بقلم: عبدالقادر صيد
ينهض مع الفجر ، يؤدي صلاته ، ثم يشرع في
تحضير الفول و الحمص و بعض
المكسرات الزهيدة ، يضعها في عربته الصغيرة ، بعدها يسوقها أمامه في العتمة بخطوات
أربعيني لم تؤثر فيه الكهولة بعد ، لا يتبيّنه إلا أولئك الخارجون من المسجد الذين
تعودوا أن يبتاعوا منه الفول الطازج بالماء المالح ،يستهلون به صباحهم ، و هي عادة
اكتسبوها منذ القدم ، بعدها ينتقل إلى بعض المشاريع القريبة منه يقدم للبنائين
خدماته المتواضعة التي تتناسب مع أجرتهم ،
و ما إن تبدأ الشمس في الطلوع و تفتح المدارس حتى يقبل عليه الأولاد
ليقتنوا ألوان الحلوى التي يعدها في منزله، و هي سكر مذاب على برتقالة صغيرة تُحمل
بعود ،أو سكر في قلب قوقعات تثير شهية الصغار، و عندما تصل الساعة الثامنة، يتقدم
بعربته عند أقرب محل ، و يتركها في الحفظ و الصون ، لا يقترب منها أحد ، ثم يقصد
مقر العمل الرسمي، و هو إداري محنك ، يلجأ إليه الموظفون كلما أعيتهم مشكلة إدارية . بعد الدوام ، لا يرجع إلى منزله
، بل يكمل بيع ما تبقى له من سلعة، و لا
يركن إلى منزله إلا ليلا ، نفس العمل يقوم به منذ عشر سنوات و لا أحد ممن يعرفه
أنكر عليه أو طلب منه الإجابة عن سبب هذه اللهفة أو المبرر لكل هذا الشقاء ، كما
لم يسألوه عن سبب بقائه عازبا طوال هذا العمر .
قبل أن يسلم نفسه للنوم يفكر في تلك العينين
اللامعتين اللتين يراهما يوميا من خلف النافذة في أعلى تلك البناية في طريقه إلى
العمل، يشغله أمرهما ، و يحيره، فهو منذ عشر سنوات لم يتقدم بخطوة ، ولا هما كذلك، يأخذان منه عادة التفكير
ساعة أو ساعتين ، ثم ينام ليبدأ صفحة جديدة خالية من أي همّ ، لكن المؤكد أنه
سيكون له يوما ما مع هاتين العينين شأن عظيم.
ليس له مشكلة مادية مع أي فاتورة أو أي
استحقاق ، إلا أن الهاجس المادي هو أول اهتماماته دائما ، كما هو أول مخاوفه ،
فمنذ وفاة والده الذي ترك له مبلغا محترما من المال ، و هو وفيّ لنهجه أبيه في
السعي الحثيث ، لا يعرف لا أصدقاء و لا وقتا للراحة ، و لا يعترف بمندوحة للترفيه
و الاستجمام ، لم يخرج من بلدته يوما ، لأنه لا يمكنه أن يترك العمل الذي يعني له
أرقاما جديدة ، و لكنه مع ذلك لا يخسر شيئا حين يكرّس ساعة أو ساعتين من التفكير و
التفاعل مع تلك العينين اللامعتين في تلك العتمة ، لا بأس من التوقف أمام هذا الوفاء اليومي منذ سنوات، الأكيد أن صاحبته
تكنّ له من المشاعر أنبلها ، و لكن يبدو أنه لن يتحرك إلا بمعجزة أو بزلزال يغير
جميع المفاهيم .
هذه الليلة تقلب كثيرا على فراشه ، لم يفكر في
تلك العينين ، بل لم يكن تفكيره منصبا على شيء بعينه ، هي صور تعرض أمامه يعجز عن
توقيفها ، و لكي يخدعها يحاول استحضار تلك العينين ، وما إن تستجيبا حتى تتشبثا
فيه و لا تتركاه ، فتصبحان هما في حد ذاتهما مشكلة ، يقنع بهما بوصفهما مشكلة
ممتعة، و لكنهما تبالغان في وظيفتهما ، فترهقانه حتى يبدو عليه التعب في الصباح ،
ويصبح منظره مع الأيام ملفتا للنظر، و يصير فجأة عرضة للشكوك التي تحوم حول كل
المواضيع لا تحاشي شيئا، حتى رست على
افتراضية دخول أنثى في حياته ، فأصبح عرضة للتندر بالتلميح ، و مع الأيام صدق نفسه
بأنه مغرم ، و صدق أيضا أنه مثل باقي
البشر، لذلك قرر أن يبحث عن صاحبة العينين .
استقر رأيه على أن يضحي بقيمة مبيعات أمسية ،
فأعد في الصباح بضاعة أقل من المعتاد ،و سأل عن ذلك المنزل ، فعرف بأنه لشخص موسر
يؤجر هذه البناية لمجموعة من الأشخاص من
بينهم عائلات ،وله في الطابق الأرضي مجموعة من المحلات، فبدأ يتقرب منه ، و يجلس
معه حتى وقت المغرب،يتفحص وجوه الفتيات اللواتي يصعدن البناية . مكث شهرا كاملا ،
لم يلاحظ أن أي واحدة منهن يمكن أن تكون هي ، فقرر أن يؤجر غرفة في البناية بحجة
أنه يريد أن يهدم بيته و يعيد بناءه من جديد ،و من المصادفات أن كان البيت الذي
تبدو منه العينان مقابلا لباب بيته ،طار فرحا في بداية الأمر، سكن غرفته شهرا ، و
هو لا يجرؤ أن يسأل عن صاحبة البيت ، لكن الأمر طال ، و لم ير الباب فتح و لو مرة
واحدة ، سأل مرة صاحب البناية ، فأجابه بلامبالاة :
ـ لا يهمك أمره ..
توقف عن جر تلك العربة ، فتخلى بذلك عن ذلك
المبلغ الإضافي الذي كان يميزه عن بقية زملائه في العمل ، و أصبح يسدد مبلغا زائدا
و هو الإيجار .مرت الأيام و فكره يروح شمالا و يمينا حول ساكنة البيت إلى أن تخوف
من أن يكون مسكونا بالجنيات ، حاول جر المالك إلى سره بأسلوب غير ملفت للنظر، فكان
يتهرب من سؤاله ، إلى أن صارحه يوما :
ـ من التي تسكن البيت ؟
ـ البيت فارغ منذ عشر سنوات ، أخشى أن يتهدم بين الفينة
و الأخرى، لا أحد يشغله ..
ـ إذا يمكن أن تؤجره لي ؟
ـ نعم بكل سرور..
دخل البيت فإذا هو بيت مهجور ، لا شيء فيه يوحي
بأنه كان مأهولا ، لم يصدق ما يراه ، عرف أنه كان مسحورا منذ عشر سنوات.. اعترته
قشعريرة ، قاومها ، تقدم إلى النافذة فتحها ، فإذا فيها رسم عينين بمادة تلوين
تلمع ليلا إذا تعرضت للأضواء ، جلس من شدة الصدمة على كرسي مغبر، عرف أنه كان
مغفلا طيلة هذه الفترة ، نزع الصورة ، و رجع في نفس الوقت إلى منزله القديم ، فنام
نومة هانئة لأول مرة منذ سنوات ، و لم يستيقظ إلا مع وقت العمل الإداري . بعد مدة
رجع إلى المالك فوجده حزينا ،فسأله عن السبب ، فرد عليه :
ـ يا صديقي إنك منذ أن خرجت من البيت ، شرع المؤجرون
يغادرون الواحد تلو الآخر ، حتى المتزوجون ،لم يبق منهم أحد ..
ذلك الرسم كان لطفل صغير ، لقد عمّر إبداعه
البريء البناية لعشر سنوات دون علم المالك ، الملفت للنظر أن ذلك الطفل ما زال
يعبث بهذه الهواية من بناية إلى أخرى حتى الشيخوخة ، لكنه لا يحس بضحاياه أبدا ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق