2017/06/13

من قصص الخميس للقاص فرج ياسين بقلم: سفانة شعبان الصافي و باسل مولود يوسف



من قصص الخميس للقاص فرج ياسين

سفانة شعبان الصافي                   باسل مولود يوسف

المُرسَلون

        يستهل القاص فرج ياسين هذهِ القصة بقوله (يأتون في الخريف حين تتكسر شأفة الحر، ويطيب هواء الليل، ينصبون خيمتهم على حافة الجرف الصخري أمام النهر، بالقرب من البلدة(.
       تنتمي هذهِ القصة الى مجموعة قصص الخميس للقاص فرج ياسين، المرسلون نصاً قصصياً، يُعَدُّ مكوناً جمالياً ذا أهمية بالغة في هذهِ المجموعة، إذ منحت الاختيار القرائي وجوداً فاعلاً في تقصي طاقتهُ التوصيلية في هذا الاتجاه وقد حرص القاص في هذا النص على اشتغال متفرد، أفاد فيه من تجربته الحية، ومرجعياته الواقعية، مبحراً بالتكثيف والاختزال تارةوالتفاصيل الصغيرة تارة أخرى، ولم يتحدد اختيار هذهِ المقالة في مفارقة الموقف إلا كونها أغنى المكونات الأسلوبية التي أَغنت النص وآثرته في بنية الحضور، فضلاً عن توظيف الحس الأسطوري والإنساني الذي دأب فرج ياسين استبطانه واستنطاقه بلغة قصصية تنحاز الى آليات الفضاء الشعري.
       وبعد قراءةً متعصبة لنص المرُسلون، والشروع في هذهِ القراءة استطعنا أن نشخص عدداًمن الاساسات، منها: الحوار في هذهِ القصة، وبلاغة المعاني، وضمن رؤيتنا المتواضعة في هذا المجال النقدي.
تعمل هذهِ القراءة على مناقشة الحوار في القصة وعتبة العنوان وبعض المظاهر البلاغية
       إن أبرز ما يسم هذا الحوار إنهُ لا يقوم على فكرة واحدة بل إنهُ ينتج ازدواجيته من خلال هذهِ التعددية تعدد الموقف والرؤى والافكار والاختلاف في جهات النظر بين الشخصيات في قضية مخصوصة لم يكن للحوار أن يبرز بهذا التدفق السردي، ونعني هنا الحوار الخارجي الذي ينمو ويستمر نفوذه بسلطة صوتية بارزة، وبمعنى آخر أننا لن نجد تعدداً للأصوات في الحوار الداخلي الذي يعتمد الذات منطلقا ومرجعا، فلكي يتحقق الحوار السليم لابد أولاً من تجاذب بين الأطراف المتحاورة، وثانياً لابد من انفعال صوتي ظاهر، وثالثاً لابد من علاقة سلبية أو ايجابية بين الآخرين وهذا يشترط تواجداً فعلياً بين الشخصيات في مكان وزمان واحد، إننا هنا إزاء أصوات تتحرك لذا فأننا استطعنا ان نرسم ابرز ملامح قصة مرسلون والتي تتمثل بما يلي:
       حدث تعدد الأصوات حين حضرت وجهات النظر هنا الى الشخصيات المشاركة في الاحداث المروية
فرج ياسين قاص يستوعب فن كتابة القصة، وهو حريص على التطوير والإِنماء وفي مدونته خير دليل على ذلك النفس السردي الناطق بالواقع وبهموم الناس والمجتمع، والارتباط المصيري والحميم بتفاصيل الحياة البسيطة والحميمة.
     جاءت هذهِ القصة لخلق رؤية سردية تتوسط الأحداث وتتحرك امتثالا لدور الراوي وهيمنته مرة، ولدور الشخصيات مرة أُخرى ، فقد عمد فرج ياسين استثمار أصوات متعددة تتحرك في النص الحكائي هذا على وفق طريقة تستجيب للتعددية والتنوع والاختلاف.
(يتجولون صامتين ولا يجلسون في المقاهي أو يحدثون أحدا، ولم يشاهدوا وهم يأكلون في مطاعم البلدة أو يشترون الطعام يدخلون السوق ويعودون بأكياس ممتلئة يحملونها على ظهورهم، لا أحد يجزم بأنهُ رأى بينهم طفلاً أو أمرأه) فأن القاص أستطاع بمهارة أَن يجعل هذهِ الأصوات تتحرك ضمن الحيز المرسوم لها من دون إِلإِسناد الى من يتولى نقلها الى المتلقي بمعنى إنّ في النص الحكائي دوماً راوي يمسك زمام الأمور، ويتحكم بأليات الاشتغال السردي داخل النص، إلاّأنّنا نجد في هذا النص أَنَّ الأصوات تتحرك بحرية واسعة ومجال أوسع، ليخلق كل صوت مداره السردي وليتكلم وينفعل ويبوح بآرائه على النحو الذي يضمن حضوره وتفاعله مع الأخر على الرغم من أنّ كل صوت يحاول الاستعلاء على الأخر.
تميزت هذهِ القصة بمضامين فنية على الصعيد الشكلي للقصة وأخر أيد لوجي بمضامين فكرية واجتماعية ودينية وظفها في النص بوصفها مرجعيات دينية أو فكرية.
       أستخدم القاص هذا النظام من السرد الذي كان فيه مطلعاً على كل شيء، حتى الأفكار السرية للأبطال، ومن مميزات هذا النص هو السارد المستقل عن المواقف والوقائع المروية، لن يتدخل ليفسر الأحداث، وإنما وصفها وصفاً محايداً كما يراها أو كما استنبطها من اذهان الابطال وتم ذلك من خلال الضمير (هم) وهو يعد أبسط الصيغ في الكتابة، فضلاً عن كونه تقليداً لا يعتمد الشخصانية في الطرح ولأن اللغة قد انشات نظاماً زمنياً مركزاً على الماضي المبهم موجهاً لكي يتجاوز حاضر (السارد) فضلاً عن ذلك فالسارد قائم على اتخاذ موقف يكون خلف الاحداث.
1- نبدأها أولاً بعتبة العنوان (المرسلون) رمز مختصر لحدث وقصة تتناثر مفرداتها في أجواء القصة لتجسد الفكرة أو ما اراده القاص في ذلك، ربما كل منّا يفسرها حسب ما يراه إلاّ أنّ المعنى الذي توارى في مخيلة القاص يجهله كلّ منا إلاّ القاص نفسه، ويبقى الرمز هو الكائن الوحيد الذي يطمح أنْ يعرفه الجميع.
2- تحليل القصة: القصة قصيرة جداً جمعت بين دفتي مفرداتها كلمات والفاظ بسيطة متنوعة، اسلوبها هو السهل البسيط الممتنع، في بداية حديثه كان واصفاً لمشهد من مشاهد الزمن فقال:
(يأتون في الخريف، حين تتكسر شأفة الحر ويطيب هواء الليل) لم يكتفِ بذكر (الخريف) أحد فصول السنة وهو: (الفصل الذي تُخترفُفيه الثمار)([1])فذكر أنّ هذا الوقت: (تتكسر شأفة الحر) ولزيادة جمالية الوصف نراه يقول: (ويطيب هواء الليل)، ثم يتابع سرده للقصة برسم صورة جميلة كأننا نراها ماثلة أمامنا بقوله:
(ينصبون خيمتهم على حافة الجرف الصخري) ولم يتوقف عند هذا الرسم بل أضاف قائلاً: (أمام النهر) فاللوحة لم يختمها بلون معين بل زاد في جمالها زيادة الوان أَخرى جعلها تزداد بهاءً ورونقاً، فلم يكتف بقوله: (حافة الجرف) بل أنّه عيّن ذلك الجرف الذي كان (صخرياً) فضلاً على ذكر موقعه بالتحديد وهو أمام النهر، هذهِ الخيم التي ينصبونها هؤلاء المرسلون كانت على حافة الجرف الصخري الذي يقع أمام النهر، وكالعادة فانّ القاص مولعٌ بذلك النهر الذي طالما وجدناه في اغلب كتاباته، حتى انّنا إنْ لم نجده نفتقده لإدماننا عليه، وكيف لا يذكر دجلة وهو من تربى على مائه، العذب وتغنى في كتاباته، وهو ابن تكريت البار بها المترعرع بأحضان مياهه العذبه، ثم يتابع وصفه لهؤلاء المتحدث عنهم فيقول:
(ليسوا رعاةً ولا غجراً) نفى أنْ يكونوا (رعاةً) وهو جمع (راع) وهو اسم و(الراعي) من يحفظ الماشية ويرعاها و(الراعي) أيضاً كل من وَليَ أمراً بالحفظ والسياسة، كالملك، والأمير، والحاكم([2])وأظنه أرادَبه المعنى الاول وهو من يرعى الماشية لدلالة ما بعده بقوله: ولا غجراً، والغجر: هم قوم جفاة متجولون، منتشرون في جميع القارات، يتمسكون بتقاليدهم الخاصة يعتمدون في معاشهم على التجارة، أو عزف الموسيقى وقراءة البخت، أو الاحتيال والتسول، أو بعض الصناعات الخفيفة.([3]) وبعد أنْ ينفَي هذهِ الأصناف عنهم يقول: (رجال بيض مهيبون) فهم رجالٌ وليسوا نساء فضلاً على أنّهم بيض والبياض من الألوان وشيء أبيض: ذو بياض والانثى بيضاء([4]) أمّا صفتهم فهي الهيبة، وتعني: الإجلال([5]) في حين نجده يذكر هؤلاء الرجال زيادة في وصف حالهم واجلالاً منه لهم فيقول: (ثيابهم نظيفة وعيونهم ضاحكة)، ومن البديهي أنّ من أراد أن يزيد في توقير شخص ما، يذكر كل ما يمكن ذكره لإضفاء منظر الاجلال والاحترام فذكرَ مستوى الثياب التي يرتدونها من حيث النظافة فضلاً على اقبالهم على الحياة بكل أمل وتفاؤل وهذا ما نجده في وصف عيونهم وحالها، فقال: (عيونهم ضاحكة) وهذا يعني أنّهم كانوا كُثر، فلو كانوا قليلين لَعُبِّرَ عن تلك العيون بجمع القلة فقال: (أعينهم ضاحكة) إلاّ أنّه جمعها على (عيون) في الكثرة، والقاص على علم بكل تفاصيل اللغة التي يكتب بها وقواعدها كما تعلمنا منه في جميع القصص السابقة التي قرأناها عنه، فضلاً على أنّ في قوله: (عيونهم ضاحكة) استعارة جميلة لأنّ الضحك إنّما يكون في (الفَم) لكنه أراد أنْ ينوع في اسلوبه ووصفه لحال هؤلاء الرجال المستبشرين.
ثم يتابع حديثه في الوصف- وصف الرمز- فيقول:
(يتجولون صامتين ولا يجلسون في المقاهي أو يحدثون أحداً، ولم يُشاهدوا وهم يأكلون في مطاعم البلدة أو يشترون الطعام) حقيقة هذا الوصف يستشعر القارئ أَنّهم من عالم آخر غير عالمنا الذي نعيشه، تخيلت أَنّني أسمع وصفاً للملائكة كما كنا نسمع عنها في بطون الكتب ومن أفواه الاخرين. يتابع ليقول: (يدخلون السوق ويعودون بأكياس ممتلئة يحملونها على ظهورهم) لم يذكر نوعية هذهِ الاكياس ولا الاشياء التي كانت بداخلها، وهنا يترك مجالاً أخر للتوهم والاحتمالات، ثم يقول: (لا أحد يجزم بأنّه رأى بينهم طفلاً أو امرأة واحدة) وهذا مصداق قوله سابقاً: (رجال بيض مهيبون) فذكر أَنهم رجال دون غيرهم، فقد فسّر لنا بعد برهة من الحديث عن نوعية هؤلاء المتحدث عنهم ثم يتابع تفسيره لما سبق ذكره وهو قوله:
(كما لم يسمعهم أحد وهم ينشدون أو يرقصون أو يضحكون) وهؤلاء كانت تقاليد الغجر كما وضحناها من قبل، فهو يتابع تأكيده لما قال سابقاً ولكن بصورة أخرى تستشعر القارئ بالبحث عن المزيد. أمّا وصفه للفترة الزمنية التي ظهروا فيها فقال عنها: (يمكثون ثلاثة أيام على هذا النحو ثم يرحلون) أي يقيمون على هذا القصد ثلاثة أيام من الزمن ثم يرحلون الى مكان أخر لا يعلمهم أحد، ثم ينهي القصة بالحديث عن ذكريات هؤلاء الرجال بقوله: (بعد عقود من غيابهم الأخير) وهذا يستشعرنا بأنّهم ظهروا مرات عديدة لانه قال: من غيابهم الأخير، ومعنى ذلك أنّهم غابوا قبل ذلك التاريخ، يتابع قوله: (جعل أثرهم الغرائبي يُطمس في الذاكرة الجمعية شيئاً فشيئاً) اي ان اثرهم لم يختفِ مرة واحدة بل شيئاً فشيئاً، لدلالة (الفاء) التي معناها: التعقيب ([6]) ثم يستدرك ذلك القول بأنّ هنالك أشياء تذكّر الناس بهم فيقول: (لكن بعض الأشخاص مازالوا يحتفظون بالملابس والاحذية والدمى واللعب التي كانوا يوزعونها على أطفال البلدة قبل رحيلهم ويحتفظون بها للذكرى) استدرك ما قاله في هؤلاء الرجال وان ذاكرتهم قد طمست تلك الذكريات، ومعنى الاستدراك: ان تنسب حكماً لاسمها، يخالف المحكوم عليه قبلها، كأنك لمّا أخبرتَ عن الاول بخبر، خفت ان يتوهم من الثاني مثل ذلك، فتداركت بخبره، إنْ سلباً، وإن ايجاباً ولا تقع لكنّ إلاّ بين متنافيين([7]). بعد أنْ ذكر تلك الاشياء التي احتفظوا بها نراهُ يردد ما قاله مرة أخُرى بقوله: (ويحتفظون بها للذكرى)، هذا التكرار يفيد التوكيد، توكيد معنى احتفاظهم بتلك الاشياء فضلاً على احتفاظهم بذكرى اللقاء.
بعد قراءتي للقصة وجدت أنّ أبرز سماتها تكمن في:-
1-الطباق في قوله: (يدخلون - يعودون)و (يمكثون – يرحلون)
2-الجناس في قوله: (مطاعم – الطعام)
3- استخدامه لـ(أو) التي اتفق النحويون على أنّها تفيد الاشتراك في الاعراب لا في المعنى، إلاّ ابن مالك الذي يرى انّها تشترك في الاعراب والمعنى، ولها معان اخرى كما يذكر المراوي منها: الشك، والابهام، والتخيير، والاباحة، والتقسيم، وبمعنى الواو، فضلاً على انّها قد تأتي بمعنى ولا ([8]) من ذلك قوله:
(في المقاهي أو يحدثون أحداً... أو يشترون... طفلاً أو امرأة... أو يرقصون أو يضحكون) وهنا يحتمل معنى التقسيم ومعنى (ولا) حسبما اراه أنا – وكلّ له تأويله الخاص.
4- الواو من حروف العطف التي اتفق جمهور النحويين على انها للجمع المطلق، ذكر الواو في قوله: (مازالوا يحتفظون بالملابس والاحذية والدمى واللعب)
5- للزمن معنى خاص في هذهِ القصة، لذا ارتأى القاص أنْ يحدد ذلك الزمان بألفاظ متنوعة منها قوله:
(يأتون في الخريف)، (ويطيب هواء الليل)، (يمكثون ثلاثة أيام)، (بعدَ عقود من غيابهم الأخير)، فضلاً على أنّ للرقم قيمة مهمة جداً، فعندما أراد تحديد تلك المدة الزمنية التي كانوا يتجولون فيها بينهم اختار الرقم (3) لتحديد الفترة، في حين أنّه لما أراد أنْ يذكر مدة رحيلهم تركها بلا تحديد فقال: (بعد عقود) ولم يحدد تلك العقود.
6- ان القصة تدور أحداثها عن مجموعة من الرجال، يتجاوز عددهم العشرة فقد أكد باستخدامه للالفاظ التي تبين لنا كثرتهم، منها استخدام لجمع الكثرة في (عيونهم) فضلاً على استخدامه للأفعال الخمسة في كثير من المواضع منها: (يأتون، ينصبون، يتجولون، يجلسون، يحدثون، يأكلون، يشترون، يدخلون، يعودون، ينشدون، يرقصون، يصخبون، يمكثون، يحتفظون)
7- الجزم بـ(لم) كما قال: (لم يشاهدوا... لم يسمعهم) لافادة معنى النفي والقطع.
8- لحروف العطف مكان خاص عند القاص وكلُّ حسب ما يقتضيه سياق حديثه فعندما احتيج الى الاشتراك في المعنى استخدام (الواو) كما بيناها كقوله: (حين تنكسر شأفة الحر ويطيبُ هواء الليل) فضلاً على ماذكرته سابقاً، أمّا عندما احتاج الى الترتيب في المعنى فتناول (الفاء) ومنه قوله: (شيئاً فشيئاً) ثم عندما احتاج الى الترتيب مع التراخي في المدة الزمنية، اتخذ (ثم) للحديث عن هذا المعنى، وكما في قوله:
(يمكثون ثلاثة أيام على هذا النحو ثم يرحلون)
9- أمّا حروف الجر فقد تنوعت هي أيضا في قصته المتحدث عنها وكل حسب ما يقتضيه دلالة سياق الحديث فقد استخدم (في، والباء، ومن، وعلى، واللام) وقد أجاد في وضع كل حرف لإفادة المعنى المتحدث عنه.
10-    أمّا المكان فله أيضاً موقع خاص للقاص لإيصال المعنى المراد، منه قوله: (حافة الجرف و الصخري أمام النهر بالقرب من البلدة... ولا يجلسون في المقاهي... وهم يأكلون في مطاعم البلدة... ويدخلون السوق... في الذاكرة الجمعية).


([1])المصباح المنير: مادة (خرق)
([2])معجم المعاني الجامع: مادة (رعو)
([3])معجم المعاني الجامع: مادة (غجز)
([4])المصباح المنير: مادة (بيض)
([5])المصدرنفسه: مادة (هيب)
([6])الجنى الداني: 61
([7])المصدر نفسه: 615
([8])ينظر الجنى الداني: 227 - 230

ليست هناك تعليقات: