وأكلتِ القوافي لسانَهُ
أ.د. عبد الرضا عليّ
[ تنويه : لمناسبة الذكرى الرابعةَ عشرة َ لرحيل ابن الفراتين، ونهر العراق الثالث شاعر العرب الأكبر الخالد محمّد مهدي الجواهري في (27/7/ 1997م) رأينا من المناسب أن نوفّر للقارئ الكريم الاطّلاع على ما دوّناه عن"الذي أكلت القوافي لسان" ضمن كتابنا الذي حمل العنوان نفسه، فقد يجد فيها بعض ما نزعم من جديد....لذلك اقتضيَ التنويه ]
في السابع والعشرين من تموز 1997 م طوى الموت آخر صفحة من حياة عبقرية شعرية شامخة ، وقمة عالية من قمم الشعر العربي تركت بصماتها واضحة في حياة العراقيين بخاصة، والعرب بعامة بداءة من عشرينيّات هذا القرن في مقارعة الاستعمار ، والصهيونية والدفاع عن المصير العربي ، ووجوده وقضيته الكبرى فلسطين وحرية الإنسان العربي : اعتقاداً وانتماءً وتعبيراً . إنه الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري نهر العراق الثالث وابن فراتيه.
ولد الجواهري في النجف الأشراف ، لكن الدارسين اختلفوا في تاريخ ميلاده، فمن قائل إنه ولد سنة 1899 م ، ومن قائل إنه ولد سنة 1900م ، على حين حاول هو سنة 1992، أن يجعله سنة 1903 م، لكنه لم يستطع إثبات ذلك ، علماً بأنني (شخصياً) سـألته في شباط (فبراير) عام 1980م عن ذلك ، فحدد سنة 1899م تاريخا لميلاده، لكن أستاذي الدكتور عناد غزوان ذكر لي أنه سأل ابنه المرحوم "فرات الجواهري" أمام مجموعة من الحاضرين عن تاريخ ميلاد والده فرد عليهم قائلا: هو في 23/7/1895 م, وكل ما عداه ليس صحيحاً.
كانت أسرة الجواهري أسرة علمية دينية أدبية ، لذلك درس الجواهري على أركان تلك الأسرة مختلف العلوم : النحو ، والبلاغة وعلم المنطق وعلوم القرآن ، والفلك، والفقه ، وغير ذلك ، وظل يعتمر العمة ، ويلبس الجلباب طيلة إقامته في النجف ، وأول عهده في بغداد ، أي حتى الثلث الثاني من عقده الثالث. ويعتز الجواهري بأنّ جده مؤلف كتاب "الجواهر" كان وراء إعانة العلامة الدكتور عبد الرزاق السنهوري في وضع قانون الأحوال الشخصية للدولة العراقية ، إذ وجد في كتاب جده "الجواهر" مبتغاه الشرعي ، ولأهمية الكتاب العلمية ، ورصانته المنهجية وشيوعه بين العلماء (على ما ذكره الشاعر) لُقِّبَ جَدّهُ ، وهو عميد الأسرة وقتها بالجواهري ، وهكذا سار اللقب على جميع أفرادها بعد ذلك. لم تؤثر دراسته العلمية الدينية على رغبته في دراسة الشعر وقراءته فمال إليه، وعكف على حفظ قصائد عديدة لقدامى ومعاصرين ، ثم بدأ بالنظم في سنوات شبابه الأولى ، فدل على شاعرية واعدة وتمكن لغوي ، وسرعان ما ذاعت شهرته في النجف ، ومنها إلى بغداد لا سيما بعد نشره لقصيدة "الثورة العراقية" التي حيا بها أبطال ثورة العشرين في العراق التي جاء فيها :
لعلَّ الذي ولّى من الدهرِ راجعُ
فلا عيشَ إن لم تبقَ إلا المطامعُ
غرورٌ يمنينا الحياةَ: وصفوَها
سراب وجنات الأماني بلاقعُ
هو الدهر قارعْهُ يصاحبْكَ صفوه
فما صاحب الأيام إلا المقارعُ
ألم ترَ أنَّ الدهر صنفان أهله
أخو بُطنةٍ مما يعد وجائعُ
إذا أنت لم تأكل أُكِلتَ وذُلةٌ
عليك بأن تنسى وغيرك شائعُ
تحدَّثُ أوضاع العراق بنهضةٍ
تردّدها أسواقه والشوارعُ
وصرخةُ أغيار لانهاض شعبهم
وإنعاشهِ تستكُّ منها المسامعُ
وكانت صحف بغداد تنشر له بعض قصائده ، وتحتفي به موهبة جديدة , حتى راح بعضها يلقبه (كما يقول) بـ "نابغة النجف" الشيخ محمد مهدي الجواهري.
وقد ذكر لي أنّ أول ديوان شعري قرأه مخطوطاً كان ديوان "الأرَّجاني" أبو بكر أحمد (1067 – 1149 م ) وهو شاعر جمع بين الفقه والشعر، إذ قدمه والده هدية للجواهري على نجاحه في علوم النحو والمنطق، وغيرهما ، على أنه يشير إلى أنَّ والده كان معجباً جداً بالأرَّجاني ، فأراد من ابنه على ما يبدو أن يقتفيه ، لكن الابن أولع بالبحتري ورآهُ شاعره المفضل وقت ذاك على الرغم من أنه حفظ الكثير من قصائد الأرَّجاني على ما فيها من صعوبة في السبك والأداء.
ويبدو أن شهرة الجواهري التي سبقته إلى بغداد ، وذكره النابه فيها كانا وراء اختيار الملك فيصل الأول له ليكون من حاشيته، مع أن عمره آنذاك قد تجاوز العشرين ربيعاً بقليل فعمل في تشريفات قصره، فتعرف الكثير من الساسة والقادة والعلماء، إلا أن إقامته في القصر لم تدم طويلاً، وقد أختلف في السبب الرئيس الذي حدا به إلى ترك القصر، وامتهان التعليم أولاً، ثم تركه إلى الصحافة ثانياً.
فالشاعر الكبير عبد الله البردُّوني يردُّ سبب ذلك إلى موقف الجواهري من أمين الريحاني صديق الملك فيصل الأول ، إذ عرَّض به على صفحات "الفرات" واصفاً إياه بالعمالة للإنكليز ، وبتفتيته لوحدة الأمة قائلا: "وفي ذات ليلة نزل أمين الريحاني بغداد ، وما كاد ينفض وعثاء أسفاره حتى مسته – بعد الغروب – صحيفة الفرات أعظم قذائف الجواهري.......
وكان أول خبر على أول صفحة ما يلي:
"نزل اليوم فندق بغداد أحط عملاء الإنكليز – أمين الريحاني – الذي يقتل العروبة من داخلها ويفتتها من جذورها ، لأنه باسم وحدتها يشذرها للرياح ويشذرها تحت سيل القوافل ، إياكم أن يصبح صبح بغداد على وجه العميل الريحاني " (ينظر جريدة الثورة الصنعانية العدد الصادر في 4/8/1997م).
في حين يردُّ الجواهري سبب ذلك إلى ما قبل هذه الحادثة وتحديداً إلى نشره قصيدة "جربيني" التي شاعت على ألسنة العراقيين، ورآها الملك مخجلة بعدما آثارت ضجة كبرى لجرأتها ، فاستدعاه غاضباً لكن الجواهري وفَّر عليه القرار، فاختار الشعر تاركاً القصر ، فقدم استقالته ومضى في طريقه الذي فضله على غيره (ينظر المقابلة التي أجراها معه محمد على فرحات سنة 1992 م . ونشرها في العدد 288 من مجلة "الوسط" ).
ومما جاء في القصيدة :
جربيني من قبلِ أن تزدريني
وإذا ما ذممتني فاهجريني
ويقيناً ستندمين على أنكِ
من قبلُ كنتِ لم تعرفيني
لا تقيسي على ملامحِ وجهي
وتقاطيعهِ جميع شؤوني
أنا لي في الحياة طبعٌ رقيقٌ
يتنافى ولون وجهي الحزينِ
أنصفيني تكفِّري عن ذنوبِ
الناس طُراً فإنهم ظلموني
اعطفي ساعةً على شاعرٍ حرٍ
رقيقٍ يعيشُ عيشَ السجينِ
أخذتني الهموم إلا قليلاً
أدركيني ومن يديها خذيني
وهي أول قصيدة للجواهري في اللهو كلامياً من غير أن تكون صادقة التجربة فعلياً، لكن الناس ظنوها وليدة تجربة لشاعر يلهو ويتغزل ، ويعيش في المواخير.
أما أول ديوان أصدره الجواهري فكان "حلبة الأدب" وقد صدر في بغداد سنة 1924م (1341 هـ) وتم طبعه في مطبعة دار السلام، وهو مجموعة معارضات أراد الجواهري أن يجاري بها شعراء قدامى ومعاصرين ، فعارض أحمد شوقي بقصيدة ، وإليَّا أبو ماضي بقصيدة ، والشيخ على الشرقي بقصيدة ، والشيخ محمد رضا الشبيبي بخمس قصائد ، وسبط بن التعاويذي بقصيدة ، ولسان الدين بن الخطيب بقصيدة موشحة.
على أن منهجه في " حلبة الأدب" كان إيراد ترجمة الشاعر الذي يريد معارضة قصيدته أولاً، ثم إيراد قصيدته ثانياً، ثم تأتي قصيدة الجواهري المعارضة ثالثاً.
وهذا الديوان يؤشر مرحلة مهمة في حياة ذات الجواهري الشاعرة، فقد حاول فيه أن يجاري شعراء كباراً بأن يضع نفسه موضعهم ، فيتطلَّع إلى سبرأغوار نفوسهم الشاعرة ومرادهم الشعري، وأسلوبهم في الأداء والتعبير لتجئ معارضاته على وفق نسيجِ كل واحد منهم في القصيدة المختارة ومن عنوان الديوان "حلبة الأدب" ندرك أن الجواهري أراد أن ينافسهم فسعى إلى تلك المعارضات.
لم ينسه الشعر نضاله الوطني ، بل جعل شعره وسيلة لهذا النضال، فقارع به الاستعمار وعملاءه والرجعيين، وألهب به عقول الشبيبة، وقلوبها ، فاندفعت الجماهير تردد قصائده في كل محفل ومناسبة ، فكان له أن أنتبه إلى أهمية الصحافة، الوطنية في نشر الوعي لدى الشباب، وتحميلهم مسؤولية التغيير، لذلك أصدر الجواهري عدة صحف بثت شعرهُ وأفكارهُ بين الناس ، وكانت تلك الصحف تتعرض للإغلاق بين مناسبة وأخرى فيلتجئ إلى إصدار صحيفة جديدة تتولى شؤون سابقتها حتى يحين موعد إغلاقها وهكذا.
وقد أصدر تسع جرائد كان من أشهرها : "الفرات" و "الرأي العام" و "الأوقات البغدادية" و "الجهاد" وغيرها فضلاً عن أنه رأس تحرير جريدة "الثبات" بعد إغلاق "الأوقات البغدادية" لذلك ليس غريباً أن يكون أول نقيب للصحافيين في العراق ، وأول رئيس للاتحاد العام للأدباء فيه.
كان الجواهري يرى في الشباب قوة الأمة، وجوهرها الثمين القادر على التغيير ، وإحداث الانقلاب في واقع العراق المكبل، وبقية أقطار الأمة، لذلك لم يكن يرتضي أن يرى بعضهم وقد أنساق وراء دعوات التخنث الذي شجعها الإعلام الغربي أو الحاكم في الوقت الذي يعيش الشباب المناضل مطارداً، أو مكبلاً في السجون، من هنا كانت قصيدته الشهيرة سنة 1952 بعنوان "الشباب المستخنث" إذ أشار فيها إلى ضربين من الشباب ، وأنهى القصيدة عند الضرب الجاد في الحياة الذي يطمح إلى تغييرها نحو الأحسن، فيلقى عندئذ من الحكومة العميلة السجن:
من مبلغُ الأجيالِ أن شبيبةً يتكحلونْ
يتخططونَ فإنْ عجبتَ فإنهم يتحمرونْ
أم هم وقد لبسوا الجديدَ غرانقٌ يتأنّقونْ
المايعونَ من الدلالِ المنعمونَ المترفونْ
يتأطَّرونَ من النعيمِ كما تأطرتِ الغصونْ
إني رأيتُ وليتني قد كنتُ ممن يعمهونْ
زُمراً من النفرِ المخنَّثِ يسرحون ويمرحونْ
يتماجنونَ وبالمناكبِ بينهم يتدافعونْ
في حين ينخفضُ الحياء وحيثُ ترتفعُ السجونْ
في حين كانت قصيدة "أزف الموعد" قصيدة الشباب الذي حلم بتجليه شامخاً يحمي الوطن من مكائد الأعداء ويرسي دعائم وحدته ويبني وطنه، ويستشرف مستقبلاً زاهراً له وللأجيال التي تجئ بعده، بعد أن يكون قد تخلص من مكبليه ، إنها قصيدة الحلم الذي تحقق، فكان لابد للشاعر من أن يّذكر الشباب أن الوطن فوق كل اعتبار مهما كان كبيراً، أو عزيزا:
أزف الموعدُ والوعدُ يعنُّ
والغدُ الحلوُ لأهليهِ يحنُّ
والغدُ الحلوُ بنوهُ أنتمُ
فإذا كان لكمْ صلبٌ فنحنُ
فخرنا أنا كشفناهُ لكمْ
واكتشافُ الغدِ للأجيالِ فنُّ
يا شبابَ الغد إنّا فتيةٌ
مثلكم فرقنا في العمرِ سنُّ
لا تلومونا لأنا لم نكنْ
مثلكم فيما تجنونَ نجنُّ
ولأنّا حين يصفو محضُكمْ
محضُنا يُمزجُ حيناً ويشنُّ
********
يا شبابَ الغدِ: هذا وطنٌ
كله فضلٌ وألطافٌ ومنُّ
ليس ندري من خفايا سحرهِ
غير أطيافٍ وأحلامٍ تظنُّ
وهو حتى إن تجافى عنك خِدنُ
وهو حتى إن تخلى عنك حُصنُ
يُفتدى إذ يرخصُ الفادي به
وبه إذ توهبُ النفسُ يضنُّ
فاستمنوه بما تعطونه
من دمٍ إنَّ الحمى لا يستمنُّ
ومع أن الجواهري كان تصادميّاً تحمّل ما تحمّل من عَنَتِ الملاحقة وضير السجن، والمطاردة ، وغربة المنافي ، إلا أنَّ شعره يكشف أنه كان يكره الموت ويخشاه ، وإن أظهر توفيقيّةً في قبوله لكونه يرتبط بحبِّ الحياة، ولعلَّ تصويره المثير للموت بالذئب الذي يترصده قبل أن تجفَّ نيوبه من دماء أخوته وأهله وأصحابه، ما يعمق فكرة الخوف منه بوضوح ، ولهذا السبب أستعاد الناس هذه الأبيات وهم وقوف:
ناشدتكمْ بوشائجٍ من فكرة ٍ
وعقيدةٍ ورسالةٍ ومصابِ
من منكُمُ رغمَ الحياةِ وعبئها
لم يحتسبْ للموتِ ألفَ حسابِ
أنا أُبغضُ الموتَ اللئيمَ وطيفَهُ
بُغضي طُيوفَ مخاتلٍ نصَّابِ
يهبُ الردى شيخوختي ويقيتُها
بكهولتي ، ويقيتها بشبابي
ذئبٌ ترصَّدني وفوقَ نيوبهِ
دمُ إخوتي وأقاربي وصحابي
حين يقرأ الجواهري شعره يثير متلقيه ، فهو ينشده مقروناً بحركاته وسكناته ، لكنه وإنْ أتخذ من الإيقاع وسيلة في التطريب ، فإنه كثيراً ما يعافه إلى المعنى إذا وجد في تقطيعه ما يزري بالفكرة، لذلك يشدد في إنشاده على إكمال الجملة لتحقيق فلسفة النص قبل إيقاعه، فهو حين قرأ مثلا :
عهدُ بأنْ سأصونُ العهدَ في قفصٍ
من الضلوعِ وفي زاهٍ من الحُللِ
لم يتوقف عند نهاية الصدر ، إنما جعل معه "من الضلوع" ثم قرأ:
وفي زاهٍ من الحللِ
وحين قرأ :
أدري بأنَّكِ من ألفٍ مضتْ هدراً
للآن تهزينَ من حُكمِ السلاطينِ
ضم مع الصدر كلمة "للآن" دون إكتراث للإيقاع كما يفعل بعضهم.
وحين قرأ :
تهزينَ من خصبِ جنّاتٍ منتشرةٍ
على الضفافِ ، ومن بؤسِ الملايينِ
كانت كلمة (على الضفاف) ضمن صدر البيت.
أما حين قرأ:
ناشدتكم بوشائجٍ من فكرةٍ
وعقيدةٍ ورسالةِ ومصابِ
فإنه شدَّد على التقطيع ، فكان أن طغى الإيقاع، إذ قرأ البيت هكذا:
ناشدتُكمْ بوشائجٍ
من فكرةٍ
وعقيدةٍ
ورسالةٍ
ومُصابِ
و على الرغم من أن الجواهري عتيق مثل اثر حضاري شاخص إلا أن حافظته قد قهرت الشيخوخة ، إذ ظل يحفظ معظم شعره ، لكنه حين يُدعى لأمسيةٍ خاصَّة به يدرك أن جمهوره سيطلب منه إنشاد بعض روائعه القديمة، فيعمد إذ ذاك إلى كتابة الأبيات التي يحس بقلق حافظته إزاءها على نحو يشير إلى مكان القلق من البيت، ففي بعض الأبيات يذكر المفردة الأولى ، وهي تكفي لتذكيره بالبيت كله، لكنه قد يعمد إلى كتابة جملة، أو صدر بيت ، أو قافية إذا أحس بضرورة إيرادها قتلاً للنسيان.
لكنَّ المتلقي حين يطَّلع على نماذج من هذه الكتابات لا يفهم منها شيئاً، إلا إذا عاد إلى ديوانه ذي الأجزاء السبعة، مفتشاً عنها فيه.
وهو حين ينشد مختاراته القديمة لا يلتزم بصورتها المثبتة في الديوان إنما يغير فيها على وهج حالة الإنشاد ، فبعض صوره الجديدة أجمل مما وردت في ديوانه ، وأكثر انسجاماً مع بقية الأبيات لتكوين الفكرة أو البناء العام. وفيما يأتي أمثلة للتغييرات التي يحدثها في الأداء لجمهور يستعيد بعض أبياته وقوفاً:
1- قرأ مثلا :
واستريحُ إلى كوبٍ ينبئني
أن ليسَ ما فيه من ماءٍ بغسلينِ
وصدر البيت في الجزء الخامس من الديوان:
وأستريحُ إلى كوبٍ يطمئنني
2- وقرأ :
لا يُخلقُ المرءُ لا هراً ولا سَبُعَاً
لكنْ عصارةُ تلقينٍ وتمرينِ
وهو في الديوان :
لا يولدُ المرءُ لا هراً ولا سُبعاً
لكنْ عصارةُ تجريبٍ وتلقينِ
3- وقرأ:
ألَّفَ "الفنُّ" صورةً منكِ تنا
هتْ عُجباً وحسناً ولُطفا
والبيت في الديوان:
ألّفَ "الفنُّ" صورةً منكِ تنا
هت في الحسنِ لُطفاً وعُنفا
4- وقرأ :
يا نديمي .. وما غدٌ .. والليالي
ثمرُ يُشتهى فيقطفُ قطفا
وهو في الديوان :
يا نديمي .. وما غدٌ .. والليالي
ثمرٌ يُشتهى فيخطفُ خطفا
5- وقرأ:
عن كلِّ ما جَلَتِ العيونُ به
ما دقَّ من شيئٍ وما عَظُما
وصدر البيت في الديوان:
عن كلِّ ما جرتِ الدماءُ به
6- وقرأ:
جمعَ الشتاتَ يمجُّ مرشفُهُ
عبقَ الربيعِ وينفثُ الضرما
وعجز البيت في الديوان :
عبقَ الربيعِ وينفخُ الضرما
7- وقرأ:
جاءتِ " الكانون " توقدُهُ
وبهِ جزْلٌُ من الحطبِ
وعجز البيت في الديوان:
وبه جزلٌ من الخشبِ
8- وقرأ:
رحتَ في حْرفٍ تزخرفُهُ
أنتَ يا من عن سواهُ غبي
والبيت في الديوان :
راحَ في حرفٍ يزخرفهُ
وَهْوَ عن شيئٍ سواهُ غبي
والأمثلة كثيرة ، وهي تشكل ظاهرة في إنشاده.
********
في بعض شعر الجواهري تناص يدلُّ على ثقافة عميقة لا سيما حين تلفت صوره الانتباه إلى ما كان من تفاعل بينه وبين شاعره الذي يتناص معه شعرياً ، لكنَّه وإنْ كان أميناً في إشارته إلى ذلك التناص وصوره، فإنه يدهش القارئ بفاعلية تناصه، وقدرته على تجاوز صور شعرائه وإن إحتفى بها، على أن ذلك التناص لا يرد في شعر الجواهري إلا تلميحاً، وهي ميزة أنفرد بها، ومثّلتْ تطوّراً في منجز التضمين بلاغياً.
ولعلَّ أهم أمثلتها "يادجلة الخير" فحين أراد الشاعر إكمال لوحة بغداد عن طريق تداعي الصور أشار إلى أنها كانت ملعب أبي نواس، وفضاء استجمامه ، هنا كانت حافظة الشاعر طريقاً إلى التناص تمثلاً إشارياً ، وليس تضميناً نصيَّاً في قوله:
يا أُمَّ تلكَ التي من "ألفِ ليلتِها"
للآنَ يعبقُ عطرٌ في التلاحينِ
يا مستجمِّ "النواسيِّ" الذي لبستْ
به الحضارةُ ثوباً وشيَ "هارونِ"
الغاسلِ الهمَّ في ثغرٍ ، وفي حَبَبٍ
والملبسِ العقلَ أزياءَ المجانينِ
والساحبِ الزقَّ يأباهُ ويكرهُهُ
والمنفقِ اليومَ يُفدى بالثلاثينِ
والراهنِ السابريَّ الخزَّ في قدحٍ
والملهمِ الفنَّ من لهوٍ أفانينِ
والمسمعِ الدهرَ، والدنيا، وساكنَهَا
قرعَ النواقيسِ في عيدِ الشعانينِ
ففي قول الجواهري : "الساحبِ الزقَّ يأباهُ ويكرهه" تناص مع قول أبي نواس:
قد أسحبُ الزقَّ يأباني وأكرههُ
حتى له في أديمِ الأرضِ أخدودُ
وقول الجواهري : "المنفقِ اليومَ يفدى بالثلاثينِ" تناص مع قول أبي نواس:
نزلنا على أنَّ المُقامَ ثلاثةٌ
فطابتْ لنا حتى أقمنا بها "شهرا"
وقول الجواهري :
والراهنِ السابريَّ الخزَّ في قدحٍ
والملهمِ الفنَّ من لهوٍ أفانينِ
تناص مع أبي نواس في قول له وقد رهن ثيابه الثمينة كلها، ومن جملتها خلع خلفاء العباسيين عليه في قوله :
وبعتُ قميصاً سابرياً وجبةً
وبعتُ رداءً معلمَ الطرفينِ
ثلاثين ديناراً جياداً ذخرتُها
فأفنيتُها حتى شربِتُ بدينِ
(ينظر حاشية القصيدة)
ومثل هذا التناص يمكنُ أن يكونَ دليلاً لدارس شعر الجواهري في الوقوف على مصادر ثقافة الجواهري، ومدى عمقها التراثي.
وعلى الرغم من تفاعل الجواهري مع التراث الأصيل تفاعلاً مثيراً، إلا أن المثير فيه ايضاً تجاوزه لمفاهيم بعض الأغراض الشعرية للقصيدة التقليدية كالرثاء والمديح، وما في حكمهما، فهو يقدم صورة المرثي , أو الممدوح على نحو غير مألوف، أو غريب أو مخالف ، لذلك تجيء صوره غريبة غير مألوفة لتخرج عما كان سائداً في البنية التقليدية، من هنا كان شعر الجواهري لصيقاً بروح العصر، وتحولات التحديث فيه وإن ظل قالبه كلاسيكياً ، وهي ميزة آخرى تضاف إلى مميزات شعره الذي وصفه معظم النقاد بالكلاسيكي المجدِّد أو آخر عمالقة الكلاسيكية الجديدة بنيةً وآداءً.
ولتقريب هذه الفكرة نشير إلى قصيدة " فتى الفتيان ... المتنبي " فقد طُلِبَ إلى الجواهري أن يساهم في مهرجان المتنبي في ذكراه الألفية سنة 1977م، في بغداد، فقدم الجواهري منشداً هذه الرثائية بعد ألف عام على رحيل المتنبي ، لكنها لم تكن رثائية مـألوفة أبداً، فقد اطل المتنبي من خلالها علينا مقاتلاً معاصراً ، بل قل فدائياً يقدم روحه من أجل أن يعيش الآخرون , فيختزل الزمن ، ويلوي عنانه بتحديهِ له ، فيشتط قاصفاً حيناً ، ورقيقاً في حين آخر . معلناً أنه والدهر لدان ، بل هو الدولة التي تعالت على جميع الكيانات بقاءً وثباتاً:
تحدّى الموتَ واختزلَ الزمانا
فتىً لوّى من الزمنِ العِنانا
فتىً خبطَ الدُنى والناسَ طُراً
وآلى أن يكونَهما فكانا....
دماً صاغَ الحروفَ مجنّحاتٍ
رهافاً ، مشرئباتٍ ، حِسانا
يردنَ حياضَهُ ينبوعَ فكرٍ
ويحضنَّ اليراعةَ والبَنانا
وعاطى رملَها من أصغريهِ
عيونَ الشعرِ تبرقُ والحنانا
وأبقى فوقَها دمَهُ ليسقي
هناك "بشِعبِ بوَّانٍ" حِصانا
فقد كَرِهَ الطعانَ وكانَ أدرى
بأنَّكَ - وهوَ- مذبوحٌ طِعانا
رحِمَ الله أبا فرات القائل: " لقد أكلتِ القوافي لساني ، ولم تترك منه شيئاً لغير الشعر" وعزاؤنا في آثاره الرائعة ، ومواقفه النضالية المشرفة ، وصوته الذي سيظل يرنُّ في أسماعنا رخيماً هادراً عذباً يدعونا لنردد:
أرحْ ركابكَ من أينٍ ومن عَثَرِ
كفاكَ جيلانِ محمولاً على خطرِ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق