مع ديوان ( براعم جزائريّة ) للشّاعر جموعي أنفيف[1]
بقلم: عبد الله لالي
قلّة هم الشعراء الذين يكتبون للأطفال، ومن يكتب منهم ربّما
يكتب على سبيل التجربة، وتلبية رغبات الموهبة الإبداعيّة في خوض مجالات عدّة، لكن
من يكتب برغبة جارفة وتدفّق متلاحق يراعي فيه نفسّية الطفل ورغباته الخاصّة (
السّاذجة )، كما يظنّها الكبار، يكتب وهو يحمل بين جنبيه قلب طفل كبير، يضحك كما
يضحك الأطفال ويلهو بمثل لهوهم، ويناغي مناغاتهم في كلمات تشعّ ألقا ونورا، من
يكتب للطفل بهذه المواصفات والشروط هم أقلّ القليل..
ومن هؤلاء القلّة النّادرة الأستاذ جموعي أنفيف أستاذ الاجتماعيّات،
والشّاعر البسكري المعروف الذي ضرب في كلّ فنّ من فنون الكتابة بسهم، لكنّ سهمه
الأوفى كان للأطفال، ومن ثمّة جاءه ديوانه ( براعم جزائريّة )، والذي ذكّرني في
موضوعاته وأسلوبه، بمحمّد الأخضر السّائحي ( السّائحي الكبير ) وسليمان العيسى
رحمهما الله، شاعر يكتب من عمق النّفس العاشقة لعالم الطفولة الممتزجة به امتزاجا
كليّا.
صدر الديوان في طبعة أنيقة جدّا عن مديريّة الثقافة لولاية بسكرة في إطار (
مهرجان القراءة في احتفال ) في طبعته الثالثة 2013 م، وقد حوى بين دفّتيه 56 قصيدة
تراوحت ما بين المقطوعة القصيرة التي لا تتعدّى أربعة أبيات مثل أنشودة ( الطبيعة ) والقصيدة الطويلة نسبيّا التي تصل أحيانا
إلى أربعة وثلاثين بيتا كقصيدة ( حلم أمل )،
وأناشيد الأطفال عادة لا تكون طويلة لكن أحيانا الموضوع يفرض على الشّاعر أن يطيل
النَّفَس..
وفقا لعلمي فإنّ هذا الديوان هو أوّل دواوين الأطفال بالنّسبة للشاعر، وله
ديوان آخر ذكر في النبذة التي تعرّف بالشّاعر في الغلاف، وتنوّعت القصائد ومسّت
معظم محاور الحياة التي لها علاقة بتربية الطفل واهتمامه وتكوينه الفكري والثقافي،
ومحيطه الذي يعيش فيه، بدءا بالأم الأولى ( الوالدة ) وانتهاء بالأم الثانية
الكبرى ( الوطن ).
كتب الشّاعر في هذا الدّيوان عن المدرسة والأستاذ ( مهنة الشّاعر الأساسيّة
)، الدّين، الأمّ، الأب، الكتاب، الطيور، المكتبة، الضّيف، ابن باديس، شهر
النّصر..وغيرها من الموضوعات الكثيرة..
كتب الشّاعر مقدّما لديوانه قائلا:
" الكتابة للطفل..تعني النزول إلى عوامله وسبر أغوارها، بما فيها من
مدن هلاميّة وبيوت بلا عناوين، بلا ألوان، بلا طرق وبلا أرصفة..ولكن لها رائحة
وأحلام..أشخاصها من كرتون ومن ماء وحليب وجبن وأقلام ودفاتر.."
وسأختار جملة من القصائد ( الأناشيد ) لأقرأها بصوت عال، أو صوت مكتوب على
الأصحّ وأكون بها قريبا إلى حدّ ما من القارئ الذي لم يمكنه أن يرى الديوان الجميل
( براعم جزائريّة ) ويزيّن بسمفونياته صدور أبنائه قبل رفوف مكتبته.. !
