عبد القادر صيد
تزحف السيارة منحدرة نحو الصحراء ، حتى يخيل إليها أنها مشرفة
على حافة الكرة الأرضية ، فجأة تجد منعرجا ،تتساءل عن جدواه ، فالأرض كلها منبسطة
و جرداء ، لكن لا مناص لها من الإذعان في مملكة التيه هذه ،ثم تواصل سيرها إلى أن
تنسى إلى أين هي ذاهبة، فتجد منعرجا آخر لا يقل عنه غرابة ، متبوعا بأمثاله ، ربما
هي تسلية حتى لا تسهو في الطريق أو تنعس ، ثم أخيرا تصل إلى القرية ، لا لافتة تبين
اسمها ، و لكن الأكيد أنها هي، فليس هنا غيرها ، أو لا ينبغي أن يكون غيرها في هذه
القفار ، الناس فيها لا يكترثون بالزائر ، لأنهم يعلمون أنه لا يقدم لهم أدنى خدمة
، حتى و لو قصد ذلك بإخلاص ، فكيف و كلهم متدرع باللامبالاة ؟ !
تجد السيارة صعوبة في الوصول إلى قلب القرية ، لأن
الرجال يحتلون الطريق منذ المدخل، يفترشون الأرض و يلعبون الضامة و الخربقة و
السيق و ألعاب أخرى متنوعة ، و ما إن تتقدم حتى تجد وسط القرية فارغا ، لا أحد فيه
، أبواب المنازل مفتوحة، خالية من النساء و الأطفال الذين هم في مثل هذا الوقت يرتعون في واحات النخيل
التي تبعد بأربعة كيلومتر، لا عمل في القرية سوى غرس النخيل و التقوت منه تمرا ،
عصيرا ، دواء ، خشبا و جريدا، لا تصلح الأرض لغير هذه الشجرة
، أحيانا تحل اللعنة على المنطقة كلها ، لاشيء سوى العواصف الرملية ، لا يخرج
الناس من منازلهم لأيام ، حتى يهدأ هذا الغضب، يقول الشيوخ بأن دعوة سوء نزلت على
سكان القرية نتيجة ذنب كبير ارتكبه أحد أجدادهم المارقين، في حين رفض إمام القرية
هذا الطرح ، معتبرا إياه خادشا في قداسة
الأجداد موعزا في نفس الوقت هذه المأساة إلى ذنوب الأحياء متناسيا أن الخلف سيصيرون
في المستقبل أجدادا و ستسقط ذنوبهم بروح الأبوة التي تميل إلى الوثنية ، و التقادم
أيضا .
لا أحد من القرية سبق له و أن خرج منها إلا واحد
منهم فقط يسمى بشير ، و هو سائق شاحنة ، لم يكتب له الخروج منها فقط ، بل زار كل
ربوع الوطن ، و عبر إلى دول الجوار ناقلا سلعا و راجعا بأخرى ، يزدهي بالآلاف من
القصص الغريبة التي تحتل حيل التهريب و الجرائم فيها حصة الأسد، و هو الآن متقاعد رسالته
الأساسية أن يسرد على المولهين بالسمر
قصصه العجيبة التي لا يعيد إحداها أبدا، ما زال في عامه العاشر من الحكي ، و لا
أحد منهم لاحظ عليه التكرار ، و لا حتى التقارب في القصص . أما حينما يلتفت يمنة و
يسرة ، فإنه يدخل في المحظور ، و يرجع الكهول إلى منازلهم مفعمين بعنفوان الشباب ،
لحظة الذروة هذه في البوح ينتظرها الكثير.
لم يدخل التلفاز لهذه القرية بعد ،ليس بسبب عدم
توفر الأجهزة، و لكن لأن البث لا يصل إليها ، حتى في المدينة الكبرى فإن عدد الذين
يملكون جهاز التلفاز لا يتجاوز العشرة ، و هو بالأبيض و الأسود ، و سائق السيارة
القادم من المدينة لا يملك جهازا في منزله، يجتمعون في منزل عجوز طيبة في موعد كل
مباراة كرة قدم ، أما أبناؤه فيتطفلون كل
مساء على بابها فتسمح لهم بالدخول مع أبناء الحي ليتابعوا الرسوم المتحركة التي
لها موعدها اليومي المعلوم و المقدس، و يتناولوا لمجة مسائية من كرم العجوز
الميسورة .
لم تكن كل
روايات العم بشير مستساغة لدى سامعيه ، و
لكن ليس لهم خيار في ذلك ، فقد جربوه مرة ، حين راجعه أحدهم في قصة مبالغ فيها ،
امتنع عن مسامرتهم شهرا كاملا، حتى لموا شملهم جميعا ، وقصدوا منزله مترجين منه أن
يسامحهم ، و على إثر إلحاح شديد وافق على الرجوع إلى مجلس السمر بعد معاقبة الجليس
المشاكس ، كما أعلمهم أنهم لن يستفيدوا من القصص التي رواها خلال الشهر لأبنائه ، وقد
أخذ من أبنائه عهدا أن لا يكشفوها لأي شخص مهما كان .
السيارة تدور
في القرية ، و لكنها تضطر إلى الرجوع إلى الرجال الذين يحتلون الطريق و يلعبون ،
ينزل الثلاثة ، و يسلمون على الناس ، يخبرونهم بأنهم مكلفون بالبحث عن مكان لوضع
جهاز لبث التلفاز و الراديو ، الناس لا يصدقون ، لأول مرة يحمل الوافدون خبرا سارا
، يتخاصمون على استضافتهم ، و لكن ما إن
يحضر بشير حتى يتركوا له هذا الشرف .
في منزل بشير
أبهة و رفاهية و كأنك لست في قرية منسية في الصحراء ، تكلم أحدهم :
ـ عندنا تخطيط لربوة ليست بعيدة من هنا نريد أن نضع
فوقها جهاز البث .
ـ هو كبير ، لابد من شاحنات لحمله ..
قال بشير بكل
ثقة أمامهم و أمام مجموعة من كبراء القرية .
ـ صدقت ، نحن فرقة لدراسة المكان فقط ، و بعدها ستأتي
الشاحنات ، ستبث هذه المحطة لكل هذه الفجاج .
أبدى بشيرا
فرحا كبيرا بهذا الوفد ، و خرج معهم إلى تلك الربوة ، وبدأ المهندسون في عملهم
الذي يعرف عنه الكثير ،بل و ساعدهم فيه مما جعل سكان القرية يتأكدون من صحة قصصه
التي كان يحكيها لهم ، لقد زاد افتخارهم به . في الغد أيضا وقف معهم رفقة بعض
وجهاء القرية، و بينما كان المهندسون منهمكين في عملهم ، انشغل بشرح ما يقومون به لأهل
القرية ،ثم قال لأصحابه:
ـ سيحتاجون إلى
جهاز ، لا أراهم قد أحضروه معهم .
سماه بالفرنسية طبعا ،لم يصدقوه و لم يكذبوه ،اكتفوا
بإبداء التعجب ، و ما هي إلا لحظات حتى شرعوا يبحثون عن شيء ، فإذا هو الجهاز الذي
حدثهم عنه ، هنا لمعت عيون أصحابه ببريق من الإعجاب ،فإذا به ، يتدخل :
ـ لا تقلقوا عندي جهاز مثله في منزلي ، سأرسل ابني
ليحضره لكم .
انتهت الأيام
الثلاثة التي قضوها في بيت بشير، و في ساحة القرية يتناولون الشاي الأصيل الذي
يعده كل يوم مجانا، لا أحد يجرؤ أن يطعن
في طعمه المميز فعلا ، أما المكسرات ، فهي دائما عبارة عن فول سودني يتبرع به كل
مرة أحد الحاضرين .
استعد أعضاء
الفرقة التقنية لمغادرة القرية ، و أخذوا
يعانقون بشير الذي لم يستطع تحمل الفراق ، فأجهش بالبكاء ، و توسل إليهم أن يمكثوا معه يوما آخر، لكنهم اعتذروا
له ، فهم في مهمة رسمية ، لا تسمح لهم بالإطالة أكثر من المحدد لها ، و عدوه أنهم سيأتون المرة القادمة بعد أشهر مع الشركة
التي ستنجز المشروع ، و أنه سيمل منهم .
واصلت القرية
وتيرتها الهادئة في مسامراتها الليلية التي بطلها بشير ، و نسيت أمر جهاز البث ،
حتى استيقظ السكان على صوت شاحنات ضخمة ، تحمل أجهزة ، و منزلين جاهزين ، إنها
قافلة التلفاز المنتظرة ، يأتي معهم المهندسون الثلاثة ، يستقبلون بالعناق و
بالبشر ، و يكون بشير أول المرحبين و أكثرهم اغتباطا .
عشاؤهم على
كثرتهم في بيت بشير ، و على نفقته الشخصية ، يتألق في إلقاء قصصه بصورة لم يسبق
لها نظير ، ينبهر به الجميع ،أي قدرة مذهلة هذه في سرد قصص متناسق بأسلوب واقعي و بمسحة
خيالية مقبولة إلى أبعد حد !
مرت سبعة أيام
هادئة على بداية المشروع ، في ليلة اليوم الثامن ، هجمت مجموعة من العقارب و
الأفاعي على العمال ، أصابت منهم اثنين ،فتكفل بشير بعلاجهما ،فهو يحتفظ بدواء
اللدغات بشتى أنواعها ،الأمر غير عادي بكل التكهنات ، و لا تفسير واحد يمكن أن
يقنع ، لكنه أمر واقع لابد من تقبله كما هو ، بعد يومين غرق المخيم في هجوم مفاجئ
لسيل جارف من المياه ، الأمر صدفة ، لكننا أمام ربوة ،تعجبوا كيف يرقى الماء إلى
مخيمهم ! كل ذلك و بشير يحاول تهدئة روعهم ، و طمأنتهم بأن الأمر
عادي ،و لا يعدو أن يكون سيلا جارفا ضل طريقه ، لقد سمع بقصص مثل هذه .
في هذه الليلة
لم يستطيعوا أن يركنوا إلى النوم في المخيم ، فاستضافهم بالقرب من منزله ، و ما
كادوا يضعون رؤوسهم حتى رأوا النيران تشتعل في مقر عملهم ، هرعوا جميعهم إلى
إطفائها ، تطلب الأمر منهم وقتا طويلا ، و صار الأمر غير محتمل ، مما دعاهم إلى
تبليغ شركتهم التي أبلغت الشرطة ، فحضرت في منتصف النهار ، فاستضافهم بشير ، و درس
معهم جميع الاحتمالات ، فبدا الأفق مسدودا، بعد تحقيق حثيث توصل المحقق إلى قناعة محتومة
، و هي أن المنطقة مسكونة ، عارض بشير هذه الفرضية مبينا أنه يعرف المنطقة برمتها
منذ زمن بعيد ، و إذا كانت هناك مناطق مسكونة فهي بعيدة جدا و يعرفها بأسمائها
.لكن المحقق مقتنع برأيه ، ربما يتحجج لكي لا يطيل المكوث في هذه القفار..
في المرات
الثلاثة التي وقعت فيها الحوادث تفقد سكان القرية أنفسهم فلم يجدوا غائبا،الأمر
الذي كثف غرابة القضية ، و رغم هذا فقد رفض المسؤول عن المشروع المغادرة ، و هو
كهل يبدو أن الحياة علمته أن لا يتراجع
إلى الخلف أبدا ، لم يكن يعنيه كلام المحقق لا من بعيد و لا من قريب ، تمسك بقرار
البقاء رغم دخوله في اصطدام لفظي مع المحقق الذي طلب منه الإمضاء على محضر يتعهد
فيه بتحمل مسؤوليته الكاملة في حالة تضرر أحد العمال ،أو تعرض أملاك الدولة للعطب
.
هذه ليلة
عصيبة يعيشها العمال الذين يترقبون كارثة في غياب الشرطة ، ما إن انتصف الليل حتى
بدأت انفجارات لمفرقعات مدوية هدفها الإخافة و الإزعاج أكثر من الأذى ، بعد دقائق
ظهرت الشرطة تجرّ الجاني ، يبدو كهلا قاب قوسين من الشيخوخة ،تظهر عليه سمات
الجنون ، بلحية مهملة ممزوجة ببياض ، لا يخلو من وسخ يزيد حالته مأساوية، و رغم
مظهر الجنون إلا أنه مكسو بطابع الوقار، ما دعا المحقق إلى الرفق به ، كأنه يتوقع
أن تكون وراءه قصة مؤثرة ، بدأ الكهل في جنونه :
ـ إنهم أعداؤنا ، يريدون أن يسكتوا أصواتنا البشرية ،
تبا لهم..
ـ عمن تتحدث ؟
قال المحقق بلهفة ..
ـ أتحدث عن هذه الشركة و عن مشروعها ..
ـ لماذا ؟
ـ سيعكف الناس على التلفاز ، سيهجرون قصص بشير..
ـ و ما علاقتك به ؟
ـ لقد نفدت منه قصص منذ زمن ، و أنا من أزوده بالقصص
الجديدة ..و هو الذي وضع لي الخطط لإجهاض هذا المشروع ..
بحثت الشرطة عن
بشير ، و لكنها لم تجده ، فقد فر ليعيش حياة التشرد ، و لم يلبث طويلا حتى التحق
به المجنون الذي هرب من السجن ليؤانسا بعضهما في كهوف تلك الصحراء الساحرة ..
بعدما ظهرت
الهوائيات المقعرة ، ادعى أحد أبناء القرية أنه رآهما يتسكعان في المدينة في ظل
لامبالاة الناس إزاءهما.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق