2012/05/07

قراءة في موسم الهجرة إلي الشمال "للطيب صالح" بقلم: خيري عبدالعزيز عبدالباري


قراءة في موسم الهجرة إلي الشمال "للطيب صالح"
    بقلم: خيري عبدالعزيز عبدالباري
    قرأت للطيب صالح أكثر من عمل سواء علي المستوي القصصي أو المستوي الروائي, ووقفت كثيرا أمام روايته العالمية "موسم الهجرة إلي الشمال" أتأملها مشدوها, وحاولت للموضوعية قبل الشروع في قرأتها أن انحي جانبا ما استحضرني من قراءات تمس العمل, وتاريخ مجيد يشيد به, ويرفعه إلي عنان السماء, ومصاف العالمية, لعلي ألمس بنفسي ما لمسه الآخرون, وأضع يدي علي مكنونات أسراره, ووجدت نفسي بمجرد الخوض فيه أمام عمل دسم ليس من السهل هضمه واستيعابه, وأدعي أن كل من قرأه أخذ منه بقدر إن لم أكن مبالغا, ووجدتني أقف كثيرا للتفكير والتأمل, وكأن العمل -رغم صغر حجمه- ممتلئ بالألغاز والطلاسم, وبالرغم من ذلك كان يشدني غموض خفي ورغبة مستميتة لسبر أغواره, وتملكتني خواطر عدة بمجرد الفراغ من قراءته, أوجزها في الأتي:
1-  لغة الطيب صالح في "موسم الهجرة إلي الشمال" لها خصائص متفردة فهي لغة رشيقة, غنية بالمعاني, متحررة من كل قيد, سواء مفردات عفي عليها الزمن, أو استكتاب للمحفوظ, أو أي تنمق وتصنع وديباجه لا طائل منها.. لغة مترابطة, سلسلة, سهلة كماء الجدول, تتحرك بانسيابية وروية, وعلي درجة عالية جدا من الوعي. فهي لغة الطيب الخاصة به, تشم فيها أريج الطيب وعبق السودان. فاللغة حقا حية, يكتب كأنه يحكي في مجلس عام أسفل شجرة "زيزفون" وقت العصاري بين جمع من الأصدقاء. تجده يخرج من بين السطور فجأة ليحدثك بجملته الشهيرة "يا سادة" فتجد نفسك في لحظة قد صرت أحد الأبطال وعنصر أساسي وفعال في الرواية, وأنت بالفعل كذلك منذ السطر الأول.. ويا لبراعته وحرفيته في التنقل بين المواضيع, فهو لا يلزم نفسه بأي مقدمات أو ديباجة لمناقشة قضية ما, فجأة تجده يدخل في الموضوع في طرفة عين, ويتركه ليدخل في أخر في الطرفة التالية, كأنه مشرط جراح ماهر يجيد التنقل بين الجراح الدامية. وكل فقرة قائمة بذاتها, وكأن الفقرة عمل قائم بذاته, ولكن ما تلبث أن تكتشف العلاقة الوطيدة بما قبلها وما بعدها, سواء علي مستوي الفقرات أو الأحداث أو الأزمنة.
     بناء واعي حاذق للرواية, تخدم فيه وتوظف بدقة كل شاردة وواردة في العمل, ولا يزول الالتباس والغموض إلا إذا حدث الاتصال الخفي بين الكاتب والمتلقي كي ينجح القارئ المشدوه في سبر أغوار مرامي الكاتب, ومعرفة خبايا مقصده, وهو عمل لا يقرأ للتسلية بأي حال من الأحوال, ولكنه يحتاج لذهن حاضر وعقل واع ودرجة من الثقافة العالية لفهم مجرياته..
2-  التنقل بين الأزمنة: سمة اللاخطية التي ظهرت في العمل الروائي كانت من أهم سمات تفرده, فالعمل ينتقل من الماضي إلي الحاضر أو العكس بحذق وتفرد عظيمين, فتجد الفقرة الواحدة تغوص في أعماق الماضي تستحضره بكل ملابساته, وفجأة تجد الحاضر الراهن في ذات الفقرة حيا ينبض بين يديك.. تنقل واعي موهوب بين الكائن وبين ما كان, ليس هذا فحسب, بل إن الماضي عند الطيب تم تفتيه إلي جزئيات صغيرة صار الطيب يتقافز فيما بينهم بحذق مدروس ودراية عالية تخدم العمل وترتفع به.
3-  ثقافة الطيب صالح العميقة والمتجذرة في أصوله الإفريقية والطافحة في عمله الروائي "موسم الهجرة إلي الشمال" لكل تفاصيل الحياة في السودان الوطن بما لها وما عليها في أدق تفاصيلها, وبراعته الشديدة في تصوير ذلك, وكذلك ما اكتسبه من ثقافة غربية واعية وموضوعية, ومعايشة لم تخرجه من أصوله رغم تأثره بها, فكان نتاج الثقافتين في ضميره هو كشف اللثام عن جذوة الصراع المتجذر بين الشرق والغرب, وما لكل منهما وما عليه, بدون تحيز لطرف علي حساب الأخر, وكأنه حكم عدل لا يهمه الأمر أو يعنيه من قريب أو بعيد..
4-  التناقض البين بين الراوي والمروي عنه ومدي براعة الطيب صالح في إظهار الصراع بين الشخصيتين.. الراوي الذي لا يعرف له اسم, المتفائل المتصالح مع ذاته, والمتفهم لعقلية الأخر المحتل لأرضه, والذي ذهب إليه في موطنه إنجلترا يلتمس العلم, فاستوعبه واستوعب حضارته, بدون أن يخرجه ذلك من ذاته وأصوله, وعاد إلي الوطن السودان ليبنيه ويرفع أعمدته بهذا العلم, وكأنما أراد أن يقول لن تكون الخسارة علي طول الخط, وبنظرة متفائلة لندع الماضي ونبني الحاضر والمستقبل..
     ثم مصطفي سعيد السوداوي الناقم علي نفسه وعلي الأخر المحتل صاحب الحضارة والرقي, والذي رغم انبهاره بكل مفردات الحياة في إنجلترا, إلا أن ذلك لم يمنع من تأجيج هوة الصراع مع الأخر لكونه مغتصب بني حضارته علي أشلاء وطنه السودان, فانتقم منه في نساءه سواء بالقتل المباشر في شخصية جون مورس, وهي المرأة الوحيدة التي هزأت به, ونظرت إليه نظرة دونية, أو مع الأخريات اللاتي أحببنه فدفعهم بطبيعته السوداوية إلي حافة الجنون فانتحرن..
وكأنما أراد الطيب أن يقول في هذا العمل الكبير أننجو بأنفسنا من سوداوية الماضي وأحقاده أم نتفاءل ونبي المستقبل, وأظن أن الطيب رغب في نفسه بطريق التفاؤل والبناء, عندما جعل مصطفي سعيد يموت غرقا بغيظه وحقده الدفين في فيضان النيل, وتركه للبطل "الراوي" يجاهد أيضا الغرق في نهاية الرواية, ويستنجد بأهله لإنقاذه وهي نهاية مفتوحة, ولكنها طريقة ذكية رمي فيها بالكرة في ملعب السودان الوطن ليكون لهم كامل الاختيار..

هناك تعليق واحد:

غير معرف يقول...

تحليل و قراءة جميلين٠احسنت سيدي٠هذا كله يحيلني على سؤال لطالما ارق الكثير منا و اقصد الدول التي تعرضت للاستعمار:الى متى سنبقى نلقي اللوم على الاخر/الاجنبي/الغربي و نعتقد انه سبب رئيسي في تخلفنا؟ اليس العيب فينا كذلك ولا نريد ان نستوعب الدرس؟