بما أنّ الشاعر جموعي أنفيف أستاذ في ميدان التربية والتعليم؛ فإنّنا نبدأ
بقصيدة:
( تحيّة للأستاذ ):
هذه القصيدة من ثلاثة عشر بيتا، على لسان تلميذ يتمدّح بخصال الأستاذ رمز
التربية والعلم، ولطالما تغنّى الشعراء وترنّموا بمدح المعلم والأستاذ وأفاضوا في
ذكر فضله، والحديث عن أياديه البيضاء على الأجيال، وقد نحا الشاعر جموعي أنفيف مثل
هذا المنحى، وتحدّث على لسان التلميذ قائلا:
هو الأستاذ يربّيني * * وينير الدّرب ويحييني
إن كنت صغيرا معرفةً * * فأنا الأحلام
تناجيني
أسعى يوما للدّرس * * وسلاحي دوما
بيميني
لا شيء يعكّر صفو غدي * * ما دام
بعلم يبنيني
هو الأستاذ أحيّيه * * وأحيّي روح
تفانيه
في هذه الأبيات يتحدّث التلميذ عن الأستاذ بكلّ فخر واعتزاز، وهو يشعر
بالثقة واليقين في الحياة، ينظر إلى الأحلام كأنّها حقائق الغد، وإلى الأماني على
أنّها طوع بنانه ما دام الأستاذ يمنحه أقوى سلاح في الحياة وهو العلم.
وصدق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذ يقول:
" إنّ الملائكة لتضع أجنحتَها لطالب العلم رضًا بما يصنع.. "
إلى أن يقول الشّاعر على لسان التلميذ دائما:
هو الأستاذ عظيم في * * نفسي وبروحي أفديه
ويظلّ كبيرا في بالي * * فإنا من صنع أياديه
احفظه إلهي للعلم * * يا ربّ بفضلك واحميه
أجمل اعتراف وتقدير للمعلّم والأستاذ وأروع عرفان
بالجميل، لمنشئ الأجيال ومربّي النّاشئة، هذا الذي قال عنه شوقي من قبل:
قم للمعلّم وفه التبجيلا * * كاد
المعلّم أن يكون رسولا
والقصيدة الثانية والتي لا يمكن أن نقدّم عليها أيّة
قصيدة أخرى؛ هي قصيدة:
( أمّي ) ..
في الغالب أوّل كلمة تتحرّك بها الشّفاه وتدخل الطّفل
إلى عالم لغة التخاطب هي كلمة ( ماما ) أو أمّي كلمة بمثل الشذى السّاحر والرّضاب
المعتّق، لا يمكن أن يغفل عنها الشعراء أو أن يتجاوزها المبدعون، يقول الشّاعر في
أنشودة ( أمّي ):
أمّي أمّي أمّي * * * أعذب الأسماء
أمّي أمّي أمّي * * * كوكب وضّاء
حضنك يا أمّي * * أوسع الأرجاء
أنسى كلّ همّ
* * في برّ الصّفاء
الأمّ في نظر الشّاعر اسمها أعذب الأسماء، وهي مثل
الكوكب الذي يضيء في محلولك الكون، وحضنها هو أرحب مكان وقلبها أصفى القلوب
وأكثرها نقاء..
ولعلّ التكرار في هذه الأنشودة لكلمة ( أمّي ) يوحي
لنا بأمرين اثنين:
الأوّل: هو التغنّي بهذه الكلمة العظيمة وترديدها على
اللّسان، كأنّها الذكر أو بعض الذكر، أليست هي التي لا تملّ الشفاه من ترديدها،
ولا تتوقف القلوب عن الخفقان لها ..؟ !
والثاني: إشارة لما في الحديث الشريف عندما سأل ذلك
الصّحابيّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عمّن هو أحقّ بحسن صحابته فقال له:
" أمّك ..ثمّ أمّك ..ثمّ أمّك .."
القصيدة الثالثة التي لا يخطئها النّظر في ديوان
الشّاعر جموعي أنفيف هي قصيدة:
( كتابي ) ..وخير جليس في الأنام كتاب كما يقول
المتنبّي..
الكتاب هو الصّديق الوفي والمخلص للطّفل، إذا ما أحسن
صحبته وعرف كيف يستفيد منه لم يبغ به بديلا ولا عنه تحوّلا، ولذلك تغنّى الشّاعر
قائلا:
كتابي خير الأصحاب *
* أشرف من كلّ الأنسابْ
يضمّ الكون بكامله *
* يتسامى فوق الإعجابْ
كلمات واضحة وبيّنة جدّا في جزالة وقوّة تناسب مستوى
الطّفل، وترفعه إلى أعلى لكي تتسع مداركه وتزداد معارفه، إنّ الشّاعر يغرس في نفس
الطّفل محبّة الكتاب ويدلّه على قيمته العظيمة وأنّه وسعت صفحاته الكون كلّه، فلا
يعبّر الإعجابُ - وإن عظم - عن مدى حقيقته المدهشة وفوائده الجمّة.
وفي قصيدة طريفة هي عبارة عن تحيّة صباحيّة من بنت
لأبيها بعنوان:
( صباح الخير يا بابا ) يقول الشّاعر على لسانها:
صباح المسك والعنبر
* * صباح الخير يا سكّر
صباح الخير يا بابا * * ويا
وجها به أبحر
ومنك أجمل بسمة *
* على شفتيك يا عنبر
تعال هاتها قبله
* * على خدّ من المرمر
فيجيبها أبوها في سعادة وانشراح صدر:
تعالي بين أحضاني
* * وأشواقي يا كوثر
الأنشودة تمرّ على القلب في سلاسة ولطف مثل نسيم
الصّباح، كلمات مختارة بعناية تناسب الأطفال وتستهوي قلوبهم، كما أنّها قريبة من
أرواح الكبار وأشواقهم يمكن أن يترنّم بها الأب مع ابنته كما أنّها قابلة إلى أن
يترنّم بها الأستاذ مع تلميذته، بكلّ فرد يجد أشواق الأبوّة والبنوّة في نفسه.
ومن طرائف الأناشيد في ( الديوان ) أيضا والتي لا
تخلو من فوائد كبيرة، وتعدّ من درر الدّيوان وهي بعنوان:
( بين الموز والبصل
):
العنوان ذاته فيه طرافة وإيحاء أوّلي بأنّ هناك
مفارقة عجيبة، تبدأ القصيدة بمدح الموز للبصل، إلّا أنّه ارتكب غلطة عمره عندما
أشار إلى عيب واحد في البصل، ذكره على خجل واستحياء فقال:
خاطب الموز البصل
* * قائلا بعض غزل
أنت مسك أنت عنبر *
* أنت حلو أنت سكّر
فيك عيب واحد
* * أنّك تبكي الرّجل
ورغم أنّ الموز قدّم لنقده ذاك بشيء من المدح فقال في
البصل ما ليس فيه ( أنت حلو أنت سكّر )؛ وذكر من عيوبه أقلّها ضررا وأهونها على
النّاس إلّا أنّ ذلك لم يعجب البصل، فأرغى وأزبد وذكر الموز بأسوأ النّعوت ولم
يترك فيه عيبا إلّا وذكره، بل عاب فيه ما ليس بعيب:
ردّ في الحين البصل * * قاذفا بعض الجمل
واصفا موز البلاد * * أنّه رمز الفساد
يتعالى في ازدياد *
* سعره بين الدّول
زد على ذلك مسخا * * أنّه يؤكل سلخا
يملخ جلده ملخا
* * بين أيدي كلّ طفل
وأمام هذا الذّم المقذع على ما فيه من بعض الحقائق،
لم يجد الموز الجرأة على الرّد، وإنّما أحنى ظهرا وصمت مستسلما، أو متجنّبا مزيدا
من الإقذاع والإهانة من البصل، فقال الشاعر:
سكت الموز طويلا
* * لم يجد قولا جميلا
فانحنى ظهره ميلا
* * بعد أن فاح البصل
وهذه القفلة الرّائعة من الشّاعر ( كما يقال في مجال
القصّة القصيرة ) لو كانت وصفا طبيعا للبصل لما أضافت شيئا جديدا، لكن أن يكون
البصل ذا لسان صلت ومنطق مؤذٍ ونقد جارح فاق كلّ تصوّر؛ فهذا ما جعل لهذه القفلة
دلالة كبيرة، بل إحالة إجباريّة على العودة لقراءة القصيدة بصورة مختلفة، فليست
المسألة بين الموز والبصل ولو كانت كذلك لهان الخطب، ولكن من البشر ما هو موز فيه كلّ
نفع وفائدة، رائحة طيّبة ومنطق حيي وخلق دمث، فإذا زلّ الزّلة الواحدة؛ فمن النّاس
أيضا ما هو بصل يفوح نتن فمه كما يفوح قلبه بأقذع الكلام وأرذل الألفاظ، إذا سبّ
لم يراع صداقة ولا وداد، وإذا خاصم فجر في الخصومة، ففي القصيدة نوع من الرمزيّة
المقصودة التي تهدف إلى معان معيّنة وجب الانتباه لها..
ولم ينس الشّاعر[2] المؤسّسة
التربويّة التي يدرّس بها ( متوسّطة زراري محمّد الصّالح ) فنَظَم فيها قصيدة تُغَنّى
إذ قال على لسان تلاميذها:
نحن أبناء زراري[3] * *
استجبنا للنداء
شاءت الأقدار أنّا *
* ها هنا عند اللّقاء
يمّم القلب إليك *
* يا زراري حين جاء
داعي العلم ينادي *
* في الصّباح والمساء
يا زراري أنت بيتي *
* أحضان السّماء
أنقذيني من ضياع *
* قوّمي عودا نما
هذّبيني أدّبيني
* * كلّليني بالضياء
....
الشّاعر مربّي ومبدع ( شاعر وكاتب ) في الوقت نفسه،
ولذلك علاقته بالطلبة والعلم؛ علاقة النّبت بالماء والهواء، وفي هذه القصيدة يضفي
على علاقة التلميذ بمؤسّسته التربويّة مسحة من المحبّة الخاصّة، فهي ليست مجرّد
مكان لتحصيل العلم أو المعارف وحسب، بل هي البيت الثاني للتلميذ والأستاذ معا،
ومتوسّطة زراري محمّد الصّالح تميّزت عن غيرها من المتوسطات بأنّها كان فيها أربعة
من أعلام بسكرة المحدثين، المعروفين بنشاطهم الثقافي والفكري المميّز، وهم الأستاذ
فوزي مصمودي الكاتب والإعلامي والباحث في التّاريخ ( أشهر من نار على علم )
وشاعرنا الأستاذ جموعي أنفيف الذي نحن نتحدّث عن ديوانه بما يفتح الله به من كلمات
بسيطة وتلقائيّة، والثالث هو الأستاذ بدر الدّين بريبش[4] – رحمه
الله تعالى – وهو قاص وإذاعي معروف أيضا أمّا الرّابع فهو الأستاذ الشاعر صمّودي
نصر الدّين..
وفي سياق مشابه يدور حول بيئة العلم والتعليم؛ يحيي
الشّاعر الضيوف الذين أتوا في إحدى المناسبات التي تحتفل بها المؤسّسات التربويّة
وربّما كانت متوسّطة زراري نفسها، فيرسل قصيدة احتفاء انتقى لها عنوان:
( حيّوا الضيف
):
يقول في مطلعها:
حيّوا الضّيوف وصفّقوا * * أهلا
بهم ومرحبا
أهلا بهم في حفلنا
* * نفرش لهم زهر الرّبى
أهلا بكم في بيتنا
* * ولتجلسوا بقلبنا
القصيدة غنائيّة تنساب مثل صوت النّاي المنبعث من
شفاه تهتز طربا، وتحتفي بالضّيف كأنّه صاحب المنزل وفيها صور تتفجّر جمالا وسناء
مثل قوله ( نفرش لهم زهر الرّبى )، ثمّ ترتقي الصورة أكثر ويتضاعف جمالها حين يقول
الشّاعر ( ولتجلسوا بقلبنا ).. ويختمها بقوله:
حيّوا الضّيوف وصفّقوا * * نحن ضيوف المنزل
نحن أصحاب بيتنا
* * أهلا بنا في المنزل
وجميل جدّا أن يستعمل الشّاعر ضمير الغيبة مرّة (
أهلا بهم )، ومرّة يستعمل ضمير الخطاب ( أهلا بكم في بيتنا ..)،كأنّما يقول لهم
أهلا بكم ومرحبا في الغيبة والحضور، في حال وجودنا وفي حال غيابنا أيضا، وفي تنويع
الضمير هنا زيادة في قوّة الترحيب.
وهذه الأبيات فيها تناص واضح جدّا مع أبيات أخرى مشهورة
ومتداولة كثيرا يقول صاحبها في مطلعها[5]:
يا ضيفنا لو زرتنا لوجدتنا *
* نحن الضيوف وأنت رب المنزل
وقد أفاد التّناص صورا ومعاني جديدة، فيها دفء وحرارة
ورقّة وجدان تتناسب مع لسان الطفولة العذب وقلبها النّقي وأفراحها البهيجة..
وعلى خطى ابن باديس – رائد النهضة الجزائريّة الحديثة
– ينسج قصيدة مميّزة، حقيق أن تكون على لسان كلّ فتى جزائري تردّد نغماتها
الأجيال، القصيدة بعنوان:
( شيخ الجزائر ):
نذكر منها هذه الأبيات:
شعب الجزائر مسلم
* * وإلى ابن باديس انتسب
ترك الجزائر حرّة *
* فوق المصاعب والوصب
فبنى عقولا حيّة
* * رغم اللّيالي والكرب
أحيا نفوسا ميّتة
* * عصفت بها ريح العطب
وأولى الملاحظات على هذه القصيدة أنّها نهلت من منبع
ابن باديس ونحتت من قاموسه اللّفظي، واستمدت ذخائر معانيه السّامية، التي جاءت في
رائعته ( شعب الجزائر مسلم )، واتخذ الشّاعر من شطر البيت الأوّل منطلقا لقصيدته،
ثمّ غيّر من الشّطر الثاني بطريقة تصدم القارئ لأوّل وهلة، فكلّ جزائري إذا قلت
له:
" شعب الجزائري مسلم .." يكمل لك تلقائيّا:
وإلى العروبة ينتسب، فإذا بادره الشّاعر بخلاف ذلك
يحدث له نوع من الكبح المفاجئ، الأمر الذي يجعل ذهنه متأهبا وربّما في حالة
استنفار لسماع ومعرفة التغيير الذي أحدث في القصيدة الأصليّة، ولكنّه عندما يتأمّل
المعنى العميق الذي أحدثه الشّاعر وأبدعه ليكتب قصيدة جديدة على نسق قصيدة ابن
باديس؛ لا يتردّد في قبول ذلك المعنى الشّريف والعظيم، بل ويحتفي به أيّما احتفاء لأنّه
يمثل الحقيقة السّاطعة التي لا يختلف عليها اثنان من الجزائريين الأقحاح..
"وإلى ابن باديس انتسب "
ألا يمثّل ابن باديس رمز العروبة الأصيل وشيخها ورائدها
الذي لا يَكْذِبُ أهلَه..؟ فما العروبة في الجزائر وفي أسمى معانيها العظيمة؛
عروبة الإسلام وعروبة الدّين إلّا ابن باديس رجل من نور يمشي على الأرض..
يقول الشّاعر في بيت آخر:
أحيا نفوسا ميتة
* * عصفت بها ريح العطب
وفي هذا إعادة صياغة لبيت الشيخ ابن باديس – رحمه
الله – الذي يقول فيه:
واهزز نفوس الجّامدين * * فربّما حي الخشب
وقد حي الخشب فعلا وفقا لرؤية الشّاعر، فكلمات ابن
باديس الصّادية ونبرته الصّادقة، أحيت الشعب من موات وهزّت عروش الطغاة وكانت
الشرر الذي جاء منه الضّرام..
وذلك هو الجواب الذي ختم به قصيدته في الإمام
النّادرة، إمام نهضة الجزائر وعالمها الذي لم يُر له مثيلا فيها منذ قرون، ولا أتى
له ندّ منذ أزيد من ستين سنة، يقول الشاعر جموعي أنفيف:
عبد الحميد إمامنا *
* رمز لجيل من ذهب
أدّى الفروض جميعها * * زرع البذور من لهب
ذلك اللهب هو مصدر الضِّرام الأكبر الذي أوقد ثورة
التحرير الكبرى، ومحا بها ظلمة ليل طويل دام أزيد من قرن وربع القرن..
وفي الديوان قصيدتان يتغنّى في أولاهما بأرض الزيبان
( بسكرة ) العروس الخفرة، وفي الثانية يحتفي بـ ( كيمل ) إحدى قرى بسكرة العريقة والتي
ينتمي إليها الشّاعر، وقد عرف الشّاعر بالتغنّي بعدّة قرى ومدن بسكريّة منها شتمة
أيضا ولكن لم يورد قصيدتها في الدّيوان..
ففي القصيدة الأولى ( زيبان الخير ) يقول:
زيبان الخير أعشقها * * وأهوى نخلة فيها
وهذا الصبح يغمرها * * بكلّ الودّ يحميها
يهدهدها ويبعثها
* * بطيب القلب يرويها
ضياء وجهها دوما *
* فلا ليل يغطّيها
فالشّاعر يتغنّى أوّلا بطبيعة بسكرة الزيبان السّاحرة،
وأنّ الضياء لا يفارقها دوما فهي أرض منبسطة تسكب السّماء عليها أنوراها، وإن كان
فيها الحرّ والقيظ إلّا أنّ الجانب الآخر المشرق منها، هو أنوارها الدّائمة
وصباحاتها التي هزمت اللّيالي الدّواجي، ثمّ يلتفت إلى ذكر جانب آخر من محامدها
وصفاتها التي بها تتفاخر وهي:
حباها الله من عزّ
* * فقام الأسد يبنوها
ولم يرضوا بغير عُلى * * فزار المجد واديها
وعاش العزّ في ألق *
* كريما دائما فيها
فالمآثر ليست مآثر طبيعة وجمال فتّان وحسب، بل سجّل
لها التّاريخ مآثر أخر من البطولات والملاحم المدهشة، فثوراتها ضدّ المستعمر
الفرنسي ممّا لا يمكن ان يغفله التّاريخ أو يتخطّاه النظر والبحث..
وفي قصيدة كيمل ( التي فيها بلدة الشّاعر الدَّرمون )
يقول في مطلعها:
أيا كيمل المجد أنت الإباء * * وأنت البطولات وأنت الصّفاء
وأنت المفاخر في دمنا * *
وأنت العلا والهنا والبقاء
وقد عرفت منطقة كيمل ( معقل السّراحنة ) أثناء الثورة
التحريريّة المباركة، وقبلها أيضا؛ ببطولات أبنائها وجهادهم ضدّ المستعمر الفرنسي،
ولذلك يذكرها الشّاعر منوّها بتلك البطولات والملاحم قائلا:
هنا في ثراك ملاحمنا * * على كلّ شبر روته الدّماء
هنا مطلع للشموس ونصرٌ * * هنا ولد العزّ ذات مساء
لأبناء كيمل حرفي ونبضي * * لهذي الجبال وهذا الهواء
ويذكر في هذه القصيدة معلما هاما من معالم المنطقة،
كان له دور عظيم أثناء الثورة التحريريّة، إنّه غابة ( كيمل ) الكبيرة، والتي يقول
عنها من رآها أنّك إذا دخلتها لم تكد ترى نور الشمس لكثافة أشجارها وكثرة
نباتاتها، يقول الشّاعر:
أيا كيمل الأرض بين الجبال * * حكايا لصمتك والإنتماء
حكايا لغابتك الأفق يعلو *
* ويمتدّ أخضر زرعا وماء
فهذه الغابة من أعاجيب المنطقة وغرائبها المدهشة،
خلّد الشّاعر ذكرها في هذه القصيدة، كما خلّدتها أمجاد التّاريخ التي انطلقت
منها..
ولن ننهي الحديث عن ديوان ( براعم جزائريّة ) حتى
نتحدّث عن الموضوع الذي نال حصّة الأسد من قصائد الشّاعر، إنّه محور الوطنيّات،
فقد تغنّى الشّاعر بأمجاد وطنه ( الجزائر )، مجملا ومفصّلا، ومنوّعا في المعاني
ومدققا في الأفكار ومطرّزا كلّ ذلك بأجمل الصور وأبهاها، وقد عددت له في الديوان ثلاث
عشرة قصيدة خالصة للوطنيّات، أذكر منها ( شهر النّصر، خمسون عاما، روح نوفمبر، من
هذا الشعب، وطني، جميلة بلادي، في ظلوعي يا جزائر، أبطال الثورة..)
ولنا في قصائد ( الوطنيّات ) كلمة الختام حول الديوان:
الشيخ عبد الحميد بن باديس رفع شعارا لم يبق جزائريّ إلّا
ويحمله بين ضلوعه، إنّه مقولته المشهورة:
" الإسلام ديننا
والعربيّة لغتنا والجزائر وطننا ) فكان الوطنُ الرّكنَ الثالثَ من
أركان حياة الأمّة أو مقوّمات الشّخصيّة الوطنيّة، وقد قيل بحق ( حبّ الأوطان من
الإيمان )، ولذلك عندما ترك الرّسول صلّى الله عليه وسلّم مكةَ قال:
" اللّهمّ حبّب إلينا المدينةَ كحبّنا مكةَ أو
أشدّ .."
أولى القصائد الوطنيّة والتي اصطلح على تسميتها في
الدواوين الشعريّة بالوطنيّات، أولى هذه القصائد قصيدة:
( شهر النّصر ):
وقد تحدّث فيها عن شهر مارس الذي عرف في الجزائر
بأنّه شهر الشهداء، لكثرة من ارتقى فيه من الشّهداء ( القادة منهم خصوصا )، في
ميدان الشّرف والمجد.. وكذلك لأنّه شهرُ وقفِ القتال[6]
حيث خضعت فرنسا لإرادة الشعب الجزائري، وقبلت مرغمةً بوقف إطلاق النّار والتحضير
لاستفتاء الاستقلال..
يقول الشّاعر:
يا مارس يا شهر النّصر * *
أهديت لنا خير الدّرر
... إلى أن يقول:
يا عيد النّصر أيا فخرا * *
لبلادي كنت كما البدر
يوم في العام نمجّــــــــده * * ونقدّســــــــــــه رمز الفخــــــــر
وفي قصيدة ( خمسون عاما ) يزمجر الشّاعر في قوّة
وهدير مثل هدير الموج مفتخرا :
أصيل أنا في بلادي المفاخر *
* وفي حصن مدرستي الجزائر
تعلّمت أنّ الجزائر روحي *
* ودفق الشّعور ووهج المشاعر
ومنبت حبّي وفجري الوديع * *
لها في دمي نبض حرّ وشاعر
فالوطن هنا ليس مجرّد أرض وتراب أو مكان قدّر أن يولد
فيه الإنسان، إنّه المدرسة الكبرى التي يتعلّم فيها الإنسان أبجديّة الحياة، ويتعلّم
فيها الشموخ والإباء يحبّ فيها أهله وناسه محبّة غامرة، ويكره أعداء وطنه ويمقتهم
مقتا شديدا، وهو مستعد أن يضحّي في سبيل حماية وطنه بدمه وروحه..
ثمّ يعرض الشّاعر في براعة كبيرة إلى المكوّنين
الرئيسيين للشعب الجزائري ( العرب والأمازيغ )، اللّذين امتزجت دماؤهم وتشابكت
أنسابهم حتى صاروا مكوّنا واحدا، لا تكاد تقدر أن تفرّق بين عناصره الممتزجة
امتزاج التّربة بالماء، يقول الشّاعر:
تعلمت أنّ الأمازيغ أهلي *
* وأنّ العروبة شمس البشائر
وتاريخ يشهد بالفخر دوما * *
وأبطال ضحّوا لتحي الجزائر
وهذه المعاني السّامية هي ترجمة شعريّة بديعة لكلام
شيخ الإسلام في الجزائر، العلّامة الشيخ عبد الحميد بن باديس الذي كتب في جريدة
البصائر يقول:
" إنّ أبناء يعرب و أبناء مازيغ قد جمع
بينهم الاسلام منذ بضعة عشر قرنا، ثم دأبت تلك القرون تمزج ما بينهم في الشدّة
والرّخاء، وتؤلف بينهم في العسر واليسر، وتوحدهم في السّراء والضّراء، حتى كوّنت
منهم منذ أحقاب بعيدة عنصرا مسلما جزائريا أمه الجزائر وأبوه الإسلام و قد كتب
أبناء يعرب و أبناء مازيغ آيات اتحادهم على صفحات هذه القرون بما أراقوا من دمائهم
في ميادين الشرف لإعلاء كلمة الله؛ و ما أسالوا من محابرهم في مجالس الدرس لخدمة
العلم، فأي قوة بعد هذا يقول عاقل تستطيع أن تفرقهم ؟.."[7]
وبهذا الأسلوب
وعلى هذا النّمط العالي يستمر الشّاعر في التّغنّي بأمجاد الجزائر ومفاخرها، وذكر
مآثرها العظيمة في جملة من القصائد حظيت بخُمس مساحة الديوان تقريبا، وذلك مؤشّر
واضح على تشبّع الشّاعر بالروح الوطنيّة وإحساسه الدّافق بها، فعبّر عن ذلك في
مناسبات عديدة وبقصائد متنوّعة..
والدّيوان تحفة
إبداعيّة بحقّ فيه من الأناشيد والقصائد الشعريّة، التي تنّمي جوانب ثقافيّة
وجمالية في شخصيّة الطّفل الجزائري المسلم بعضها خفيف اللّحن[8]
طيّع النغمات لا يحتاج إلّا لحنجرة دافئة تتغنّى به، وبعضها الآخر له نمط خاصّ
يحتاج إلى ملحن بارع ليُكيّفه مع روح الطّفل المرحة المتوثّبة، وما زاد الديوان
روعة وجمالا هو تلك الصّور الفنيّة الحيّة التي زوّد بها، فجاء مثل بستان مليء
بالأزهار كثيرة الألوان عبقة الشّذى طيّبة الرّائحة..
[1]
- الشّاعر جموعي أنفيف أستاذ الاجتماعيّات جزائري من بسكرة
( الدرمون - كيمل ) شاعر وكاتب له دراسات نقديّة ودواوين شعريّة.
[2]
- ومن أعمال الشّاعر أيضا قصيدة مطوّلة بعنوان ( أرث الشهيد )، وله ( إلياذة
الجامعة )، فضلا عن ديوان مخطوط بعنوان ( نبتة في أديم القلب ).
[3]
- جرت العادة في الجزائر أن يقدّم اللّقب
على الاسم، وذلك من آثار المستعمر الفرنسي التي غرسها في الجزائر غرسا محكما وصعبت
إزالتها.. فزراري لقب عائلي بينما الاسم هو محمّد الصّالح.
[4]
- توفي في حادث مرور مأساوي ثاني العيد 21 سبتمبر 2009 م وهو في طريق العودة من
مدينة الوادي.
[6]
- تمّ الإعلان عن وقف إطلاق النّار بين وفد الحكومة الفرنسيّة والوفد الجزائري
المفاوض على يدخل حيّز التنفيذ بتاريخ 19 مارس 1962 م
[8]
- ساهم الشّاعر بقصائده الرّائعة في عدّة تظاهرات ثقافيّة
وتربويّة وغنّاها طلبة المدارس ونالت المراتب الأولى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق