منذ عهد شرلمان؟"
 بالإضافة إلى المصدر الديني للحضارة الغربية يقف مالك بن نبي في موضوع الغرب على أكثر من قضية ليعيد النظر في دراستها وقراءتها، ومن ذلك على سبيل المثال ما يتعلق بالتفسير الذي يقدمه كل من الرأسمالي والاشتراكي لظاهرة الفاعلية في المجتمع. فبعد أن يسمع رأي الفريقين، يحسم برأيـه في الموضـوع قـائلا:" فالحقيقة واحـدة في المعسكرين رغم التفسير السياسي الذي يختلف، إذ الأسباب والدوافع لا تختلف في المعسكرين. فالنتيجة الاجتماعية واحدة فيهما حيث إنهما يكفلان للفرد الضمانات الاجتماعية..."
 وكذلك عندما يتعلق الأمر بموضوع الفكر الأوربي فإن مالك بن نبي لا يعثر على ما يميز المجتمع الرأسمالي عن المجتمع الاشتراكي لأن " الفكر الغربي يجنح على ما يبدو أساسا إلى الدوران حول مفهوم الوزن والكم، وهو عندنا ينحرف نحو المغالاة فهو يصل حتما إلى المادية في شكليها: الشكل البورجوازي للمجتمع الاستهلاكي والشكل الجدلي للمجتمع السوفياتي"
إن مراجعة مالك بن بني لتاريخ الغرب وواقعه مسألة حاضرة في جل دراساته وغالبا ما يكون القصد منها إعطاء بديل عن السائد منها أو نسخها بما يراه  الأصوب. وفي الآن نفسه يبرز مواطن الخطإ والزلل عند المسلمين تجاه المسألة ذاتها. وكأننا به عندما يصحح خطأ الغرب يقصد به توجيه إشعار أو إنذار للمسلم كي يعدل عنه           ويستبدله بغيره.
 إن محاسبة مالك بن نبي العسيرة للإنسان المسلم والمجتمع المسلم لا تعني بالضرورة رضاه عن الغرب أو قبوله به مصدرا بديلا لبناء حضارته، بل نجده في إحدى دراساته يستعمل أسلوبه الناقد والصارم في نقد أوربا حيث يجردها من كل مقومات التحضر ولا يرى فيها إلا ارتباكا وصراعا نظرا لكونها قد أسقطت من اعتبارها أساساً مهما من الكيان الحضاري للأمم وهو المبدأ الأخلاقي.
   "وهكذا نجد أوربا النازعة إلى "الكم" وإلى "النسبية" قد قتلت عددا كبيرا من المفاهيم الأخلاقية، حين جردتها من أرضيتها النبيلة، وأحالتها ضروبا من الصعلكة، وكلمات منبوذة في اللغة، طريدة من الاستعمال ومن الضمير وكأنها صارت القواميس "أحيانا" مقابر لكلمات لا توحي بشيء لأن مفهومها لا ينبض بالحياة"  
إن البعد بين العلم والضمير في الغرب هو الذي يفسر ما يحدث فيه من فوضى واختلال. ومن كانت تلك أحواله لا يصلح في رأي مالك بن نبي أن يكون مصدرا لغيره أو قدوة يستأنس بها أثناء الانطلاق، ففاقد الشيء لا يعطيه. والحالة هاته يعتبر " إنسان ما بعد الموحدين مهما بدا من تأخره...خيرا من الإنسان المتحضر في تحقيقه للشروط النفسية للإنسان الجديد، أعني (للمواطن العالمي)"
عندما يطالعنا مالك بن نبي بموقف صارم من الغرب كما هو الأمر في هذا النص يؤكد على سبب هذا الموقف الرافض الذي يرجع في أساسه إلى التفريط في المنظومة الأخلاقية. وهذا لا يعني أن مالك بن نبي لم تكن لديه مواقف أخرى اتجاه الغرب ولم يقبل من الغرب أفكارا أو أشياء، بل إن مواقفه تنوعت بتنوع الصور التي كان يلتقطها للغرب.    
      وفيما يتصل   برؤية مالك بن نبي لأنواع الغرب،تشير الدكتورة  مهدية العياشي أمنوح إلى أن  كتابات مالك بن نبي قد رصدت في تفاصيلها وفي أمثلتها الكثيرة نماذج متعددة للغرب يمكن أن نختزلها في ثلاثة رئيسة: الغرب المستعمر، والغرب المستشرق، والغرب المتحضر.
-       الغرب المستعمر:
أما الغرب المستعمر فقد جاء معادلا في تصوير وتحليل مالك بن نبي لأخبث الشرور التي عرفها الإنسان بصفة عامة وعرفها المسلم بشكل خاص، وقد اصطلح عليه اسم الشيطان، وفي هذا يقول:" فالاستعمار يعد في نظر كل مسلم الشيطان"  و"حينما يقول الشيطان: اثنان إضافة إلى اثنين تساوي أربعة، فإن المسلمين سيقولون: ليس هذا صحيحا لأن الشيطان قال ذلك"
إن مالك بن نبي في تصنيفه للاستعمال في هذه الخانة ووصفه إياه بهذه النعوت إنما يصدر عن تجربة عاشها وكان شخصه موضوعا لها. فالظاهرة الاستعمارية في منطقه الحضاري مثلت جزءا من شريط الزمن الواقعي والاجتماعي الذي مر به حيث يقول:" ولست أدين، فيما أقدم هنا إلى بعض الآراء تخطئ أو تصيب ولكن أدين إلى وقائع محددة شاهدتها بنفسي، وسجلتها تجربتي الاجتماعية"
   فمن خلال تجربته الواقعية، وقف مالك بن نبي على مخطط الاستعمار في تكييفه للإنسان المستعمر. إذ أنه يسعى أولا وقبل كل شيء إلى إفساد فطرة هذا الإنسان وإلى جعله خائنا ضد مجتمعه الذي يعيش فيه. فإن لم يستطع، فإنه يحاول أن يحقق خيانة المجتمع لهـذا الفـرد على يد بعض الأشرار. وبذلك تبدأ شبكة العـلاقات  الاجتمـاعية في الانخرام وفق ما يرتضيه المستعمر.
إن أخطر ما أقبل عليه الغرب المستعمر في تنفيذ مخططه لاحتواء المستعمر هو وضعه في الشيئية هذا الأخير" وحيث إن إرادة الاستعمار تقتضي وضع الإنسان في عالم الأشياء، فإن حكمة إبليس (أي المستعمر) تقتضي أن الإنسان الذي وضع هذا الموضع، لا يجوز له أن يتكلم لغة الإنسان لأنه مشيء والشيء لا يقول : فكري، وأجرتي، ولقمة عيشي.."
إن الذي يسعى ليجعل من غيره ساكنا لا يتحرك بأن يخرجه بالتدرج من عالم الإنسان إلى عالم الأشياء لا ينتظر منه أبداً أن يقدم خيرا أو يفعل حسنا يعود على غيره بالنفع. وعليه فالنية الحضارية بعيدة بعدا كليا عن واقع الاستعمار، بل هي في كلامه لا تعدو أن تكون مبررا يبرر به موقفه ليس إلا  ويربط مالك بن نبي بين  هذا الموقف وبين فلسفة الإنسان في الغرب حيث يراها رهينة تعابير ومصطلحات لا تسمح للذهن الغربي أن يتصور وحدة الإنسان وتضامن ملحمته على وجه الأرض،فهناك كلمات مثل "الأهلي" و"الأسود" ..تعبر في الغرب عن عينات إنسانية سفلى،وهناك عبارات تضفي على بعض الأجناس صفات أو ألقابا معينة إلى الأبد مثل" العربي غير المكترث"
ويذهب في تحليله لظاهرة التمييز بين الأجناس في الغرب إلى تاريخ القرن السادس عشر حيث رجع الغربي إلى العهد الروماني والإغريقي واسترجع منه قناعة قديمة تجعل من الإنسانية "حاجة" يملكها و"شيئا" يغتصبه عندما تدق ساعة الفتوحات الاستعمارية.فكل ما ليس أوربي فهو متوحش. ففي رأيه جل الغربيين ساروا على هذه القاعدة. حتى ماركس ثارت ثائرته عندما رد بكل عنف على مؤرخ معاصر له لأن هذا المؤرخ قد وضع على صعيد واحد في نظره " آسيا البربرية وأوربا المتحضرة"
      إن هذه النظرة العنصرية المتجذرة في نفسية الغربي هي المسؤولة الرئيسية عن تشويه السياسة الغربية في العالم وعن ظهور ما يسمى بالاستعمار. وبالاطلاع على ذلك تتراكم أمام مالك بن نبي مجموعة من العوامل التي تبعث في خطابه شحنة تشنج ورفض قصوى أثناء تفسيره لظاهرة الغرب المستعمر.
- الغرب المستشرق :
   إن اهتمام الكتاب الغربيين بالفكر الإسلامي وبالحضارة الإسلامية أثار انتباه مالك بن نبي بشكل مباشر فعندما كان مقيما في فرنسا أتيحت له فرصة التعرف على بعضهم عن قرب كما أتاح له ذلك المقام متابعة ما يصدر من دراسات عن الإسلام والمسلمين وما يثيره ذلك من ردود أفعال متنوعة في الوسط الغربي. ففي سنة 1961، كتب يقول:" إن الدراسات الإسلامية التي تظهر في أوربا بأقلام كبار المستشرقين واقع لا جدال فيه، ولكن هل نتصور المكانة التي يحتلها هذا الواقع في الحركة الفكرية الحديثة في البلاد الإسلامية..."
    لقد استشعر مالك بن نبي خطورة هذا الغرب المتظاهر بصفات تختلف عن صفات الغرب المستعمر في الوقت الذي يتقاسمان فيه جينات الحنكة والدهاء و المكر في التعامل مع الإنسان المسلم. فعندما يؤكد أن الأعمال الأدبية للمستشرقين قد بلغت درجة خطيرة من الإشعاع لا تكاد تتخيل يصور أمامنا مدى تلك الخطورة  بتقديم دليل محسوس على ذلك يتمثل في ضم مجمع اللغة العربية في مصر إلى أعضائه عالما فرنسيا، بالإضافة إلى طبيعة رسائل الدكتوراه التي تقدم إلى السربون من قبل الطلبة المسلمين والتي لا تخرج عن ترديد الأفكار التي زكاها أساتذتهم الغربيون  بل إن الأمر يصل بالشباب المسلم إلى أن يتجه إلى المصادر الغربية، حتى فيما يخص  معارفه الإسلامية الشخصية لم يكن مالك بن نبي ليمر أمام هذه الظواهر -الدالة على خلل عويص في علاقة المسلم بعالم أفكاره -بشكل عابر، بل نجده يلجأ إلى تصحيح الموقف بتأليف كتاب الظاهرة القرآنية باللغة الفرنسية وكأننا به يروم مناظرة الفكر الاستشراقي بلسانه ومناهجه وكأننا به من جهة ثانية يسعى إلى انتشال الفكر الإسلامي من دوامة التبعية المعرفية التي دخل فيها.
فقد مثل الغرب المستشرق في فكر مالك بن نبي عاملا كبيرا من عوامل القلق على واقع النهضة الإسلامية الحديثة وعلى السير العادي للإنسان المسلم نحو هدفه الحضاري. ويختزل مالك بن نبي مصدر هذا القلق في أنموذج المستشرق المادح لما له من آثار سلبية في عالم أفكارنا.
   إن مالكا قد قسم المستشرقين إلى قدامى ومحدثين. وقسم المحدثين إلى قادحين في التاريخ الإسلامي والثقافة الإسلامية ومادحين لهما.
   إذا كانت الفئة الأولى وهي القديمة لم تتدخل في نسيج الفكر الإسلامي بشكل عنيف ولم تؤثر فيه، وإذا كانت الفئة الثانية وهي الحديثة والقادحة قد أثرت بشكل محدود لما كان في نفوس المسلمين من استعداد لمواجهة أثره تلقائيا كما وقع ذلك في العهد الذي نشر فيه طه حسين كتابه (في الشعر الجاهلي) على غرار مسلمة قدمها المستشرق (مارجليوت) قبل سنة من صدور كتاب طه حسين  فإن الفئة الثالثة المادحة مثل دوزي وآسين بلاثيوس..قد كتبت لنصرة الحقيقة العلمية وللتاريخ وكل ذلك من أجل مجتمعها الغربي. ولكن مالك بن نبي يرى أن أفكار هؤلاء " كان لها وقع أكبر في المجتمع الإسلامي، في طبقاته المثقفة" إذ أن "الجيل المسلم الذي انتسب إليه يدين إلى هؤلاء المستشرقين الغربيين بالوسيلة التي كانت بين يديه لمواجهة مركب النقص، الذي اعترى الضمير الإسلامي أمام ظاهرة الحضارة الغربية"
   فمن هنا تسلل الغرب المستشرق إلى الفكر الإسلامي ليزرع فيه تلك المخدرات التي تخدر ضميره وتسليه ويتقبلها بكل زهو وشغف.
وتذكر الدكتورة مهدية العياشي أمنوح أن مالك بن نبي ينتهي إلى حقيقة موضوعية في هذا السياق وهي أن "الإنتاج الاستشراقي بكلا نوعيه كان شرا على المجتمع الإسلامي لأنه ركب في تطوره العقلي عقدة حرمان سواء في صورة المديح والإطراء التي حولت تأملاتنا عن واقعنا في الحاضر وغمستنا في النعيم الوهمي الذي نجده في ماضينا أو في صورة التفنيد  والإقلال من شأننا بحيث صيرتنا حماة الضيم عن مجتمع منهار مجتمع ما بعد الموحدين"
- الغرب المتحضر (أو الأليف) :
    هو ذلك الغرب القريب من مالك بن نبي الذي أحبه كثيرا وبهره كثيرا ليس لأنه مادة مصنعة أو آلة متحركة أو عبارة عن مظهر براق بل لأنه سلوك راق واندفاع واع نحو الفطرة التي فُطر الإنسان عليها.
إنه غرب آخر لا علاقة له بالحياة المضطربة والمصطنعة التي تضلل السائل عن الحضارة الغربية.
    لم يكن ممكنا لمالك بن نبي بباريس أن يتعرف على الوجه الحقيقي للحياة الفرنسية لولا أن الأقدار سخرته لتتعرف زوجه خديجة على الإسلام وسخرتها هي ليتعرف بدوره على الحياة الأصيلة في الحضارة الفرنسية. فقد تمكن عن طريقها وأثناء زيارته لأمها في إحدى القرى الفرنسية من الوقوف على الوجه الآخر للغرب. لقد وجد الصورة الأصيلة في " الريف، في الطبيعة حيث تكونت صلة الإنسان بالتراب على مدى القرون"
     كما وجد صورة الغرب الجميلة في تفاصيل حياته رفقة زوجه وفي إطار أسرته الصغيرة حيث يعبر بأسلوب راق جدا عن التطور النفسي الذي سيجعله أشد الناس نفورا من كل ما يخدش ذوق الجمال، وسيترجم استعداداته الوراثية إلى أفكار اجتماعية واضحة.
          اكتشف مالك بن نبي مع زوجه المبدعة مفاتيح الثقافة المتوازية المتمثلة في المبدأ الأخلاقي السليم والذوق الجمالي الراقي والمنطق العملي الدقيق والصناعة التي  هي الإتقان.
   نفهم من مالك بن نبي أن تلك الإمكانية الاجتماعية كانت بمثابة فرصة حضارية تحقق فيها الحوار بين ثقافتين على أحسن ما يمكن أن يتصور. وعلى الرغم من أنه تطرق في مناسبات أخرى  لأشياء جميلة في الحضارة الغربية، إلا أنه لم يفردها بالحسن كلية بل غالبا ما تُخدش الصورة على لسانه بإظهار نقيصة أو تبعة أو نتيجة غير مرغوب فيها أو... وتغيب هذه القاعدة عندما يتعلق الأمر بالأسباب التي فتحت عينه على كيفية توجيه الثقافة توجيها سليما. آنئذ،كما تذكر الدكتورة أمنوح يصبح الغرب أليفا لا وحشية فيه ومتحضرا  لا همجية فيه .   
  ترى الدكتورة لطيفة الوارتي التي تعمل أستاذة بالكلية المتعددة التخصصات بالناظور بالمغرب الأقصى في بحثها الموسوم ب:«الصراع الحضاري من منظور مالك بن نبي وإدوارد سعيد»أن كلاً من مالك بن نبي وإدوارد سعيد رأى  أن الحضارة أعمق دلالة وأرحب أفقا وأبعد مدى في التعبير عن الروح التي تسري في مجتمع من المجتمعات، فهي تنشأ من تفاعل ثقافات متعددة، ويشارك في صياغة ملامحها وتشكيل خصائصها شعوب من أعراق شتى تنتمي إلى ثقافات متنوعة حيث تعددت أصول هذه  الثقـافات  ومشاربها ومصادرها فامتزجت وتلاقحت فشكلت خصائصها التي تعبر عن الروح الإنسانية في إشراقاتها وتجلياتها، وتعكس المبادئ العامة التي هي القائم المشترك بين الروافد والمصادر والمشارب جميعا. ولكل حضارة مبادئ عامة تقوم عليها، تنبع من عقيدة دينية أو من فلسفة وضعية، حتى وإن تعددت العقائد والفلسفات، فإن الخصائص المميزة تستمد من أقوى العقائد رسوخا وأشدها تمكنا في القلوب والعقول ومن أكثرها تأثيرا في الحياة العامة، بحيث تصطبغ الحضارة بصبغة هذه العقيدة وتنسب إليها[i]. والحضارات الكبرى التي عرفها تاريخ البشرية تتفاوت فيما بينها في موقفها من المادية والروحية، فمنها ما يغلب عليه الجانب المادي ومنها ما يغلب عليه الجانب الروحي ومنها ما يسوده التوازن بينهما. فهي إذن سلسلة متعاقبة من الحضارات التي تترك المجال لحضارات أخرى، مما جعل بعضهم يذهب إلى القول بوجود التماثل والتطابق بين الكثير من هذه الحضارات.
وقد ميز كل منهما أسس الحضارة الإسلامية باعتبارها إرثا مشتركا بين جميع الشعوب والأمم التي انضوت تحت لوائها، وشاركت في بنائها، وأسهمت في عطائها، وهي الشعوب والأمم التي كونت وشائج الأمة الإسلامية ونسيجها المحكم، فهي نتاج لتفاعل ثقافات الشعوب التي دخلت في الإسلام سواء إيمانا وتصديقا واعتقادا، أو انتماء وولاء وانتسابا، وهي خلاصة لتلاقح هذه الثقافات والحضارات التي كانت قائمة في المناطق التي وصلت إليها الفتوحات الإسلامية، وانصهارها في بوثقة المبادئ والقيم والمثل التي جاء بها الإسلام هداية للناس كافة.
فالحضارة الإسلامية إذن ليست حضارة جنس معين فتكون بذلك حضارة قومية تنتمي إلى قوم مخصوصين، ولكنها حضارة  جامعة شاملة للأجناس والقوميات جميعا التي كان لها نصيبها في قيام هذه الحضارة، وازدهارها وتألقها، وامتداد تأثيرها ونفوذها إلى العالم الذي  سطع فيه نجمها واتسع إشعاعها وامتد نفوذها.
فعلى هذا الأساس تكون الحضارة الإسلامية تنقسم إلى نوعين : حضارة إسلامية أصيلة وتسمى حضارة الخلق والإبـداع وقـد كـان الإسلام مصدرها الوحيد، وعرفها  العـالم لأول مرة عن طريق الإسلام.
وحضارة انفرد بها المسلمون في الأمور التجريبية امتدادا وتحسينا كما عرفها الفكر البشري من قبل، وتسمى حضارة البعث والإحياء، فقد استجابت الحضارة الإسلامية للحاجات البشرية عبر العصور، وكانت حضارة عالمية دون منازع لعقود كثيرة، فقد كانت صاحبة الفضل في إرساء الحجر الأساس للحضارة الأوربية الحديثة حيث أسهمت بكنوزها في الطب والصيدلة والكيمياء والرياضيات والفيزياء وساهمت في الإسراع  بعصر النهضة وما صحبه من إحياء للعلوم المختلفة لم يقف عند حد، بل استمر في عطائه، ومازال يثمر إلى اليوم.
وميز كل منهما سمات الحضارة الإسلامية بخمس خصائص تكسبها الطابع المميز لها بين الحضارات الإنسانية المتعاقبة في الماضي والحاضر على السواء، وهي:
*أنها حضارة إيمانية انبثقت من العقيدة الإسلامية فاستوعبت مضامينها وتشربت مبادئها واصطبغت بصبغتها، فهي حضارة توحيدية انطلقت من الإيمان بالله الواحد، الأحد، خالق الإنسان والمخلوقات جميعا، هي حضارة من صنع البشر فعلا، ولكنها ذات منطلقات إيمانية ومرجعية دينية، كان الدين الحنيف من أقوى الدوافع إلى قيامها وإبداعها وازدهارها.
*ثم هي حضارة إنسانية المنزع في آفاقها وامتداداتها، لا ترتبط بإقليم جغرافي، ولا بجنس بشري، ولا بمرحلة تاريخية، ولكنها تحتوي جميع الشعوب والأمم، وتصل آثارها إلى مختلف البقاع والأصقاع، فهي حضارة يستظل بظلالها البشر جميعا، ويجني  ثمارها كل من يصل إليه عطاؤها، فالحضارة الإسلامية قامت على أساس الاعتقاد بأن الإنسان أفضل مخلوقات الله، وأن جميع الأنشطة البشرية لابد أن تؤدي إلى سعادته ورفاهيته، وأن كل عمل إنساني يقصد به تحقيق هذه الغاية، هو عمل في سبيل الله.
*وكذلك هي حضارة معطاء، أخذت واقتبست من الحضارات والثقافات          الإنسـانية التي عرفتها شعـوب العـالم القديم، وأعطت عطاء  زاخرا  بالعلم  والمعرفة والفن الإنساني الراقي المتسم بالخير والعدل والمساواة والفضيلة والجمال، وكان عطاؤها لفائدة الإنسانية جمعاء، لا فرق بين عربي وعجمي أو أبيض أو أسود بل لا فرق بين مسلم وغير مسلم إلا بالتقوى، سواء أكان من أتباع الديانات السماوية والوضعية أم ممن لا دين لهم من أقوام شتى كانوا يعيشون في ظل الحضارة الإسلامية.
*وهي أيضا حضارة متوازنة، وازنت بين الجانب الروحي والجانب المادي، فالاعتدال هو طابع من طوابع الفكر الإسلامي، وميزة من مزايا الحضارة الإسلامية في كل العصور، فلا إفراط ولا تفريط، ولا غلو بغير وجه حق، ولا اندفاع في تهور، وإنما هو اعتدال من صميم العدالة التي تقام في ظله موازين القسط.
*وأخيرا هي حضارة باقية بقاء الحياة على وجه الأرض تستمد بقاءها من الإسلام الذي قامت على أساس مبادئه، وقد تكفل الله تعالى بحفظ الدين الحنيف، وهي بذلك حضارة ذات خصوصيات متفردة ، فالحضارة الإسلامية لا تشيخ لتنقرض، لأنها ليست حضارة قوية ولاهي بعنصرية، ولا هي ضد الفطرة الإنسانية، والإسلام ليتمثل في المسلمين في كل الأحوال، لأن المسلمين قد يضعفون ويقل نفوذهم ويتراجع تأثيرهم ولكن الإسلام لا يضعف ولا يقل نفوذه ولا يتراجع تأثيره وهي بذلك حضارة دائمة الإشعاع تتعاقب أطوارها وتتجدد دوراتها.
فلقد قادت الحضارة الإسلامية مسيرة العلم والمعرفة في القرون الوسطى التي كانت أوروبا خلالها تغرق في عصور الظلام، بينما هي عصور التنوير في تاريخ أمتنا، وقد اكتسبت هذه الحضارة طابع الديمومة والاستمرار من الدين الحنيف، لأنها نابعة منه، ولصيقة به، وهي بذلك بمثابة الجوهر النفيس الذي لا يتبدل ولا يتغير، وإن تبدلت الأحوال، وتجاذبت المجتمعات الإسلامية نوازع القوة والضعف والسطوع والأفول، والتماسك والانهيار وتخاذل المسلمون واستهانوا بدينهم وجعلوا أثرهم المجيد تحت أقدامهم، وساروا على نهج الحضارات الغربية الفانية التي تدعي الرقي والازدهار، وتفخر بكل ذلك، وتنكر جهود ومساعي ما سواها من الحضارات و الحضارة الإسلامية خاصة في زمن استطاعت الدولة الإسلامية أن تجلجل الأرض من الشرق الوسط إلى غرب المحيط الأطلسي بعد أن سطع نجمها وأشرقت شمسها.  
 في رصدها لمستقبل  الحضارة الإسلامية بين مالك بن نبي وإدوارد سعيد ذهبت الدكتورة لطيفة الوارتي إلى التأكيد على أن  الهدف من كل الجهود الحضارية هو النهوض بالإنسان نفسه فإذا بقي على جهالته ووحشيته وضلالته انتكس وتدهور، فما قيمة الرقي المادي في ذاته. والحضارة الغربية لم تنجح حتى الآن في تحقيق هذا الرقي الإنساني في ظل الإيمان واليقين في قدرة الله خالق الكون الذي يجلب الطمأنينة والسكينة والإحساس بالأمن العقلي والوجداني، بينما الحضارة الإسلامية قامت ولا تزال على هذا العنصر الحيوي، فهي حضارة إيمانية إنسانية في الصميم، وفي مقاصدها وغاياتها فهي لا تمثل سوى فكرة مثالية أو شعار مذهبي أو مشروع  لم ينفذ أو تصور لما يمكن تحقيقه، إنما هي واقع معيش يحياه المجتمع الإسلامي، واشترك في صنعه الإنسان المسلم وغير المسلم ممن يعيش في كنف المجتمع الإسلامي ويشكل جزءا لا يتجزأ منه  ولذلك هم الذين صنعوا ويصنعون الحضارة الإسلامية، وهم الذين يصوغون مستقبلها وهم الذين يحمونها ويحددون مصيرها. وتلك هي مسؤولية الأمة الإسلامية في الحاضر والمستقبل، وتلك هي رسالة الحضارة الإسلامية. وإذا كنا وضعنا أيدينا على الداء العضال الذي يسحق نفس المسلم في هذا العصر نتيجة المخطط الاستعماري الرهيب وهو داء الفصام بين جانبه الروحي وجانبه الاجتماعي فإن المهمة الأولى التي تضع المجتمع الإسلامي على الطريق الصحيح، هي إزالة حالة الفصام التي تعصف بكيان المسلم وقد تحدث عنها مالك بن نبي وفصل الحديث فيها. فالمسلم حسب رأيه يعيش في أحسن أحواله ازدواجية قاتلة قد يكون  بموجبها قديسا في المسجد ولكنه بمجرد أن يتوارى عنه ويخرج إلى الشارع  يتحول إلى  وحش كاسر، يدوس على حقوق  الناس وينتهك حرمات أعراضهم "فالمشكلة التي نواجهها إذن ذات جانبين جانب اجتماعي وجانب نفسي... ولكي نعالجها من كلا جانبيها يجب أن تكون  لدينا فكرة عليا تصل  بين  الروحي والاجتماعي وتجعل من جديد تركيب الشخص المسلم بحيث يتماثل مع ذاته في المسجد  وفي الشارع. 
  يذهب الباحث اللبناني الدكتور عمر مسقاوي في بحثه عن«شروط النهضة والبناء الجديد في فكر مالك بن نبي»إلى التأكيد على أن ابن نبي انطلق من معيار عملي يختلف أساسا عن كل مقاربات المفكرين والكتاب الذين تكلموا عن النهضة  في هذا الاتجاه أو ذاك.فنسبة  شروط النهضة إلى " الجزائر " ليست عملية تركيبية تضيف مظاهر العصر الحديث إلى مظاهر الحياة الجزائرية في ظل الاستعمار بل هو عنوان تحليلي كما  يتضح من فصول الكتاب .
     فالجزائر هي مساحة التحليل التي انتهت إلى مفهوم القابلية للاستعمار كواقع نفسي يحدد مرحلة معينة من واقع المعنى " المضمر " الذي رسخته الحضارة الإسلامية في عمق الجزائر وهي مرحلة الأفول والانسحاب من المسار التاريخي للحضارات.
      فالقابلية للاستعمار هي في النهاية قضية تتعلق بالأفكار في مرحلة من الشلل الفكري يعبر عنه واقع الجزائر. لكن الجزائر ليست سوى نموذج  من العالم الإسلامي كله الذي يشكل مجال دراسة لتماثل الأعراض في عالم الأفكار.
      من هنا بدأت الشروط التي وضعها بن نبي تنطلق من إستراتيجية أساسية مماثلة لإستراتيجية ولادة أوروبا من جديد في إطار مفهوم Renaissance الأوروبي أي إعادة النظر في التراث القديم بعد تصفيته من سائر مؤثرات الحضارة الإسلامية التي أفلت بعد سقوط  الأندلس كما يقول ابن نبي.
   وهكذا انتهج ابن نبي آلية المسار نفسه دون الدخول في تفاصيله لأنه تحدث عن الشروط السابقة للحمل من أجل ولادة جديدة فيما المصطلح الأوروبي تحدث عن          الوليد الجديد في عصر النهضة وهكذا انطلق كتاب شروط  النهضة الجزائرية من  مفهوم القابلية للاستعمار أي واقع الجزائر القائم .
ويشير الدكتور عمر مسقاوي إلى أن الخروج من القابلية للاستعمار يتطلب تأهيلا جديدا يصفي سلبيات الأفكار السائدة في لحظة تاريخية مليئة بالبواعث كتلك اللحظة التي نشأت فيها ولادة الإسلام عبر الوحي في مكة.
فتعبير الولادة الجديد ترجمة تعبير  Renaissanceكما جاء في الأصل الفرنسي لكتاب شروط النهضة هو الأكثر وفاء بمنطلقات بن نبي من مصطلح " النهضة لأنه يقود الذهن إلى النموذج الغربي وقد أشار إلى هذا الجانب مؤخرا المفكر المغربي محمد عابد الجابري حين قال إن مصطلح Renaissance يدل على ولادة فعلية لواقع حضاري جديد هو " الغرب " بكل معناه وقد أضحى حقيقة نهائية في مفهوم الحداثة والاستعمار على سواء بينما فكرة النهضة عند العرب في المشروع  العربي الإسلامي اتجهت إلى المستقبل خروجا من الواقع  القائم وهذا يدل على أن وعي العرب في رؤيتهم لنهضة أوروبا يقوم أساسا على الإحساس بالفارق بين واقع التخلف وواقع  نهضة أوروبا لذا فهم يفكرون بالنهضة التي يرون نماذجها ولا يفكرون في بناء نهضة كبديل عن الواقع الذي يعيشونه.
        فابن نبي يرى أن من نتائج التقليد والتمثيل Assimilation للنموذج الأوروبي أن العالم الإسلامي كان في مرحلة طفولية عالم الأشياء قبل أن ينتقل إلى عالم الأفكار ويؤرخ لها بعام 1858 بالمقارنة مع طفولة اليابان 1868 فالعالم الإسلامي بقي في عالمي الأشياء والأشخاص فيما انتقل اليابان إلى عالم الأفكار عبر عالم الكبار. وهكذا وقع العالم الإسلامي في فوضى الأشياء والأفكار حين أضحى جزءاً من مجتمع عالم  فوق صياغي supertechnique يبيعه الأشياء ويفرض عليه في الوقت نفسه     مقاييسه ويرغمه على إعداد اعتبار لمعاييره وهكذا رد المجتمع الإسلامي على مفعول هذه الرابطة بصفتها إلزاما في الحقل الاقتصادي وفوق الإلزام في  الحقل الفكري.






ليست هناك تعليقات: