2014/06/18

قراءة انطباعيّة في رواية (أعشقُني*) للدكتورة سناء الشعلان بقلم:آوات محمد أمين



قراءة انطباعيّة في رواية (أعشقُني*) للدكتورة سناء الشعلان
 بقلم:آوات محمد أمين  
   إنّها رؤية جديدة،وتعريف جديد لمفهوم "الاغتراب" وصياغته في أطر وأبعاد لم نألفها من قبل، تلك هي رواية (أعشقُني)،كما فعلت الرّوائية سناء الشعلان في تقسيم عالم الرّواية على خمسة أبعاد،فإنّني وجدت أكثر من بعد لمفهوم الاغتراب على طول الخط البياني للرّواية. ويمكنني أن أقف عند أهمها كما يلي:
الاغتراب الزّماني؛ وتخبرنا الرواية منذ بدايتها بزمن من تقويمنا الميلادي،ولكن من المستقبل وهو العام 3010، أي أنّنا نتابع أحداثاً تتقدمنا بألف عام مما نعدّ،أحداثاً تذكرنا لحظة بلحظة بأفلام الخيال العلميّ ومغامرات إنسان المستقبل وتحدياته.الغريب في الأمر أنّه  على الرّغم من براعة الروائية في صناعة الأحداث الغريبة،لكن القارئ لا يمكنه فصل أبطالها عن المحيط الواقعي الذي يعيشه، ففي النّهاية نجد باسل المهري و شمس و خالد وغيرهم ليسوا سوى أناس من عالمنا البشري حيث نشاركهم الأحاسيس و المشاعر و الآلام و المسرات.إنّ الاغتراب الزّماني حقيقة نعيشها مع مرور الأيام و السنين،لكن زمن الرّواية وكأنها خلقت لكي تبعد عن أذهاننا أحداثاً اقرب إلى الخيال تخبر عن تطورات علمية وتقنية مذهلة مثل الانتقال بسرعة الضّوء أو التحّكم بأجساد البشر وأعضائهم.
الاغتراب المكاني؛ رغم أنّ مسرح الأحداث الرئيسيّة هو الأرض التي نعيش عليها ،لكنها ليست بالشكل والمعالم الحالية؛إذ إنّ نتيجة لحروب كونية مهلكة فقد تغيرت معالمها بشكل جوهري إلى حد أنّ النباتات وأصناف كثيرة من أشكال الحياة قد أصبحت جزءاً من الماضي البعيد،و لم يُحتفظ إلاّ بنماذج منها في محميات أو في نماذج مصطنعة. لذا نجد حتى اسم "الورد" قد أصبح غير مفهومٍ  إلاّ لدى من توارثوه من بعد أجيال أو عند من يُعدّون من العوائل المتحفظة المتمسكة بتقاليدها منذ الآلاف السنين و ليس من العجب أن يكون خالد و شمس و باسل من ذلك الصنف من البشر. إنّ المساحة المكانيّة في الرّواية تمتدّ عبر المجرة كما أنّ السّلطة السياسية متمثلة بحكومة المجرة هي التي تحدّد علاقة المواطن بالمكان وتنقلاته. وتقوم الرّوائية وببراعة بنقل القارئ عبر فضاءات المكان ولاسيما بين الأرض والقمر حيث تقع أحداث الرّواية مما يجسّد حالة الاغتراب المكاني الذي يعيشه الإنسان.
   الاغتراب الوجودي؛ إنّ الحدث الرئيس في الرّواية والمتمثل بالعملية الجراحية الإعجازيّة أو التّجربة العلميّة التي أُجريت على باسل في نقل دماغه إلى جسد شمس المتوفية وما ترافقها وتتبعها من تداعيات نفسية وروحية يمثل الاغتراب الوجودي في أوج تساؤلاته عندما لا تغيب هوية الفرد فقط بل حتى تحديد جنسه، وذلك ما يحدث لبطل الرّواية عندما يجد نفسه المذكر في قالب امرأة لا يعرف عنها إلاّ القليل ومن ثم يبدأ رحلة للتعارف الشاق بكلّ مطارحاتها ومشقاتها. شيء لا يمكن حدوثه ضمن المعقول، ولكن لا يُنكر تصوره في المستقبل البعيد لو استمر التطور العلميّ على هذا المنوال. السؤال الوجودي يبدأ من  الفصل الأول عندما ينظر باسل المهري وهو مستلقٍ على سريره إلى جسد مسجى لأنثى فارقت الحياة وهو يبحث عن الاستمرار في الحياة من خلال القبول بخوض أخطر مغامرة بما تبقى من جسده الذي قد تغيرت كلّ ملامح وجوده المادي. الشكل الآخر من الاغتراب الوجودي يكمن في السّؤال عن الإيمان في عالم يحكمه الإلحاد.  
     هذا الإيمان الذي يتجلّى في ظهور دين جديد على يد نبية غائبة. دين ركيزته الإيمان بالحب بعداً خامساً وبتقديس الشّهوة والالتحام الجسدي والرّوحي بين المحبين كآخر المآل.       في رأيي إنّ الاغتراب الوجودي يمثل جوهر المشكلة الإنسانية كما ركزت عليه الرّواية،وذلك  يظهر في مكابدات باسل المهري في أن يكون نفسه لا غيره روحاً وجسداً، فيجد ذلك صعبا جداً،وفي النّهاية لا يجد مناصاً من القبول بالانسلاخ الوجودي من خلال الانسلاخ الفيزيكي (الجسدي) أيّ التحوّل من كائن أرضي زائل إلى كائن كوني يرنو إلى الخلود،وهو أقرب إلى نزعة المتصوفين المنادين بوحدة الوجود من خلال التّسامي و الاتحاد مع الذات الإلهيّة.  
   هناك جانب آخر من الثيمة الأساسية للرّواية يتعلق بالاغتراب الروحي للإنسان المعاصر، وذلك عندما تتحقق نبوءة أينشتاين حين قال في آواخر سنين عمره: "جلّ ما أخشاه هو أن يحلّ زمنٌ تتحكم فيه الآلة بحياة الإنسان ومصيره،حينها تتحول الأكثرية من البشر إلى كائنات بليدة فارغة من كل قيمة". الرّواية تقترب جداً من ذلك الزّمن الذي خشي منه أينشتاين، حيث نجد أناسا آليين يشاركون البشر جميع نشاطاتهم،و يمارسون مهنا  مايصعب تصوره مثل الطب و القضاء،ويحاورون في أمور هي من صلب هموم البشر.
   إنّ الإلحاد السّائد لدى الأكثرية السّاحقة في المجرة ما هو إلاّ انعكاساً طبيعيّاً للتطوّر العلميّ الخطير الذي يشهده ذلك العالم المستقبلي، كما أنّ من الطبيعي أن نجد القلة المحرومة من مجتمعات ذلك العالم تقرّر التمرد على العقيدة أو الإيديولوجية السائدة متسلحة بسلاح الإيمان كآخر ملاذ لخلاص الروحي. في الحقيقة فما النبيّة شمس إلاّ تعبير  أو تجسدي صادق لصوت الرّفض و التمرد من خلال الدّعوة إلى دين جديد إيّ إلى عقيدة روحية مستقاة من العمق الإنساني لبشر ذلك الزّمن الذي ابتعد عن ذلك العمق بمسافات بعيدة ،حتى كاد أن لا يتعرّف حتى على روحه نفسها. حاولت التعرف على ملامح و مكونات ذلك الدين الجديد منذ قراءتي للصّفحات الأولى للرّواية لاسيما عندما وجدت محاولة جادة من قبل الكاتبة إلى إعادة صياغة المقولة الإيمانيّة من خلال وضع قاموس جديد لمفرداتها ولكن استغربت عندما وقفت على مقولات دينية معهودة تخص ديناً قائماً منذ أكثر من ألف عام وهو الإسلام لاسيما من خلال أشهر مقولة هي الشهادة بأن "لا إله إلاّ الله". لقد تنبأ هرمان هسه بولادة دين جديد في أكثر من عمل روائي له كما فعل أوسكار وايلد في روايته ألفريدة "صورة دوريان جراي" دين يتقاطع مع الأديان السّائدة في أكثر من مقطع ومفصل. دين يدعو إلى إعادة الكرامة الإنسانية كما عند هرمان هسه،و آخر يدعو إلى عبادة الجمال وإعادة خيوط العلاقة بين الإنسان والطبيعة كما لدى أوسكار وايلد.       
     التقاطع الوحيد للدين الذي دعت إليه رواية "أعشقني" يكمن في تقديس الشهوةّ، الأمر الذي يبقى غير مفهومٍ إلى النّهاية، فمن جانب تدافع الرّواية عن ضرورة التوظيف الطبيعي للأعضاء التناسلية لبشر ذلك الزّمن بما يعيد لعملية التواصل الجنسي معناها الحقيقي ومن جانب آخر تقوم بتغليب الشّهوة على العشق بابعاده الحسية أو الروحية حين نجد جميع رسائل خالد تنتهي بعبارة "أشتهيك" وهو تغليب للرغبة الجسدية على الرّوحية كما تتوافق نهاية الأحداث في الرّواية في الصّفحات الأخيرة مع نهاية الاتصال الجسدي بين خالد وشمس في أروع توصيف لممارسة الجنس بينهما فوق القمر.
        فيما يخص البناء الروائي في (أعشقُني) فأنّني أود أن أشير إلى عنصرين وهما اللغة والحبكة (the plot) واللتين تشكلان الركيزة الأساسية في بناء هيكيلية الرواية. فالحبكة لا تحمل الكثير من التّعقيد من حيث صياغة الحدث وتطوره. والقارئ لا يغادر مسرح الحدث الوحيد وهو السّرير أوو المستشفى الذي يرقد فيه الشخصية الرئيسية في الرّواية ،ويبقى يتحرك في فضاءات افتراضية تخلقها الكاتبة في محاولاتها لفكّ الألغاز التي تطرحها على شكل تساؤلات لا متناهية عن مغزى الوجود الإنساني. كما يمكن تقسيم الرّواية إلى قسمين؛ الأول منه يتركز على الحدث الدّرامي وتطوره (العملية الجراحية، ظهور حالة الحمل و تقرير مصير الجنين) أمّا القسم الثاني الذي يبدأ من ألفصل السابع، فإنّه يشهد انتقالة فنية من الحدث والحركة إلى الإنشاء والسّكون حيث ينتقل القارئ إلى أزمنة خارج الإطار الحدثي للروائية؛إنّها انتقالة أو رحلة معارجية إلى عالم العشق والإيمان من خلال قراءة مذكرات شمس ورسائل خالد المفعمة بسحر العبارة وتأملات باسل العميقة.     
    من هنا تبدأ قوة العنصر الأوّل للرواية، أيّ اللغة، فإنّ الكاتبة لم تكتفِ باستخدامها التقليدي وسيلة للسّرد والبيان بل تعدّتها إلى توظيف أرقى من خلال هيمنة اللغة الشّعريّة على النّص بشكل شبه مطلق. من الفصل السادس أيّ من  الصفحة 83 من الرّواية نجد تحولاً واضحاً من لغة السّرد الإنشائي إلى النّثر الشّعري بالتّزامن مع انتقالة حسيّة إلى مدارات أخرى ضمن عالم الرّواية نفسه من خلال رسائل الوجد وتبادل المشاعر اللامتناهيّة بين العاشقين و(صورة و/ورد) تشكّل الخلفية المؤثرة و الحاضرة دوماً في مجمل اللوحة. ما أنجزته الكاتبة في (أعشقُني) يذكّرنا بأدب الرسائل وقصائد العشق بلغة المتصوفين والعارفين المزينة بالعبارات المبهمة المليئة بالإلغاز الإلهية. أنّها تتعدّى حدود التمازج بين أصناف الكتابة الأدبية التقليدية لتدقّ أبواب الأدب العرفاني، وذلك عندما تتوسع رؤية وقابليّة الكاتبة في التّعامل مع الكلمات و العبارات لتتجاوز الإطار الحدثي والزّمكانيّ للرّواية،وتسبح في أثير التساؤلات والتأملات الوجوديّة،فتصبح اللغة هي الفاعل الرئيس في عملية الخلق الإبداعي حتى تتحول من وسيلة أو أداة إلى غاية ومبتغى.

______________________________________
* رواية "أعشقني": سناء الشعلان،ط1،مؤسسة الوراق للنشر والتوزيع بدعم من وزارة الثقافة الأردنيّة،عمان،الأردن،2012م.






هناك تعليق واحد:

Unknown يقول...

تحمست لقراءة العمل فقد وضعني مقالك في بحر الرواية شكرا