قصص عن الحرب
الحسن بنمونة
الآن في عصرنا هذا، لا شيء يخفى على أحد، على الكبار والصغار ، والنساء والبنات اللواتي يقضين أغلب أوقاتهن في الدور والمطبخ.
لا شيء يحجبه الظلام .
فالحرب مستعرة .
في مكان ما من العالم ، صورة طفل تمثل صرخة لها ألف معنى ، من قبيل أننا نحن الأطفال نسعى إلى الأمان .
والحرب دائما مستعرة .
رئيس العالم يدخل مكتبه غاضبا ، لأن الحرب مازالت مستعرة . لا تني تحصد الكائنات الحية ، والكائنات الجامدة .
يأتيه مستشاره الحربي ، وهو أيضا غاضب .
_ ماذا يحدث ؟
_ هناك حرب سيدي رئيس العالم . دمار وخراب يشبه لوحة غيرنيكا التي تزين بهو هذه البناية .
_ وما العمل ؟
_ في هذه الحالة لابد من تصريح يحفظ ماء الوجه .
اغبرت السماء هذه الأيام بدخان محركات الطائرات .
إنها الحرب.
التصريح الذي سيحفظ ماء الوجه يقول : أوقفوا هذه الرحى اللعينة . وتغبر السماء من جديد بدخان المحركات .
هناك ، في الأسفل من ينظر إلى السماء عسى أن تمطر . هم عادة الفلاحون الذين لا يمتلكون آبارا في حقولهم .
والأطفال ، في مثل هذه الحالات يكدون لصنع ألعاب المطر : مظلات من جلد الحقائب المرمية في القمامة ، وأدلية لحفظ الماء لتصبين الثياب المتسخة .
ألعاب أطفال لا تضر أحدا . ولكن السماء لا تنذر بالمطر ، ومع هذا فقد آثروا الانتظار.
ما أعظم انتظارهم !
في أيام الحرب نرى الدماء والأشلاء والأجساد التي تتلوى ألما .
في أيام الحرب لا نرى إلا الحزن .
خرجت الطفلة التي لا يتعدى سنها العاشرة من منزلها لتشتري بعض حاجيات الصباح ، خبز ومربى المشمش وخمس قطع جبن وعلكة تلهو بها بعد الانتهاء من الفطور . وقفت على باب الدكان ، ولم تلمح أي أثر لصاحبه . إنه في الداخل ، خلف الحاجز يرتب العلب أو ينظفها من الغبار . دنت أكثر من هذا الحاجز ولكنها لم تبصره . أين ذهب ؟ أو يترك صاحب الدكان دكانه خاليا فيسرق ؟ صاحت : سيدي ، أين أنت سيدي . أريد شراء هذه الحاجيات . وذكرتها له بالاسم ( خبز ومربى المشمش وجبن وعلكة ) .
جاءها الصوت أخيرا ، واهنا ، متثاقلا من مكان ما في الدكان : أنا يا طفلتي تعبت من البيع والشراء . أنا حزين جدا . في أيام الحرب لا أبيع غير الحزن . ألا تدرين يا ابنتي أننا لا نبيع غير الحزن في أيام الحرب ؟
وتركت الدكان وصاحبه يحدوها أمل في أن تعرف معنى الحزن الذي حل فجأة دون سابق إنذار .
في أيام الحرب تتلون السماء بكدر غيوم كاذبة . هي سوداء ولكنها كاذبة . لا تسقط أمطارا .
رؤساء الدول الكبرى والصغرى يتبادلون الزيارات .
سلام وعناق وكلام في السياسة والحرب والاقتصاد الذي يتهاوى من شجرة لم تعد مثمرة .
_ لنوقف الحرب .
_ فكيف نوقفها ؟
_ بالإرادة .
في ما مضى أرادت الإرادة أن تبين عن مقدرتها على مواجهة صروف الدهر في أحلك الظروف .
خرجت من بيت زوجها الصبر غاضبة ، لأنه لم يعد قادرا على إعالة أولاده . يخلد إلى النوم أياما ، بل أسابيع . أولاده يصرخون ويتألمون ثم يأخذهم النوم إلى ملكوته . وإذا استفاق ورآهم نياما علت محياه ابتسامة النصر لأنهم صابرون .
خرجت غاضبة ، متخلية عن الأطفال وهم نيام .
اعتلت ربوة ، وأطالت النظر في السماء والأرض المنبسطة ، الخضراء . كيف يموت أطفالي جوعا والأرض خصبة تعطي ثمارها لمن يعمل ؟
لقطت بعض الثمار من تحت الأشجار . إنها كثيرة تكفيها وأبناءها مدة طويلة .
جاءت بأطفالها . هالتهم الخضرة المزروعة حتى الأفق . هيا ، هيا إلى العمل . فلنبدأ بهذه القطعة من الأرض . نحولها حقلا نابتا . نأتي بالبذور من بائع البذور . يمهلنا أشهرا معدودات حتى يبزغ النبات . نبيع المحصول فنرد إليه دينه، وما ربحنا نوفره لوقت الحاجة .
جاءها الصبر صاغرا ذليلا .
_ سامحيني أيتها الإرادة . ها قد قمت من النوم لعلي أجد لديكم ملاذا .
_ اغرب عن وجهي ، أيها الصبر الذي أورثنا العجز .
وذهب الصبر يضرب في الأرض لا يلوي على شيء .
في أيام الحرب تلغى المواعيد العائلية ،وإن كانت مهمة .وجلسات الصداقة والتعارف التي تخصص عادة لتبادل المكتسبات المعرفية ..هيه..هيه..
إنها أيام الجد والعمل .
في المصنع يشتغل ثلاثة آلاف عامل .
يمتلكون أرصدة بنكية ، ومنازل فخمة ، وسيارات فارهة ، وحبوب المهدئات ..هيه ..هيه..
فالأعصاب متوترة دوما لأن ظروف العمل مرهقة . صنع هذه الماسورات والبنادق والمدافع والرشاشات يصيب الرأس بالدوار .
أما أطباء النفس ، الذين سبروا أغوار النفس ، فلا ينون ينصحوا هؤلاء العمال المساكين بالخلود إلى الراحة والاستجمام ، أو البحث عن عمل آخر .
في الفضاء ، مالكو المصانع الحربية وهم يناقشون أحوالهم المهنية يتبرمون مما يكتب عنهم في الصحف والمجلات . هؤلاء مأجورون ، يبيعون أقلامهم لمن يدفع أكثر .
يصرخ أحدهم : إذا توقفت الآلات عن العمل أصابت الصدأ ، وإذا صدئت لزمتها قطع غيار . هذا مكلف جدا جدا أيها السادة . لا دخل لنا في السياسة . نحن صانعو أسلحة لا سياسة .
أيام الحرب لا تنقطع .
ففي كل يوم حرب .
اشترى الطفل مسدسا مصنوعا من البلاستيك .
رمى ذبابة برصاصة من الفلين .
المحارب اندس خلف أجمة يتربص بعدوه. و عدوه يتربص بعدوه . انطلقت الرصاصة المحشوة بالبارود باتجاه الجسد الغض اليانع الذي لم يتجاوز العشرين ، فأردته قتيلا .
تلك الذبابة آلمتها الضربة ، ولكنها واصلت الطيران . لقد نجت ، فهنيئا لها .
دخل الأب مبتهجا . أخرج من جيبه قارورة سوداء اللون ، ونفث سمها في فضاء المطبخ .
في الصباح ، كان بلاط المطبخ مليئا بالذباب والصراصير .
قال الأب : إنها حشرات مضرة ، ولهذا وجب قتلها .
في التلفزيون يتحدث مالك مصنع مبيدات الحشرات إلى جمع من الناس جيء بهم لتمثيل كومبارس ربات بيوت وأرباب بيوت : أيها السادة ، إن مبيداتنا تستطيع قتل ثور بله ذبابة أو حشرة تسعى إلى نشر أمراض وعاهات .
ويتحدث جنرال متقاعد : إن قتل العاهات لايحتاج إلى مبيدات الحشرات . فلنجرب استعمال مراهم المدافع النفاثة .
حتى رئيس العالم خاطب سكان العالم قائلا : إن مايجري هو أسلوب لقتل زهور الحقول ، وبسمة الأطفال ، وابتسامات الرضع المقبلين على الحياة . لا نتعارك بالأسلحة الفتاكة . دعوا الأفواه تتكلم ، دعوا السماء تمطر ماء نغسل به وجوهنا من العار .
قالت له زوجه لما عاد إليها منهكا : كان كلامك شبيها بقصائد الهايكو . كلام قصير ، رومانسي ، حالم ، ولكنه لن يفهم في زمن الحرب .
_ سيفهم في زمن السلم .
_ السلم ؟ هذا كلام قرون مضت .
في يوم ما سيلتقي صانعو المبيدات في منتجع صيفي .
لا شيء ينغص صفوهم ، فالحروب مستعرة في كل مكان .
الشمس حارة ، متلظية لا تني ترسل نارها إلى البشرية . وماء البحر مرغب في السباحة ، ولكن لا رغبة تراود هؤلاء في نثر الماء على أجسادهم .كان منظر الأطفال وهم يتراشقون بالنثار ويغرقون أبدانهم في الأعماق ثم ينتفضون إلى الهواء تكاد أنفاسهم تحتبس ، مثيرا للغاية .
قال صانع مبيدات حشرات :
_ من إنجازاتنا أننا صنعنا مبيدا يقتل الحشرات ولا يضر بالأطفال .
وقال صانع مبيدات الإنسان :
_ من إنجازاتنا أننا صنعنا مبيدا يقتل الإنسان ولا يضر بالحشرات .
والبنت الصغيرة التي أرادت أن تعرف ما الحزن لم يعد يخفى عنها شيء. ففي أيام الحرب لا أحد يحجب عنا الأحزان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق