2011/08/29

فصل من رواية "سِيْرَةُ الزَوَالِ" الفائزة بجائزة الشارقة للابداع العربي لهاني القط

 "سِيْرَةُ الزَوَالِ"  
هاني القط

صالـح
(مُحَالٌ: مَا مَضَى لاَ يَعُود)

فور رؤيتي للمركب البعيد؛ نَزَعتْ يدي غصن شجرة، لوحت به مستغيثًا... بدا المركب ثابتا في سيره, ثم انحرف بالقرب من الجسر الواهن الذي وقفت عليه محاذرًا, مدوا لي فلق جذع نخلٍ؛ وضعت قدمي عليه والتفت مودعًا المكان الذي لم أر غيره  فـي حياتي. رجلٌ نحيل مد يده فتلقفتها وصعدت. حركت رأسى في خجل محييًا؛ فأفسح رجلان لجسدي مكانًا بينهم, فَغِبْتُ أَنْعى حَالِي: كيف أمسيت يتيم الأم والأب؟!
غرقا بالفيضان بعد أن بنينا جميعًا حاجزًا من أحجار وطين وخشب وعشب؛ خوفًا من فيضان النيل الحولي، بعد مشقة أنهينا عملنا، انسللت من أبي إلى أعلى شجرة الجميز؛ أنفخ من شجني في الناى, وأُقَلِبُ عيني  فـي سماء الله أَرقُبُ نجوم الليل, كنت متعبًا فأخذني النوم. صحوت من لسعةِ شمسٍ؛ لأرى الماء  وقد غمر نصف جذع الجميزة. أطاح سيل الفيضان الغزير بالحاجز الذي لم يجد نفعًا، ضرب الماء جدران الدار وتدفق مغرقًا ما فيها، رأيت الموت على كل شيء وقد أنشب مخالب الفناء على صفحات النهر، كل شيء ميت يطفو فوق الماء: الدجاج، الديك المؤذن، الخراف، الكبش الأقرن الكبير، القطط الوليدة، الأرنبة البيضاء وأولادها، الكلب الأسود العجوز، الحمار الماكر الذي طالما طرحني أرضًا كلما حاولت ركوبه، أذهلتني سَكِينَةُ الموت عن نفسي... تدليت عن الجميزة فغمرني الماء حتى فخذيَّ، نزعت قميصي وتلفعته، ناديت أمي وأبي ما جاءني غير ضرب الماء والصدى، فرع شجرة ضخم سقط على واجهة الدار فهدمها، حاولت إزاحته فما استطعت، بأطراف أغصانه اشتبكت جثة أمي طافية، ذهب عنها لون وجهها الخمري و بسمتها البشوش، بيد أن قسمات الحنو التي أشبعتني ظلت كما هي، فرع الشجرة الساقط على جسدها أدماها فامتص جلبابها دمها حتى آخر خيط فيه، نحيت الفرع عنها، هذه قدمها، هذه يدها، خلصتها بكتفي ويدي وحملتها صاعدًا الربوة الناجية، أرحتها على الأرض وجلست قرب رأسها، أخذت كفها الدقيقة  بكفي المسود, وانحنيت على صدرها أتوسل إليها أن تنهض من أجلي لكنها ظلت صامتة؛ فغِبْتُ أَنْعى حَالِي.
الرجل الذي أصعدني إلى المركب لا يقر بمكان، يهرول من مقدمته إلى مؤخرته، يتأمل أعلى الشراع ويكر راجعًا للحبال المقيدة بالمؤخرة على القرص الكبير، يرخي حبلاً أو يشده بحنكة ودراية. على غير توقع لمع برق واختفت الشمس وراء غيم داهم، خفت من المطر، أمس أغرقني مطر جنوني وأنا أحفر قبر أمي، ذابت عذوبة قطرات المطر  فـي مِلْحِ دمع عيني, ولم أعرف أأمسح دمعي أم قطرات المطر؟
جسد أمي يرتاح بطوله على الأرض، برفق سللتُ من رقبتها عقدها الذي ورثته عن جدتي، كانت مرتدية جلبابين، مرتجفًا نزعتهما وجففتهما ثم كفنتها بأحدهما، ولم أستطع ترك الآخر فضممته إلى حضني، وبيدي وضعتها  فـي لحدها الصغير الذى حفرته بكل ما طالته يداى، قبلت جبينها وسترت وجهها بمنديل عرسها الذى طالما أرتنى إياه, وأهلت الثرى, وبحد حجر صلد نحت وجهًا يشبهها  فـي جذع الجميزة الذي لم يصله الماء، ولأني لم أتعلم الكتابة ولا أعرف حرفًا؛ خربشت تحت الوجه خطوطًا متداخلة أملاها عليَّ حزني  ـ لا أحد غيري سيفهم معناها ـ بعدها اتجهت إلى صندوق طعامنا، سحبته من بين فروع الأشجار، أخذت ما تبقى فيه: بضعة أرغفة خبز لينة، وقطع جبن، وبعضًا من أعشاب كنا نتداوى بها, وغِبْتُ أَنْعى حَالِي
خالفت السماء ظني ــ سامح الله ظني ــ وأشرقت الدنيا مجدَّدًا دون مطر؛ فمددت جسدي المتكور كقبضة يد، واستندت إلى جدار المركب وأرحت جسدي، صاح ولدٌ مليحٌ واقفٌ جوار الحبال المكتفة بالقرص الحديدي الهائل؛ فهرول الرجل وجعل يشد الحبل بكل جهده منحنيًا لجانب المركب، صاح الصبي:
   ـ كفى يا أبي
أبي! كلمة لن أنطقهاأبدًا، إذ من أنادي بها؟!
 بحثت عنه   فـي كل مكان،  فـي كل شبر على الجزيرة... دون جدوى، كل الأماكن غارقة.
   ـ أأخذ الماء جثته إلى نهاية النهر ؟! هذا ظن بعيد...، ربما...، ماذا عليَّ الآن أن أصنع ؟! وكيف؟! 
بعد أن انتهينا من السد،ألقى فرع شجرة أخضر فأخذه الماء، ابتسم ونظر إلى عيني وقال لي: كل شيء يذهب مع ماء النهر يا "صالح" حتى نهايته.
ربما قال ذلك ليعلمني مكان جثته، أأذهب إلى هناك، وألتقط جثته وأعود بها لأدفنها جوار أمي ثم يكون ما يكون؟
عبر أمامي رجلٌ أبيض طويلٌ أزرق العينين، شممت رائحة حلوة إثر خطاه، اتجه إلى حافة المركب الخالية وجلس، شمر أكمام جلبابه وانحنى، اغترف بكفه ماء وألقاه ثانية  فـي النهر، فعل ذلك مرات دون أن يعبأ بأحد، ربما هو صاحب المركب و ريسه، جلبابه الصوف نظيف يدل على ذلك، أَسودُ كجلباب أمي الذي صررت فيه كل ما أملك من الدنيا داخله الآن، أمسى كالحًا من دمها الذي جف عليه...
 نشرته على جذع الجميزة حتى جف، وقمت لألملم كل ما ينفع حولي، قبلت العقد ووضعته ثم جمعت أطراف الجلباب بقوة وربطتها. أشعلت نارًا بعد جهد وشخصت للنار التى خبت جذوتها سريعًا وأمست رمادًا.
انتفض الرجل الأبيض ناهضًا، هز رأسه ليفيق من شروده, فيمَ كنت تفكر يا ريس؟ أفـي حياتك الماضية؟ أم فيمَ تبقي لك ؟ لا تفكر  فـي شيء؛ فالأمر كله حلم ــ إن قصر العمر أو طال... حلم ــ أردت بالأمس أن أفيق منه مثلك. تمنيت أن أموت وأنا  فـي نومي كي ألحق بهم، لكني استيقظت بلسع الشمس, لآخر مرة رأيت المكان الذي عشت فيه ما مضي من عمري، أغمضت عيني واستعدت أيامي الفَرِحَة التي مرت، عدت إلى حالي ورفعت الصرة على  كتفي ومشيت إلى الجسر، انحنيت برأسي ومددت كفـي للماء، حدقت فلم أرَ سوى صورة مهومة دون معالم تتراقص على صفحته، غرفت بعض الماء من النهر إلى فمي, ونهضت واقفًا بحملي على  كتفي أنتظر حتى أخذتموني معكم.
لما ابتعد المركب وغاب عن نظري آخر غصن لشجرة الجميز؛ فرت دمعة من عيني، استدرت محاولاً الانشغال بأسراب الطير التي تسابق مقدمة المركب صانعةً أشكالا  فـي هبوطها وصعودها، رأيت طائرًا يهبط وحده يلتقط بمنقاره سمكة من الماء ثم يصعد بها ويتحد معها ثانية!! أتراها سعيدة، لأنها تضرب بأجنحتها محلقةً  فـي السماء، أم لأنها مجتمعة؟.
 بصيص ضوء النهار يذبل  فـي الأفق، ووحشة السفر ترتسم على وجوه المسافرين، أهي رحلة غيابهم عن الأحبة أم رحلة العودة إليهم ؟ أنا الآن دونهم جميعًا؟ فكلهم سيعودن إلى الأرض والأقارب، أما أنا فلا أعرف حتى اسم المكان الذي سكنته!  تمامًا كجهلي بذلك المكان الذي أذهب إليه، نهاية النهر! ترى أبعيد هذا أم قريب ؟ وهل سأجد هناك ما أريد؟
الرجل النحيل يشد حبل الشراع إلى صدره مرات ويتركه، فيميل المركب وينتفخ شراعه هواءً، استدرت مرتجفًا على سؤال الرجل المتربع بجواري، وجهه شاحب وشاربه ولحيته البيضاء يحتلان معظم وجهه، ابتسم لي ورفع إصبعه وأشار للصبي الصاعد فوق خشبة الشراع:
ـ ألم تركب مركبًا من قبل ؟
ـ نعم.
ـ إلى أين أنت ذاهب ؟
ـ نهاية النهر.
هز الرجل رأسه:  طوال عمري أسافر من بلد إلى بلد لأبيع التمر ولم أذهب إلى هناك من قبل، ما اسمك ؟
ـ "صالح"
انتبهت على يد رجل تزحف ببطء إلى الصرة، سحبتها محتضنًا وأنا أتفقد عقد أمي. تُرى أين نهاية النهر ؟ وكيف يكون؟
                                                                ***
ما الذي يشدني إلى وجه ذلك الشيخ العجوز الجالس أمامي، هل رأيته من قبل، لن أرجع بذاكرتي ليقيني أنني لم أر أي وجهٍ  فـي حياتي سوى وجهى أبى وأمي، من تكون يا هذا ؟ وهل رأيتك من قبل ؟ أود أن أسأله لكن الخوف يخرسني، متلفتًا  فـي اتجاه آخر حاولت تناسيه، بعينيه حدق  فِـيَّ سريعًا، فتفجرت  فـي نفسي شهوة سؤاله؛ من يكون؟ لكن السؤال قبع  فـي صدري، ينزل الولد من على صاري الشراع بقربى، صلب عوده, لكنه نحيف كأبيه الذي أشار إلى أول رجل يجلس  فـي ناحيتي، فمشى الصبي إلى الرجل، سأله عن شيء، ثم انتظر وأخذ منه مالاً، اقترب من بائع التمر، سأله:
ـ أين ستنزل؟
ـ جليـوب.
ـ عشرة فضة.
أدخل بائع التمر يمناه فى صدر جلبابه وأخرج منديلاً قديمًا معقود الأطراف. فتحه ببطء وعد الأجرة, واحدة واحدة واضعًا إياها  فـي حجره، ربط المنديل ودسه بصدره ولَمَّ الفِضَّةَ  فـي يده  وعدها مرة أخرى، وضعها الصبي  فـي منديله، تحرك خطوة نحوي, أحسست برعشة  فـي أوصالي، لكني هيأت نفسي واستحضرت كلماتي. 
ـ أين ستنزل؟
نطقت بعد جهد:
ـ نهاية النهر.
 رفع الصبي رأسه متفرِّسًا وقال:
 ـ  ثلاثون.
فتحت الصرة، أخرجت منها العقد وقلت للصبي: أريد بيعه, اتجه به ناحية الرجل الأبيض:  ريس "إبراهيم" أتشترى هذا ؟
تناوله الريس، قَلَّبه بين يديه كمن يزنه، وقال: 
 ـ أحضر صاحبه.
أشار الصبي إليَّ؛ فنهضت، رفع الريس "إبراهيم" وجهه تجاهي وابتسم وسألني:
- ملك من هذا العقد ؟
- ملك أمي، اشتره ثم خذ من ثمنه أجرة الرحلة, وأعطني الباقي؟
قلب الريس العقد بين يديه ثم رفعه ناحية الضوء:
ـ  لا أعرف كم يساوى؛ فأنا لا أتاجر  فـي الذهب، غدًا  فـي الصباح عندما يقف المركب، سآخذك "لنسيم" الصائغ يثمنه ويشتريه منك, ما اسمك ؟
ـ "صالح"
ـ إلى أين  ؟
ـ نهاية النهر.
حدق فيّ, ثم قرب يده وأعطاني العقد، وقبل أن أستدير راجعًا لمكاني, سألني :
ـ  ألك أحد هناك يا "صالح" ؟
استدرت عائدًا كأني لم أسمع سؤاله، اصطنعت الانشغال بوضع العقد  فـي الصرة, وجلست مكاني. رأيت العجوز الحزين ينظر إليَّ، سألني بائع التمر الجالس جواري:
ـ ألم تجع لنأكل معًا ؟ أريد أن نأكل معا، ألم تجع ؟
هززت رأسي موافقًا, وأخرجت من الصرة الخبز وقطعة من الجبن القديم، وأخرج هو باذنجانه سمراء قسمها نصفين غير متساويين أعطاني الصغرى، ثم أخرج خمس تمرات أخذ منهما ثلاثة وألقى إليَّ تمرتين، أعطيته رغيفًا فأخذ يقطع منه لقما كبيرة يغمسها  فـي الجبن, ويبلعها بسرعة وكلما نظرت إليه ليتأنى, قال:
ـ خبزك لذيذ
أحسست سريعًا بالشبع، لكنى انتظرت حتى انتهى،أقفلت الصرة ونهضت ممسكًا بها واتجهت إلى القلة الموضوعة  فـي ركن المركب، شربت ثم وضعتها مكانها ورجعت. نظرت حولي فرأيت الليل يفرد أستاره على الأرض, كانت القرى ساكنة. فردت جسمي واضعًا الصرة تحت رأسي قابضًا بيميني عليها. الشمس قرصها يختفـي رويدا، جذبه الماء حتى ابتلعه، ثم أخرج مكانه القمر، كنت أفتح عيني كل حين لأرى ضياءه  فـي الأفق، حتى غلبنى النوم. حلمت أني أبحر بمركب وسط بحرٍ بلا ضفاف، معي طفلان صغيران، دفعت الريح مركبي وأطاحت بي فابتعدت حتى غِبْتُ عن نظري.



الريس إبراهيم
(لِهُمُودِ الرِّيحِ وَقْتٌ
 لِهُبُوبِها وقَتٌ
ولِلْعِشقِ كلّه)

إيه، عطشان يا نهر.
.................................
وأنا في طريقي للوقوف بالمركب قبالة المرسى؛ أشارت لي نساءٌ على كل لون: بيض وسمر، سمان ونحاف. نادين علىَّ لآخذهن جميعًا, فأنزلت زبائني غصبًا وأخليت المركب. فجأة وبعد وقت من ركوبهن وقفن جميعًا، تعرين ليرقصن لي فهنئ الفؤاد، ثم ....،
إيه أيها الحلم، لماذا انتهيت؟
 استيقظت وصعدت من جب المركب إلى سطحه، نفس الوجوه الشاحبة المستكينة، متلاصقين جوار بعضهم، واضعين صررهم البالية تحت أفخاذهم، بعضهم نائم وهو مكموش  فـي نفسه من التعب, وبعضهم شارد ينظر للوراء، وحين تمل العيون وتتعب الرءوس، يصوبون نظرهم  فـي خلسة إلى وجوه بعضهم، يمصمصون الشفاه مذكرين أنفسهم أنهم ليسوا الحزانى وحدهم، ثم يحاولون إيجاد شبه بين وجه من يحدقون فيه، وبين وجه عزيز تركوه؛ رغبة في الأنس.
إيه ولا امرأة واحدة أغازلها، ولا رفيق كأس يزيل كآبة الصمت والوحشة هذه. فكل ما تطل عليه عيني  فـي تلك الرحلة محزن كئيب, إيه عطشان! اصبر يا ابراهيم فبعد قليل سترتوي.
علمني النهر أن أعشق الحياة وأن أقطف بيديي لذاتها, فهؤلاء المخدوعون يذهبون لإفناء عمرهم  فـي أرض غريبة ليحصلوا على المال وبعد سنين طويلة من الشقاء والتعب يرجعون إلى أماكنهم ليشتروا أرضًا أو بيتًا ربما يسكنونه! وأين حياتهم إذًا؟
رحمك الله يا أبي كان كل قولك حكمة، فمنك ومن النهر تعلمت:  "لكي تحبك الحياة يا إبراهيم لا بد أن تحبها, ولكي تحبها لا بد ألا تهزمك أحزانها". كلما فاض الحزن في قلبي لرؤيتي وجوه هؤلاء المتعبين، رفعت رأسي وتخيلت  فـي السماء امرأة لم تخلق بعد، جلدها أبيض ناعم وعيناها عسليتان، نهداها رمانتان, وجهها أملح من جنية البحر, تأخذني لبحر لذة بلا ضفاف, إيه! عطشان ولا ماء في النهر! فحتى النساء اللواتي يغسلن الثياب على الجسر رافعات جلابيبهن وهن ينحنين، لم تظهر منهن واحدة على طول المرسى.
إيه، أول مرة حدقت  فـي امرأة كانت ترتدى يشمكًا، خفضت عيني متحرجًا، لماذا تحدق تلك المرأة فِيّ؟! أكثَرَتْ من الحديث معي وأنا أجمع أجرة الراكبين، افترستني بعينيها وأنا أكلمها, ارتعشتُ وهي تصف لي بيتها  فـي ثبات: ألا تحب اللحم ؟ أحـ...ــبـ...ـه.
  سرت وراءها وعند باب بيتها حاولت الرجوع، لكن جسمي صرخ، دفعت الباب الموارب ودخلت، أكلت لحمها، لكني ظللت جائعًا بعد رجوعي ولم أشبع من اللحم حتى الآن, وأنا خارج من بيتها نظرت إلى عيني وكأنها تقول : "ذابت براءتك واشتهيت الحياة",قبل أن أهجرها لأخرى، كانت قد علمتني ماذا تقول العيون؛ نعم فلعيونهن لغة لا يفهمها سوى المخمورين باللذة، جامعت زوجتي بغير رغبة عندما رجعت، فبكت بعد أن انتهيت، سألتها بضيق صدر: ماذا بكِ؟ ردت واجمة: عرفت غيري؟ وبدلاً من أن أطلب السماح صفعتها بقوة, ثم مسحت دمعها وقبلت قدمها حالفًا لها أنني لم أفعل، كنت أعلم أني غير قادر على البعد عنهن؛ فعوضتها باستجابتي لأي طلب تطلبه حتى ماتت تاركة لي ست البنات "فاطمة" عصفورتي زرقاء العين، آخذ رأسها إلى حجري، وأحكي لها عن ملك البحار المظلمة من له ألف ولد وألف ألف امرأة، من أنزل المطر عندما لوح بعصاه وجعل الطيور تكلم الشجر؛ فتضحك وتطلب مني أن أحكي عن الملائكة الذين يرفرفون  فـي السماء، أحكي حتى يأتي النوم إلى عينيها فأقوم.
إيه "فاطمة"، غاضبة منى لإتمامي زواجها دون رضاها، أعلمتها قبل رحيلي بموعد زفافها فاغتمت، كيف أرفض يا ست البنات وقد خطبك عمك لابنه يوم ولدتِ؟!  تعرف أن الرفض فوق طاقتي، فكيف أنقض عهدي مع أخي؟ وكيف لا أطيع كلام كبيرنا الذي لا يجادله أحدٌ  فـي أمر؟
 إيه يا "إبراهيم"، إياك أن تكون خائفًا على المركب الذي يمتلك ابن أخيك نصفه، لا، لا "عيسى" طيب القلب ويحبها سيفعل لها كل شيء ليرضيها.
 شيئان فـي حياتي الآن لا أستطيع الاستغناء عنهما: حضن النساء الدافئ، والإبحار  فـي النهر. ترى ماذا سيحدث إن عرف ابن أخي ما أفعله ؟ لو أحبها فسيغفر لعمه ويكون سترى وغطائي، أما لو كرهها، فسينغص عليها عيشتها بحكاياتي. لابد من تدبر الحال والحذر منه كي لا يعرف, صحيح أريد أن أعشق من أريد كما أريد، لكن وأنا مطمئن على ابنتي، فلتهنأ الآن يا "إبراهيم"، وأجل التفكير  فـي أحوالك، نعم، ولم لا أهنأ؟ فعندي المال والصحة, كل  يوم تزداد رغبتي فـي الحياة ـ آهٍ, لو ينساني الفقر والمرض !
من قال إن كل النساء سواء؟! النساء كالفاكهة لكلِّ مذاق وطريقة  فـي الأكل، والنفس تشتهي ثم تزهد، لكنها تعاود الاشتهاء،حاولت كثيرًا أن أكون مثل الناس، وأكتفي بواحدة، لكن جوعي يقهرني، ربما كانت طينتي غير طينة الناس التي خلقوا منها.
"عيسى" لَمَّ الشراع وأخذ  فـي النزول من على الصاري. أُصَبِحْ على من أراه مستيقظًا فيردون صباحي بوهن. أنظر إلى المرسى محددًا المسافة, وأذهب إلى الدفة, أديرها جهة اليسار فيجنح المركب ببطء حتى يلاصق حد المرسى، يضع "سليم" فلق جذع النخل ويعبر سريعًا ليدق الوتد الحديدى فـي عمق الأرض، يأخذ من يدي طرف الحبل ليعصبه حول الوتد. يعبر النازلون واحدًا تلو الآخر، يضعون بقجهم على الأرض، ثم يرفعونها ثانية فوق أكتافهم سائرين، أشير "لعيسى" فيتجه إلى ذلك الولد"صالح" ليُعِد نفسه، أرفع مرة أخرى غطاء الجب وأنزل، أرتدى جلبابي الجديد والشال الأبيض, أملس بقطرة من زجاجة العطر على رقبتي وصدر جلبابي, أرتدي بُلْغَتي وأدس قنينة الخمر  فـي سيالة جلبابي. على سطح المركب يحمل الولد"صالح" بقجته ويقترب مني، فأقول:
 ـ سنذهب الآن لشراء لوازم للمركب، تعالى معنا لبيع العقد, وعد مع "سليم".
انقبض وجه الولد ـ كأنى قلت: اذهب معهم ليذبحوك ـ خفض رأسه بيأس ثم رفعها موافقًا، خَطَوتُ على جذع النخل عابرًا إلى المرسى, استدرت فرأيته يقف مضطربًا  فـي منتصفه، لا هو راغب  فـي القفز ولا هو راغب  فـي الرجوع، دنوت منه وآخذت بيده:
 ـ ما بك لِمَ تخف وأنت تركب ؟
تلون وجهه بالخجل ولم يرد. شُغِلتُ عنه برؤية الحقول التي كستها الخضرة، رفلت نسمة رطبة بطرف جلبابي همست: إيه, نسيمك حلو أيها الصباح:
 عند نهاية الطريق موقف عربات خشبية، قفزت على سطح إحداها وجلست إلى جوار المكاري الذي هز لجام حماره، ثم ضربه بالعصا على مؤخرته فسار, نظرت إلى المكاري وقلت: 
ـ نفس علامات العربة المسروقة, مصنوعة من الخشب وبأربع عجلات, ويجرها حمار أبيض ذو ذيل.
تلوَّن وجه المكاري فضرب حماره بغلظة ونظر لوجهي وقال مدافعًا عن نفسه:
ـ ربما تشابهت مع العربة المسروقة. 
مبتسمًا أَخبطُ على ظهره فيعلم أني أمازحه:
 ـ إلي أين ؟
 ـ دكان "نسيم" الصائغ.
يهز المكاري رقبته ويرخي لجام حماره ويشده فتسرع العربة. ألاحظ تحديق "صالح"  فـي العربة فأسأله:
 ـ ألم تركب عربة من قبل ؟ 
 ـ نعم
 ـ من أي بلد أنت ؟
 ـ أنا من جزيرة.
 ـ  و ما اسم جزيرتك؟
ينظر إليَّ بحيرة:
 ـ لا أعرف لها اسما.
أنظر إليه فأرى صفاء عينيه فأصمت، الخضرة تختفـي لتظهر البيوت الطينية القصيرة بأبوابها الخشبية المفتوحة للشمس لتضيء مداخلها. بعد مسافة أري بيتًا مهدمًا فأتذكر قول أبي: "إن أنفاس أصحاب البيوت تحميها من الموت" وعندما يلاحظ دهشتي يحدق فِـيَّ  قائلاً: "كل شيء على الأرض يحيا ويموت يا إبراهيم". بعد مسافة تتلاصق البيوت، تصنع شارعًا طويلاً، البيوت كوجوه الناس مختلفة رغم تشابه هياكلها، عينا "صالح" ما تزالان معلقتين بعجلات العربة الدائرة، يحس بتحديقي فيرفع رأسه خجلاً. يتسع الشارع وترتفع هامة البيوت ذات الطابقين، ها نحن أمام محل "نسيم" الصائغ، أعطى المكاري أجرته وأتقدمهم إلى داخل المحل، ينتفض "نسيم" من على كرسيه. يعانقني ثم هامسًا فـي أذني يقول: "كيف حال نسائك" أضحك وبصوت هامس أقول: "لا أحتاج إليهن, فرأس الثعبان لم تعد ... " يرد: " يموت الزمار ....", أقاطعه وأنا أنظر إلى صالح: "يخصني، ويريد أن تشتري منه عقد أمه" يحل "صالح" جلبابه المعقود مخرجًا العقد، يعطيه لي, فأعطيه لنسيم الذي ينظر فيه مرتين:
 ـ ليس ذهبًا يا "إبراهيم"، إنه نحاس مطلي!
 ـ ليس ذهبًا؟!
 ـ ولا يساوي شيئًا.
ألح عليه راجيا أن يتأكد ثانية، فيهز رأسه علامة التأكد دون أن ينظر فيه. أنظر "لصالح" وبصوت خافت أعيد ما قاله لي "نسيم"، فيخطف العقد من يدي, ويهرول مسرعًا دون أن يسمع بقية كلامي. يزعق عليه "سليم" فلا يرد. فآمره أن يبحث عنه عند العودة وإن وجده, يأخذه للمركب ليعمل عليها؛ فإنه يتيم الأبوين، فيقول نسيم: "طيب القلب رغم فجرك يا إبراهيم" " ويضحك ويطلب من عامله أن يعد لنا قهوتنا والنارجيلة. ندخن حتى يحين ميعادي فأودعه، أركب أنا و"سليم" عربة إلى السوق. نشتري حبلاً وشايًا وقدحين وفخًا للصيد غير الذي تلف، وقبل أن يعود "سليم" بما اشتريناه إلى المركب أذكره بالبحث عن "صالح" ثم أتركه، أدلف من شارع إلى شارع حتى أصل، أطرق الباب فتفتحه لي، أدخل بسرعة وأغلقه بسرعة, أستنشق رائحة عطرها وأنظر لوجهها، فتبتسم:
 ـ أيعجبك ؟
 ـ ماذا ؟
 ـ عطري؟
 ـ ليس وحده
تأخذ بيدي فأدلف معها عابرًا وسط الدار إلى حيث حجرتها، يدها دافئة كجسدها الرجراج. تغلق الباب فأصرخ:
 ـ عطشان.
تهم بالخروج، أمسك كفها وأجذبها بقوة:
ـ لكِ.



ليست هناك تعليقات: