2012/01/18

"سيأتى فى العيد" د.سعاد محمود الامين

سيأتى فى العيد
د.سعاد محمود الامين
ياسمين طفلة جميلة هادئة، فى عينيها سؤال حائر.عندما ترى أترابها من صغار الحى يقفزون فرحا بقدوم العيد، يتباهون بملابسهم الزاهيه وأحذيتهم التى تعكس كل الوان الطيف ،النقود التى ينفقونها على الالعاب والمراجيح وشراء البالونات ،ضحكاتهم البريئه التى تختلط مع صريرالمراجيح القديمة قدم الساحة المسمى بسوق العيد. ياسمين تنظر حولها متوارية خلف أختها ختام لأنها ليس لديها فستان العيد. كان ترتدى فستان أختها عندما كبرت آل اليها. يتارجح جسدها النحيل داخل الفستان الواسع.أما الحذاء الكبيرتعالجه بإدخال قطعة قماش حتى تستطيع به السير دون ان يفلت من قدمها الصغير . عندما خرجت صباح العيد وجدت الاطفال بصحبة آبائهم فرحين ،وعندما مروا بها سخروا من هيئتها المزرية وضحكوا ورفضوا أنت تذهب معهم بفستانها القديم سوق العيد..
وجدت نفسها وحيدة هرولت الى داخل المنزل وتكورت فى فراشها داخل الحجرة الطينية، التى تفتقر الى النوافذ فقط تلك الفتحات مغطى ببقايا قماش قديم فى الأعلى يدخل منها ضوء النهار. والجدران الطينبه ثبت عليها المسامير تدلى منهاأسمالهم التى فقدت لونها وغزلها وأصبحت باهتة ،ولكنها ساترة لاجسادهن النحيلة. هرعت الأم الطيبه لمواساة صغيرتها . ووعدتها بالذهاب معها لسوق العيد وهى تعلم أنها لاتملك نقود تنفقهاعليهاهناك. صرخت ياسمين لماذا ياتى العيد...... أنا لا أحب العيد. نظرت الام بحسرة الى إبنتها وسرحت بعيدا واضعة يدها النحيلةعلى خدها الذى خط الزمن عليه الأخاديد مبكرا،فاصبحت مجرى لسيل الدموع .عندما تتذكر والد بناتها الأربعه الذى هجرها وتركها فى مهب الريح فى غرفةآايله الى السقوط عقابا لها. لأنها لم تستطع أن تنجب له ولدا يحمل اسمه ويسير خلف نعشه متقدما الجمع ليرفع رأسه وهو فى تابوته. بارك له الجميع زواجه الثانى. ولم يحاسبه أحد على هجرانه لام البنات التى أعياه الصبر والحرمان ،الفقر وغياب الزوج الطويل ونسيانه لبناته.كان العيد يشكل لها كابوسا مريعا وعبئا ثقيلا لضيق ذات اليد والسؤال الحائر المكرور عبر الأعياد .هل سياتى أبى فى العيد؟
فى ذلك الزمان كن النساء لايبحن بمعاناتهن .لايشتكين ويتظاهرن بالرضا التام عن حياتهن التعيسة ويمثلن الجهالة السعيدة يرضين بالقليل ويوقدن الشموع لازواجهن.
كانت أم البنات تخبرهن دائما أن والدهن يحبهن وسياتى فى العيد محملا بالهدايا والملابس ،وينتظرن بترقب وشوق وياتى عيد وياتى عيد....وياتى اخر وهو لايأتى. حتى يئسن،ولكن ياسمين الصغيرة كانت تنتظر على أمل أن ياخذها كبقية الاطفال لسوق العيد...ولكن فى هذا العيد نفد صبرها واصبح الاطفال يسخرون منها عندما تقول أنه سياتى فى العيد. تذ كرت جدها القابع فى حجرته لايدرى مايدور حوله فقد كان بمثابة الأب لحفيداته، عندما مرت السنون كبر وفقد جزء من حضوره .سمعت صوته ينادى طلبا للماء هرعت نحوه والسؤال الملح يطاردها ياجدى متى يعود أبى؟ نظر اليها كأنها لايعرفهاوقال متسائلا: بنت من أنت؟أنا إبنة إبنك عطا المنان. تمتم الجد وفتح عينيه على إتساعهما حتى كادتا أن تخرجا من جفنيه المنتفخين عند سماع الاسم . شخص ببصره سارحا ثم نظر اليها قائلا :هل هو على قيد الحياة؟ قاومت ياسمين الشعور البغيض الذى إنتابها حتى جدها لايستطيع مشاركتها أحزانها هرولت مسرعة من جحرته النتنه التى تبعث منهاالروائح العرق والبول وبقايا الطعام . لا يعرف العيد طريقه اليها .
كانت زهره الغجرية بائعة العطور والأوانى المنزلية والحلويات، تتنقل داخل الحى حاملة سلتها فوق راسها محملة ببضاعتها ،يستقر بها المقام عند أم البنات التى اتخذ تها صديقة. تعترف لها بمعاناتها وتهمس لها بمتاعبها وحرمانها وتعلم إن زهره الغجريه غريبة عن البلد لذلك صارت مستودع أسرارها ، لاتتحفظ فى الفضفضة تبوح لها بمكنونات قلبها، وحبها لزوجها الذى رفض أن يخبو مع الأيام. وظل عنيدا يراودها ويقض مضجعها البارد . كانت لزهره قلب من ذهب تستمع لإعترافاتها العاطفية ، تشفق عليها وتواسيها وتغرضها التقود وتعطيها من سلتها ماتيسر للبنات.
ظلت ياسمين فاقدة الأمان وعرضة دائمة لعبث الاطفال ومكايدتهم لها كلما خرجت لللعب تحت شجرة النيم الوارفة الظلال أمام المنزل التى تخرج من تحت ظلها كميات من الاطفال الذين كبروا يحملون زكرياتها .عندما أطلت ياسمين واقتربت من الظل هجمت عليها نوال وهالت عليها كميات من التراب فوق راسها وضحك الأطفال وصاح أحدهم: اخبرى والدك........
صرخت ياسمين وإرتمت فى حضن أمها التى لاتستطيع الدفاع عنها. ام نوال سليطة اللسان ستسمع منها مالا تود سماعه كتمت غضبها وغرست أصابعها داخل شعر ياسمين الاسود الناعم المسترسل الى منتصف ظهرها تزيل منه التراب ووهى تتمتم غاضبة لاتستطيع أن تجاهر به.
تراكمت الأحاسيس السالبة على نفس الصغيرة ياسمين، يئست من عودة الغائب ورفضت الذهاب الى المدرسه و اللعب تحت ظلال النيم. وحبست نفسها داخل تلك الحجرة المظلمة ذات الباب المتكىء منذ خروج الأب. يرسل طقطقات إحتجاج وصرير ا عاليا عند إغلاقه خوفا من زمهرير الشتاء الذى لايرحم . كبرت ياسمين وكبرت غصتها، واصبحت صامته ساهمة لايستطيع أحد الدخول الى عالمها الخاص وقد نسيها الجميع بعد أن يئست امها من علاجها بالقران فى خلوة الشيخ الصالح .تركتها تمضى مع الأيام .عندما يسمع صوتها أحيانا ثحدث أبيها. وتحملق فى الفراغ وتسأله لماذا لم تاتى فى العيد وتنخرط فى بكاء طويل.
سكنت هرة منزلية مع ياسمين فى الحجرة وكانت تتسلى بمراقبتها . أتى االهرة المخاض فانجبت أربعة هررة صغار داخل الصندوق التى تحتفظ فيه أم البنات باشيائها العزيزة رسائل زوجها القديمة عندما كان الحب موصولا ، تذهب بها متباهية لود بت الجابر المدرس ليقراءها وهى خجلة من سيل عبارات الحب التى كان يخطها لها قبل أن يقذف رحمها هذا العدد من الإناث.ولكن الآن لاتستطيع الا أن تخرجها سرا وتتحسس الكلمات بيدها عندما يعصف بها الشوق مختبئة حتى لايراها أحد متلبسة بحالة حب. يحتوى الصندوق أيضا على الحلى القديمه مثل العاج والسوميت وخرز وسكسك وعطور و طافور به بقايا دهن ، وبخور كانت تستخدمها فى تلك الليالى البعيدة حيث الحب محتفلا بوجوده .جاءت القطه ووضعت صغارها وخرجت تبحث عن قوتها بعيدا .
مدت ياسمين يدها متحسسه صغار القطة أخذت واحدا وأحكمت قبضتها حول عنقه فمات الهر الصغير أزاحت ستائر القماش القديم من النافذة والقت به فى الخارج. هكذا اصبحت تمارس هذة الجريمة حتى قضت على كل الهررة الصغار..
ذات يوم بعد أن نسى الجميع أمر ياسمين. خرجت من الحجرة مقوسة ظهرها تمشى ببطء وتنظر بعيدا فى عوالمها. دهشت الأم لخروجها وتوجست، فنادت على ابنتها الكبرى عائشه التى كانت فى غاية الجمال أهدتها الطبيعة من الجاذبية ساهمت فى توازنها. فاحبها الجميع كانت مساندة لامها ومتفهمه لغياب أبيها الذى أصبح لديه ثلاث من الابناء الذكور فقد حقق حلمه وإغتال أحلام البنات......
جاءت عائشه وشاهدت ياسمين تنظر بتمعن الى الدجاجة التى تتمخطر وخلفها رتل من صغارها يلهون .هجمت ياسمين على الفراخ وأخدت واحدة ولم تستطيع عائشه بكل قوتها أن تنزعها منها الإبعد أن عصرتها بيدها ورمتها هامدة .هجمت مرة أخرى وأخرى....... وعلا الضجيج والصياح ،خرج الوضع عن السيطرة. تقفز الدجاجة مدافعة عن صغارها .تصرخ الأم خوفا على ياسمين التى إنهارت كلية وصارت تصرخ بأعلى صوتها .جاء الجيران والمارة وكل من نسى وجودها تعاونوا على تهدئتها أدخلوها الحجرة المظلمة.
أشعلت ياسمين فانوس الجاز الذى ظل مطفئا منذ زمن بعد أن نفذ الكيروسين ولم يهتم أحد بإنارته تركوها فى ظلامها المزدوج . فوقع بصرها على قارورة دواء قديم، تناولتها ونظرت لمحتوياتها.... أقراص إبتلعت واحدو وتبعتها باثنين وثلاثة....و... حتى نفدت القارورة قذفتها بعيدا فاصطدمت بفانوس الجاز، تكسر زجاجه وتارجحت الشعلة ورسمت على الجدران الباهته ظلال تتحرك كالاشباح تلوح بيدها مودعة وظلت تتابع الظلال.متوسدة يدها النحيلة........عندما نادى الآذان فجرا للصلاة. كانت ياسمين قد حلقت روحها فى عوالم تكون فيها الروح منفردة لاتسأل فيها عن والد ولاولد . رقد جسدها المتعب بسلام. جاء والدها فى يوم رحيلها ولم ياتى فى العيد ابداً.........

Suad_vet@yahoo.com


ليست هناك تعليقات: