بقعة سوداء
هيثم عبدربه السيد عبدالرحمن
بلكونة غرفتى المطلة على الشارع ضيقة جدا..تكاد تطبق على ومكتبى الصغير وأنا اكتب مقالتى الأسبوعية للجريدة.
عادة قديمة أن اكتب فى هذا المكان رغم ضيقه وضجيجه وكأنه جزء من الشارع ولا أعرف لعاداتى سببا أو تفسير سوى أنى فى هذا المكان الضيق استشعر انفلات روحى كلحظة ميلاد من رحم معلق بين الارض والسماء لتهيم فى فراغ الشارع وتصطدم بالكتل المتحركة فتعود إلى محملة باختلاجات أرواح أخرى تسكن تلك الكتل لألتقط من بينها مفتتح رواية أو فكرة قصة أو موضوع مقال .
وأكتب " أيها الساكنون بلا حراك كفيلة أفريقية مترهلة على مقاعد وثيرة فى مسرح أوروبى تشاهدون توليفة مسرحية عبثية لشكسبير أبطالها هاملت المدعى الجنون وبروتس الخائن وعطيل المتهور وديدمونة المسكينة و...."
يخلعنى صوته من شخصيات شكسبير وهو ينادى
- أحلى بطاطا يا بطاطا.....ياسكر وعسل يابطاطا
تتابعه عيناى وهو يجر العربة المحملة بالبطاطا قادما من اول الشارع .. تنفلت الروح من رحمها ،تتقافز حتى تصله ،تمرق من أمامه لتلتف حوله وعربته الخشبية الضخمة ،تلامس صدره العارى العريض وتقاسيم وجهه البارزة فتعود إالى محملة بعبق رجولى وجير أسنان متراكم منذ زمن فأجدنى أضيف إلى ديدمونة المسكينة
"......وجيفارا المكافح المناضل ......"
يهب شيطانى المثقف
- جيفارا مش من شخصيات شكسبير ....انت بتستهبل ...؟
فأرد عليه
- ولو ..دراما الحدث تحتاجه.
واتابع البائع وهو يقطع الشارع بطوله مناديا بايقاعات منتظمة ولم يستوقفه أحد ولو لمجرد الفرجة وتقليب سلعته المتكومة فوق عربته الخشبية ،فيتوقف من تلقاء نفسه أمام محل الجزارة المقابل لمنزلنا وينادى متوجها بندائه إلى المراة التى يمتلئ بها الكرسى فى واجهة المحل
- بطاطا يا بطاطا
تنظر اليه المرأة وهى تلوك لبانتها التى لاتفارقها وتهز ساقها القبيحة فوق الأخرى الساكنة فيهتز معها جسدها المترهل وثدياها المتدليان البارزان تحت ثوبها الشفاف المنحسر طرفه بين ساقيها .
- بطاطا ...!! مش عيب على طولك وعرضك تجر عربية يا.......
وأكملت عبارتها بضحكة فجورية طويلة أعهدها منذ أن ظهرت تلك المرأة فى شارعنا كمارد حط فى الشارع تؤرق البنى ادمين ، وتقلق راحتهم بلسانها السليط وجر المشاكل كعادة حياتية يومية.
يتوقف البائع ، يفلت من قبضته ذراعى عربته ،تنتصب قامته ،يستدير فى هدوء ليواجه المرأة
- انت ست مش محترمة
تملأ أجوائى موسيقى داخلية تصاحبها اهتزازات يدى بالقلم الحبر ولاأدرى لماذا ؟
هل هى طبيعتى الدرامية التى تهوى مثل تلك المواقف ؟ أم هو فرح داخلى حقيقى لموقف ذلك البائع أمام المرأة صاحبة محل الجزارة ؟
اختلافاتى الداخلية لاتبدل واقعية المشهد فى الشارع ..تنتفض المرأة من كرسيها ،تبصق لبانتها ،وتستند بيديها على جانبى خصرها المترهل
- ناولنى سكينة باردة من عندك يا "لولو"
وكالعفريت يظهر"لولو" وفى يمنيه سكين
ترتفع سخونةالمشهد وتتجلى عادات البشر فى شارعنا ..يتحلقون حول الحدث صانعين منه حالة شبه مسرحية ،همهمات الجمع تحجب عنى تطاولات كلامية استنتجها من اشارات أيدى البائع والحركات الجسدية لفاضحة للمرأة وتلويحات لولو بالسكين .
أضع قلمى ، أزيح مكتبى الصغير بضع سنتيمترات للامام ،أقف ،أدلى رأسى من فوق حافة البلكونة لأرى وأسمع ملء العين والأذن
يدفعنى شيطانى
- انت سلبى ليه ؟! شارك فى المشهد
أتحرك بسرعة ،أتخطى باب الشقة ..درجات السلم ..باب المنزل ..أجدنى فى المشهد ..شيطانى يدفعنى ..أمرق بين الكتل غير ابه لتعليقات النسوة ولغط الرجال ، أصل الى البائع والمرأة ولولو ..أضع نفسى بينهم مواجها المراة ولولو ..ترمقنى المرأة بنظرة
- لو سمحت ياأستاذ خليك انت بعيد
وكأنى لم أسمعها ألتفت الى البائع تتلاقى أعيننا .أحدق فى ملامحه ...للحظة أستشعر استثنائيته،استحضر قدراتى التحليلية ،يشتتنى الضجيج ..أعجز ..يستيدير ويقبض على ذراعى عربته ملقيا بابتسامة عريضة أشعر أنها غطتنى والشارع ،يسير فى هدوء مخترقا الجموع
- ياسكر وعسل يابطاطا
أعود إلى البلكونة لأنتهى من مقالتى ..أجد الجزء الأبيض المتبقى من الصفحة تملأه بقعة سوداء ..نسيت القلم الحبر دون غطاء ،أنزع الصفحة ،انظر الى الشارع فأجد "لولو" يعلق ذبحا جديدا فى واجهة المحل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق