ألف ليلة وليلة
طه عبدالمنعم
لم أندم على ضياع تفاصيل تلك الليله المهمة من دماغي، التي كانت في لحظات تجل؛ لأني مرتاح لضياعها.
استيقظت، وبعدها بساعتين تذكرت الخطوط العريضة لما حدث بالأمس، وبعد قليل بنيت تفاصيل من الذاكره المهترئه بفعل السُكر. هذه هى المرة الوحيدة، على ما أعتقد، التى كنت أهتم بالتذكر، وبالتالي الشعور بفقدان ما حدث.
أحدس فقط أنها كانت لحظات مهمة. كنت في مكان غير الذى اعتدت السهر فيه. أول مكان تعودت شلتنا على التجمع فيه، كان بار شعبيًا واسعًا، كانت الخدمة ممتازه، فول نابت، وخيار مقشر، وطماطم متبلة، وترمس. وعم محمد يأتى لنا بكبشات الفول السودانى مقابل جنيه، وكأس بيرة صغيرة. والستيلا الواحدة المشبرة عندهم تفوق ثلاثًا في أي بار آخر. وأم كلثوم ترن الفضاء الواسع للسقف العالي. إذا طلبت من فخري جبنة، يشكل لك أجدع وأجمل وألذ طبق يستاهل عليه بقشيش محترم. عيب هذا البار... هو ليس بعيب، فبقية الشلة اعتبرتها ميزة، أننا نتحدث في أمور شتى، ليس من بينها شؤون الأدب، التي تجمعنا بالأساس، فنشترك دون قصد مع جيراننا على الموائد الأخرى في الحوار. ذات مرة وجدت نفسي مرغمًا على الاستماع لسكران تجاوز عدد زجاجات البيرة أمامه مساحة المائدة، التي يجلس إليها وحيدًا، حاولت الرد باقتضاب؛ لأتملص منه، بصنعة لطافة، لكنه فهم أنني صحفي أو كاتب، أو شيء من هذا القبيل، لا يهم؛ فأفاض. ويبدو أن فخري انتبه أن الرجل بدأ يأكل دماغى، فعنَّفه على الحساب؛ ليبعد تركيزه عني، ولكن محمد تدخل وعزمه على أخرى، وصرف فخري، وعندما لُمت محمد اكتشفت أنه منسجم من كلام السكران، وبرر:"كويس ممكن نعرف منه البلد رايحة فين". كان البار ينهي الطلبات نحو الساعة الثانية عشرة؛ ليغلق عند الساعة الواحدة. لم تكن هذه مشكلة كبيرة، فتظبيط الدماغ في تلك السهره القصيره يكفي، لنذهب بعدها إلى بيوتنا، وينكفيء البعض على سريره، والبعض الآخر على الفيسبوك؛ ليهيس حتى الصباح، فغدا الجمعة، والإستغراق في النوم مباح. بعد الإغلاق المأساوي للبار، ولهذا حكايه أخرى، انتقلنا شرقًا، إلى شامبليون.
لا تسألوا كيف؟ فملجأنا من هجوم البلطجية، يوم موقعة الجمل، أصبح البار غير الرسمي للشلة. حالة من التوتر الزائد جمعتنا في المكان تلك الليلة. أعرف صديقًا دائمًا ما ينهكه توتر وضغط العمل؛ فيجرى ليفرغ كل شحنتة في أية امرأة يستطيع الحصول عليها، يظل يمارس معها الجنس؛ حتى يشبعها، ولا يهتم أن يشبع هو، فالمهم أن يتخلص من شحنة التوتر.
بعد أن فزعت من وابل الطوب، وقنابل المولوتوف الذي ذكرتني بمعارك القرون الوسطى، حيث السهام معلقة فى السماء فوق رؤوس الجانبين، دخلت إلى عمق الميدان، بعيدًا عن مرمى القذائف، لم أستطع رمي طوب مع الآخرين، وإن حاولت صوريًا، فوضع أحدهم في يدي عامود حديد طويل، وأشار لي أن أكسر البلاط إلى قطع صغيرة؛ صالحه للقذف، ففعلت آليًا، فالكل يفعل، وصيحات الحماسة والخبط على أسوار الميدان تشعرك أنك فى حرب، الكل فيها يعمل، جمعت أول دفعة طوب في ملاءة، وتوجهت بها إلى أول شارع قصر النيل، تركت الحمل، و خرمت من مسالك وسط البلد المظلمة، إلى المكتب فى شارع معروف، وجدت شله ألف ليله وليله هناك، منعني منظرهم من التفوه بأى كلام. لم يستريحوا من الكلام حول هجوم البلطجية، أما أنا فكانت الكلاب السعرانه تعوي في رأسي، والعطش لا يرويه إلا البيرة، كنت أشتاق لستيلا، يقدمها لي فخري، مع كامل المزة، لتريحني من الأكلان في رأسي، فلم أجد. خرجت بحدز، بعدما نام الكل من التعب، فقد سمعت أنهم نهبوا محلات"درينكيز"في شارع طلعت حرب، دُرت من شارع عبد الخالق ثروت، وأكملتُ إلى شارع شريف، وانحرفت إلى شارع طلعت حرب، مستخدمًا حارات ضيقة أعرفها؛ كى لا أقابل أحدًا. المحلات مغلقه، والليل صار ليلين، بسبب الظلام والهدوء الذي تتخلله أصوات طلقات رصاص متقطعة.
لم تسألني أية لجنة شعبية عن وجهتي، فأغلب ما قابلته حواجزه ماثلة ولا يوجد أحد عندها. قابلني شاب، عرفت من هيئته أنه من بائعي الرصيف في هذه المنطقة، قلت له: "لسه الضرب شغال، مش قالوا لنا كله يروح"، فأجابنى: "لأ.. ولاد الكلب دول مش عاوزين يمشوا، وادوا الرجاله براشيم عشان تكمل"، فتركته موحيًا له أني رايح أخد نصيبي من البراشيم. لم أنسجم يوما مع الكيميا. تسللت إلى المحل، الصاج ليس مقفلًا تمامًا، به فتحه تكفي لدخول رجل صغير الحجم، فدخلت، وجدت زجاجات الخمر الغالية مهشمة، وأضواء الثلاجات ترتعش، والرفوف في فوضى، والرائحة نفاذة، لم أجد الستيلا معشوقتي. تنبهت لدخول شخص ما، فكرت أن أداري نفسي، لكني ظهرت له بهدوء، فسألني كأنه يتوقع وجودى: "لقيت حاجه؟" قلت : "لأ"، فرفع زجاجه عمر الخيام وقال: "ليه؟ ما خير ربنا كتير، الواد عبده باع الكنزايه الواحدة بجنيه، للرجالة في طلعت حرب وخلصهم.. بس تعال"وأدخلني المخزن وراء الكاونتر. همس في أذني: "ليك في سهرة مُكن" هززت رأسي بنعم، قال: "معاك كام" فقلت له ببرود وحذر: "اللى يكفيني". شيلنى كرتونة ستيلا جامبو، يبدو أنه كان يخفيها عن الواد عبده، وحمل هو كرتونتين، وأشار لي أن أتبعه، ففعلت. لم نبتعدكثيرًا، وصعدنا إلى سطح إحدى العمارات. سألته: "مين هيكون معانا"، رد: "مفيش". قبل أن أسأله"طب إزاى سهره مُكن". تنبهت للموبيل، رنات كتير من محمد، كنت حولته سيلنت؛ عشان أعرف أمشي في الشارع، فبعثت برساله لمحمد، إنى بخير وسأكلمه بعد شويه. عندما جلسنا قلت: "المكان جميل.. حتى ممكن نشوف التحرير من هنا". فتوقف عن توضيب الجلسة، وتوجه لي، فأكملت سريعًا: "المزَة.. الأكل .. فين". ردد : "معاك كام" قلت وقد أطمئنيت له: "هتعرف تقضى لنا أكلة حلوة؟". "هكلم عايدة، شغالة في بيت في العمارة دي.. هتجيب لنا حاجات.. بس لازم تدفع"، "طيب خد الخمسين جنيه دى". كلم عايدة من موبيلى. جاءت عايدة سريعًا، قبل أن أفتح معاه كلامًا حول مايحدث في الأسفل، يدوب بردت نارى بأول ستيلا.
كأنها متمرسة على تلك السهرات، جاءت عايدة بكل ما لذ وطاب، أعطاها زجاجه عمر الخيام، لم تشرب منها، طلعت سيجارة حشيش، وجلست بجانب خالد تدخن، أما هو فكان يشرب بغباء كل ما حمله من المحل. كانت نحيفة، تلفّ نفسها بعباءة سوداء وطرحة سوداء. عندما ضاجعها أمامي وجدت جسدها أبيضًا بلون الحليب، وشعرها طويل صبغاه بالذهبي. همد خالد ونام. فتسللت علىّ، قربت وجهها مني، وقالت : "أنت من بتوع التحرير!" لم أرد، فأكملت: "شفتك الجمعة اللي فاتت في المظاهرة الكبيرة، كنت بتحضن زمايلك، وتخبيهم في مداخل العمارات.. مدام عصمت جابت لكوا مناديل وخلّ .. بالأمارة البنت أم شعر قصير كانت شايله شاش وقطن في شنطتها.. وعالجت صاحبك من رصاصة جتله فى كتفه". نهنهت بدون صوت. فاحتضنتني، قالت: "هو مات؟!.. متزعلش؛ اللي ماتوا كتير.. مدام عصمت قالت لي دول شهدا".
دفست رأسي في صدرها، ولم أستطع أن أحضنها، كنت في حالة سُكر شديدة. لم أعرف ماذا حدث. هل مارست الجنس معها أم لا؟ وماذا قلت؟ كل ما أعرفه أنني أفقت، عاريًا تمامًا، في بانيو حمام، من الطراز القديم، وعايدة تملؤه بالماء الدافيء وتحممني. تركتني في البانيو محاولًا تذكر أي شيء عما حدث ليله أمس. لم أستطع. دخلت بالبشكير، قالت: "ليه بتفكر كتير؟ نسيان الحاجات الوحشة يهون علينا اللي جي.. ربنا يستر على اللي جي"، قلت بلهجه مسرحية :"إننا نعيش في هذه الحياة وقتا قليلًا، لو ننسي كل هذا فما الذي سيبقى لنا؟"، ردت بصمت، ولما خرجت من البانيو ونشفت نفسي قالت: "كّلك حاجة، وأنزل لزملاتك فى الميدان". عمومًا خفف الحمام الدافيء، والإفطار من صداع السُكر. قابلتها صدفة في الشارع عند (القزاز) أثناء احتفالنا بتنحي مبارك. أخرجت من جيبها لفافة سوداء، وقالت: "جبتلك المحفظة من الواد خالد.. معرفتش أجيب منه الموبيل"، أعطيتها رقم تليفوني الجديد. ساعدتني في استئجار شقة صغيرة في شارع شمبليون، وتعرَفَت على كل شلتي، أصبحت سهراتنا واجتماعنا ومناقشاتنا في هذه الشقة، كانت عايده تعتني بالشقه دون أجر، وفي بعض الاوقات تشترك معنا فى النقاش. لكنني إلى الآن لم أهتم بسؤالها عما حدث، ولم تجاوب هي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق