2017/06/21

قراءة في كتاب ( الجملة الإستراتيجيّة ) البنية والتعريف للأستاذ محمّد دريدي بقلم : عبد الله لالي



قراءة في كتاب ( الجملة الإستراتيجيّة ) البنية والتعريف
للأستاذ محمّد دريدي


بقلم : عبد الله لالي
الجملة الإستراتيجية = مجال + فعل إستراتيجي + فاعل إستراتيجي + مفعول به إستراتيجي + موارد
كتاب نادر في المكتبة الجزائريّة الحديثة ، يتخصص في دراسة ( الجملة الإستراتيجيّة ) من حيث بنيتها وتعريفها عند أشهر القادة والإستراتيجيين والسياسيين العالميين ، وهو من تأليف الأستاذ محمّد دريدي[1] ، وقد صدر منذ فترة قصيرة عن دار علي بن زيد للطباعة والنّشر في حدود 94 صفحة من القطع المتوسّط.
قلت عن الكتاب أنّه نادر في المكتبة الجزائريّة – حسب علمي – لأنّه فريد في بابه ، وقد شرّفني المؤلّف بقراءته في مسودّته فرأيت فيه فوائد جمّة ، وأسلوبا بديعا في تتبع الجملة الإستراتيجيّة ودراستها بشكل مفصّل ودقيق، والمميز في الكتاب أيضا أنّ مؤلّفه شاعر مطبوع، وقد أتبع كتابه هذا بجملة من القصائد اللطيفة والبليغة في الموضوع نفسه..
شيء جديد وشّى به المؤلّف كتابه ولعلّه من باب ( إستراتيجيّة الكتابة ) ؛ هو تخصيصه الصّفحة الأولى من الكتاب  بعنوان ( شعار ) يسبق الإهداء والشكر والمقدّمة ، أمر غير مألوف في الكتب الأخرى ، وصدّر هذا الشعار بقوله الله تعالى:
" فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ " الحج آية 46.
ثمّ أردف ذلك بقول الرّسول صلّى الله عليه وسلّم الذي رواه ابن حبّان والحاكم:
" وعلى العاقل أن يكون بصيرا بزمانه مقبلا على شأنه وحافظا للسانه ومن حسب كلامه من عمله قلّ كلامه إلا فيما يعنيه ".
وفي مقدّمة الكتاب تحدّث المؤلّف عن علمين من أعلام الإستراتيجيا في التاريخ ، وهما الصّحابيان الجليلان عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان، وبين كيف يستفيد عباقرة الإستراتيجيّا من المتضادّات ، فقال على لسان معاوية رضي الله عنه متحدّثا عن نفسه وعن عمرو بن العاص:
" يا عمرو إنّ مثلي ومثلك كمثل رجلين، أمّا أنا فبورك لي في الأناة وأما أنت فبورك لك في العجلة "
ولْننظر كيف يطوّع الرجل الذكي العجلة ، فبدلا أن تكون نقصا في شخصيّته تكون ميزة محمودة له ، وبالعكس يتضح الأمر أيضا ، كيف تكون الأناة التي قد تؤخّر صاحبها وتعطّل سير أعماله ، كيف يوظّف هذه الصّفة فتكون لصالحه أيضا ، وتعطيه ما لا تعطيه العجلة..
جعل المؤلّف كتابه عبارة عن عناوين متلاحقة يخدم بعضها بعضا، فجاءت في مئة وعنوان واحد ( 101 ) فضلا عن المقدّمة والخاتمة، وتحت كلّ عنوان فقرات قصيرة مركزة ومختصرة. توافق ما رمى الكاتب إلى تحقيقه وهو تعريف الجملة الإستراتيجيّة وتقريبها للقارئ على مختلف مستوياته الثقافيّة.  
ولتكون عندنا صورة أوضح للكتاب نأخذ عيّنات من الكتاب هي خلاصته وزبدة موضوعه، أو هي منها..
الجملة الإستراتيجيّة
كان العنوان الأوّل هو تعريف الجملة الإستراتيجيّة وقال عنها الكاتب:
الجملة الإستراتيجيّة " تغطّي مجال العلاقات الدولية سلما وحربا حاضرا ومستقبلا ، ومن ثمّ فمادّتها الرّئيسيّة الكيانات السياسيّة ، وفي مقدّمتها الدّول طبعا..) ، ثمّ يفصّل الكاتب في تحديد بنيتها..
وعندما يتعرّض لبسط معنى ( الفعل الإستراتيجي ) يضع معادلة توضيحيّة لذلك الفعل:
" الفعل الإستراتيجي = فعل عقائدي + فعل اقتصادي + فعل عسكري ".
ثم قام بشرح موجز لكلّ مصطلح من هذه المصطلحات بشكل موجز ومحدّد.
وتحدّث كذلك في مجال الفعل العقائدي عن تأثير الديانات والعقائد في صناعة هذا الفعل، وأيضا بيّن دور الأفراد في هذا المجال ، ومن النّماذج التي ذكرها ( حيرام أبيود )، وهو يهوديّ قال عنه أنّه ( صاحب فكرة " القوّة الخفيّة " والمعتبر في التراث اليهودي معلم وأستاذ مؤسس رئيس.. ).
وذكر الفعل الاقتصادي ودوره الإستراتيجي في قوّة الدّول وضعفها ، في ظهورها أو تلاشيها، ومن جميل العناوين التي سطّرها في ذلك قوله:
( التّاجر قبل الجنديّ ).
وهنا نلحظ مدى دقّة الكاتب في تحديد مصطلحات بحثه ، وتوضيح مدلولاتها بشكل لا لبس فيه ، وهو في هذا أقرب إلى بناء القاموس اللّفظي للإستراتيجيا ، وتيسير مصطلحاتها للقرّاء والباحثين .
وتحت عنوان مثير يقول :
( الوحش النّائم
كلّ دولة تحمل في نيتها وحشا نائما ما إن يشعر بسنوح الفرصة وتوفّر الإمكانيات والقدرة على تحقيق الأهداف حتّى يستيقظ ويشرع في العمل والفعل ..).
والتاريخ يصدّق كلامه وطبائع البشر تبصم عليه بالعشر ، فقد تداولت الغلبة على الأرض عدلا أو قهرا ، حقّا أو باطلا معظم دول الأرض ، إذ كانت لها ( دولة ) وفترة قوّة انتصرت فيها وسيطرت على مَن حولها وما حولها.
ويرجع الكاتب مرّة أخرى إلى الفعل الإستراتيجي ويسمّيه هذه المرّة بــ:
( مثلت القوّة ) ويشرحه قائلا:
" قوّة الدّولة " أي دولة " مثلث أضلاعه " العقيدة ، الاقتصاد ، العسكريّة " ومهما تخلّف ضلع سقط المثلّث برمّته في الماء .. "
وفي لفتة فنيّة بديعة تمزج الإستراتيجيا بالأدب يُعنون بما يأتي:
( ذو الوزارتين يسيّس الشعر
ذو الوزارتين سياسي أندلسي شاعر وصف حال ملوك الطوائف زمن أفول الدّولة الأندلسيّة فكاد توصيفه يكون نسخة طبق الأصل لحال الدّول النّاشئة في إطار تصفية الاستعمار ومنها دول "صايكس بيكو"  الحاضرة اليوم.
ومما يزهدني في أرض أندلس * * أسماء معتمد فيها ومعتضد
ألقاب مملكة في غير موضعها * * كالهرّ يحكي انتفاخا صولة الأسد.
وتحت عنوان :
( ابن خلدون يفضح " فوكوياما " قبل قرون )
يقول:
" ابن خلدون مؤرّخ منظر سياسي ألمعي يرجع إليه الفضل في وضع اللبنات الأولى لعلم الاجتماع الحديث عبّر عن الظاهرة قيد الدّرس بمفردات شبيهة إلى حدّ ما بمفردات سلفه " تيوسديد" لكن بأسلوب عالم الاجتماع الذي عادة ما يربط النّفس والسياسة والتاريخ فجاءت عبارته من الطراز " المغلوب أبدا مولع بتقليد الغالب ..." إلى أن يقول المؤلّف:
" بلغة مالك بن نبي رحمه الله يكون الأستاذ فوكو ياما قد أشرب من صهباء " القابلية للاستعمار " حتّى الثمالة فظهرت أعراضها جلية في كلّ تفاصيل حياته بما فيها ثنائيّة اسمه.
فالثنائيّة " فرانسيس فوكوياما " تحمل التناقض والازدواج وتعبّر عن الاستلاب بقوّة ووضوح فـــ " فرانسيس " يرمز إلى محيط ثقافي حضاري غربي بامتياز وأمّا " فوكوياما "  فيرمز إلى محيط ثقافي حضاري شرقي مختلف كلّ الاختلاف. 
















الجزء الثاني:
ما يمتاز به كتاب ( الجملة الإستراتيجيّة ) أنّ معظم المقولات الواردة فيه هي من بنات أفكار المؤلّف واجتهاده الخاص ، فقد بلغ درجة الإبداع والإنتاج الفكري البِكر.. ومن طريف الصياغات للجملة الإستراتيجيّة ما عبّر به عن حالة الدّول من حيث القوّة والضّعف ، ومن حيث الفعل وردّة الفعل ؛ هو إطلاقه على الدّول القويّة القائدة مسمّى ( الفاعل الإستراتيجي ) وعرّفها بقوله:
" يعتبر فاعلا إستراتيجيّا كلّ دولة قويّة سيّدة تصدر في قراراتها السلميّة والحربيّة استجابة لمصالحها العقائديّة والإستراتيجيّة دون مراعاة للإكراهات والإملاءات الخارجيّة "
وأطلق مسمّى ( المفعول به إستراتيجيّا ) على كلّ دولة مقادة مغلوبة على أمرها. وكذلك من طريف مصطلحاته الإستراتيجيّة الرّائعة والتي فيها سخريّة مرّة وتشنيع لاذع ؛ هو مصطلح ( الرّق الإستراتيجي ) أو ( السّخرة السياسية ) ويعرّفها المؤلّف بقوله:
" الرّق الإستراتيجي والسّخرة السياسية مصطلحان جديدان أزعم أنّي أدفع بهما في الحياة العلمية، الثقافية والسياسية، يحصران ويحددان ظواهر مرضية مبطنة في بنى الدّول التابعة تفسّر العلاقة ( اللامتكافئة ) القائمة اليوم بين المراكز باعتبارها غرف توجيه وتحكم بين الأطراف.."
ويضعنا المؤلّف مرّة أخرى بين يدي جملة إستراتيجيّة من نحته الخاص ويسمّيها ( معادلة الوسائط الإستراتيجية ) ويصوغها كما يلي:
الوسائط الإستراتيجية = مجال + موارد.
ثمّ يفصل في هذه المعادلة تفصيلا جذّابا ، فيعرض لــ : ( تأثير المجال " الوسط " ، والموارد ).
ويجعل للموارد معادلة خاصّة هي:
الموارد = موارد تاريخيّة + موارد جغرافية + موارد بشريّة.
وفي نوع من التوليد التسلسلي الذي يفضي بعضه إلى بعض ؛ يضع معادلة أخرى للموارد التاريخيّة ويصوغها كما يلي:
" الموارد التاريخيّة = موروث علمي تقني + موروث قيمي عقائدي "
وبالطريقة ذاتها يضع معادلة للموروث القيمي العقائدي..الخ    
وربّما نقف قليلا متأملين معادلتين على جانب كبير من الأهميّة جاءتا في ختام الكتاب وهما:
( - معادلة الأمن الاجتماعي – الصورة النهائيّة للجملة الإستراتيجيّة ) ويقول فيهما:
1 - معادلة الأمن الاجتماعي:
" الأمن الاجتماعي = أمن عقائدي + أمن اقتصادي + أمن عسكري " وقام المؤلف بشرح ذلك تحت عنوان:
تطبيق تقابلي:
قال فيه:
" الوزارات الأمنيّة = وزارة التربية + وزارة الفلاحة والموارد المائية + وزارة الدّفاع "
والغريب في هذه المعادلة أنّه يجعل على رأسها وزارة التربية ، ثمّ تليها وزارة الفلاحة وتأتي وزارة الدّفاع في المرتبة الثالثة ، وهذا الترتيب بالمنظور السطحي ترتيب خاطئ أو مقلوب على أقل تقدير ، لكنّه في حقيقة الأمر وبالمنظور الإستراتيجي البعيد المدى هو ترتيب صحيح مئة بالمائة ، فوزارة الدفاع إذا لم تتكئ عل قاعدة تربوية عريقة وصلبة ، وأمن غذائي يلبي حاجة البلد لسنين طويلة ، ويستغني عن الموارد الأجنبية في تلبية حاجة مواطنيه الأساسيّة ؛ فإنّها بدون ذلك لا يمكنها أن تحقق الأمن للدولة والشعب ، وصدق الله العظيم الذي امتنّ على قريش بقوله:

"   الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ " فقدّم الأمن الغذائي على الأمن العسكري أو الأمن من الخوف.

وفي لفتة جميلة جدا يحدّثنا المؤلّف عن المورد ( الأصيل ) الذي هو الدّماغ البشري، ويقول عنه:
" لقد صدق من قال : " لو جمعت كلّ الآلات الحاسبة المنتجة قديما وحديثا، وكلّ الكمبيوترات العاملة والمستهلكة ، ثمّ دقّت حتى تكون في حجم الدّماغ البشري، لكان الدّماغ أعقد منها جميعا ".
وختام الكتاب خصّه المؤلّف لإعادة صياغة الجملة الإستراتيجيّة بشكل دقيق ومضبوط:
الصورة النهائية للجملة الإستراتيجيّة:
يصوغها على النحو التالي: ( الجملة الإستراتيجية = مجال + فعل إستراتيجي + فاعل إستراتيجي + مفعول به إستراتيجي + موارد ).
ولا يكتفي المؤلّف بالتنظير ونحت المصطلحات الجديدة بل يضرب لنا عن كلّ مصطلح أو مفهوم إستراتيجي أمثلة حيّة ، ولنأخذ ختامها ليكون مسكا ، يقول موضحا الجملة الإستراتيجيّة:
" مثال حي للجملة الإستراتيجيّة
الظاهرة الاستعمارية = إفريقيا + استعمار + مستعمِر + مستعمَر + ثروات " 
وذيّل المؤلف كتابه بفصل شعري في الموضوع ذاته قدّم له بقوله:
" الشعب على طريق البقاء "
وساق أفكاره السابقة في جملة من القصائد الشعريّة العميقة التي تعطي للمصطلح والفكرة بعدا أدبيّا وجماليا رائقا ، وقدّم بين يدي تلك القصائد بكلمة مؤثرة لا تبعد عن الصياغة الإستراتيجية بل من رحمها انبثقت:
" ضع هدف
جدول الزمن
عبّئ الموارد
اشحذ الهمم
اجتهد
لا محالة ... حتما
تصل "
ثمّ ساق لنا المؤلّف الإستراتيجي الشاعر أربع قصائد شعريّة من النوع الفكري الثقيل ، الذي يحتاج إلى تأمّل وتدبر طويل وهي ( رجال الزمن / الشعب ينظر من أجل البقاء أو ذاكرة الشعب / الشعب ينبه من أجل البقاء أو رسالة الشعب / مواصفات فتى البقاء أو كن يا فتى) .
يقول في قصيدة ( كن يا فتى ):
قصيد يوسم مجتهدا * * حريصا مناه سمو الوطن
يصون ذمام الكرام قضوا * * على العهد عضوا  تحدّوا الزمن
يورث صنعة حفظ الحمى * * ودفع التكاليف أيا تكن
كتاب فريد من نوعه.. يذكرنا بطريقة مالك بن نبي رحمه الله تعالى في التفكير الحضاري ، ولكنّه أبعد في التخصص بشكل أدق وأكثر تفصيلا ، وابتداعا للمصطلح الفكري الإستراتيجي الجديد بجرأة معرفية عمادها البرهان والتمثيل الواقعي الحي ، ويحسن بالجامعات الوطنية أن تبرمج هذا الكتاب القيّم في مناقشات رسائل الطلبة ، أو حتى تجدوله في برامجها الدراسية فهو إضافة تفخر بها الجامعة والمكتبة الجزائريّة والعربيّة. 


[1] - الأستاذ محمّد دريدي من مواليد 15 / 04 / 1966 م بخنقة سيدي ناجي بسكرة ( الجزائر ) ،  أستاذ العلوم الطبيعيّة ورئيس بلديّة خنقة سيدي ناجي سابقا ، له مشاركة في العمل الصّحفي من خلال جريدتي ( الدّيار ) و (فسيرا ).  

ليست هناك تعليقات: