2012/06/12

"الجيل" قصة بقلم: محمد عبد المطلب


الجيل
محمد عبد المطلب
استوقفني موظف الاستعلامات عند مدخل الباب،فقلت له بسرعة أريد صلاح ولم ازد،حرك ذراعه حركة ملولة غير مبالية،فاخذت اقفز فوق السلالم،وأمد جذعي داخل الأروقة بحثًا عنه،سالت الموظفين عن صلاح رفعوا إلي وجوهًا صماء،وتبادلوا النظر بعيون زجاجية،وهزوا أكتافهم وغرقوا في الصمت.
جلست علي مقعد في أحذ الممرات لألتقط أنفاسي،تفحصت المكان الذي يتجول فيه صلاح كل يوم،اندفعت إلي رأسي صورته ونحن في الفترة الخضراء من أعمارنا وقلت لنفسي:"صلاح أقدر واحد فينا علي عرض قضيتنا،وهو الذي يملك ملف قضيتنا منذ الصفحات الأولي،منذ الجري في الطرقات والتسرب إلي الشوارع المجهولة ،والدقات الخشنة علي أبوابنا في هزيع الليل ،والعصي الغليظة المنهالة علي أبداننا،وتصلب الأصابع حول القضبان الحديدية الباردة والشعارات المجروحة المصبوغة بلون الدم،والإرداة المستميتة التي تجعلنا نرفض أن نحني الرأس،والابتسامات الودود التي تلعق الجراح وهمست في جلستي بصوت مسموع:أين أنت يا صلاح يا أصدق صوت لجيلنا؟؟
في بدايات الصباح،ذهبت إليه في البيت،فتحت لي الباب زوجته،ولما سألتها عنه كانت  هي أول من تفحصني بعينين زجاجيتين،وواجهتني بوجه أصم ولم ترد علي،غنما أغلقت الباب في وجهي،وأطلقت سيلا من الشتائن،أغرقتني عبر الباب الموصد.
وقبل ذلك بمدة،وفي اللحظات الأولي  التي اجتمعت فيها بأفراد المجموعة المبعثرة قلت لهم:إن الأمور صارت في صالحنا،وإن الأمل قائم في أن يفسح المجال لنا ،وأن نحتل مقاعد مؤثرة بعد لحظات انتظار طويلة،اكتوينا فيها بلهيب اليأس والعدم،لكن لابد من وجود صلاح معنا،إنه أنقي صوت يحمل قضيتنا،وسعدت ساعتها لما رأيت الرؤوس تهتز بالموافقة والحماس يدب في أوصال الكثيرين منا،وتتلون الوجون بلون زراعق بالحياة والخصوبة،واتفقنا أن ينطلق كل منا يمسح المدينة بحثًا عن صلاح،وبعدة عدة أيام،رأيت الإحساس بالخيبة يغلف كل الوجوه التي عرفتها من آلاف الأيام،وهمس معظمهم بيأس وغموض:
-علينا ان نختار أحد غيره.
شعرت  ساعتها أن يدا غليظة تحاول أن تقتلعني من جذوري ،فصرخت في وجوههم:
-  إن صلاح يحمل نفس السنوات التي نحملها علي أكتافنا ،لكن صوته يحمل مأساتنا وأفراحنا  القليلة،هل ننسي صوته الهاديء،وهو يقول في أحلك اللحظات وأبداننا تعوي من صفع الهراوات:سيأتي يوم نعرف فيه طعم الابتسامة،سيأتي يوم يصير زمام الأمور في أصابعنا.
خرجت من المبني الذي يعمل به صلاح،لم أمسك ببداية الخيط بعد،شعرت بالصداع يفلق رأسي إلي نصفين،ملت إلي مقهي قريب،وأخرجت القرص الذي ينظم حركة الدم في عروقي وابتلعته،وطلبت مشروبًا مثلجًا،وأنا أقاوم شعورًا خبيثًا  باليأس يتسلل إلي،لكني نفضت كتفي بحركة مباغتة وهمست لنفسي:ابتسامة صلاح الواثقة ستقتل هذا الشعور الخبيث.
تركت المقهي دون أن أحدد وجهتي،سرت بخطي بطيئة وسط جموع من البشر ،تهرع في الشوارع كأنها تتسابق،توقف نظري علي رجل نحيف ينتصب علي ناصية شارع جانبي غير معروف ،وبقضم شطيرة بغير شهية،وتجازوته لكني استدرت إليه،وصرخت رغما عني صرخة طفولية:
- صلاح...صلاح.
توهجت نفسي بالفرحة،جريت إليه مصافحًا،ومعانقًا،لكنه طالعني بعينين خابيتين من خلف نظارة سميكة وأنكرني ،صرخت أفكره بنفسي ،فاتسعت عيناه ،وزاد غنكاره لي،دق قلبي دقات عنيفة،وأخذت أحملق في وجهه الشاحب ،وعظامه البارزة،وقد اندثرت تمامًا وسامته وابتسامته الشهيرة،دفتعته رغمًا عني غلي عمق الشارع الهادي وقلت له:
- صلاح،الأمور تغيرت،إن بعض الأبواب قد فتحت،فعلينا أن ندخل ونعرض قضيتنا.
اهتزت رأسه بحركة متشنجة ولم أسمع صوته،فعاودت الصراخ المكتوم:
-إن مكانك شاغر في مجموعتنا،وكلنا ننتظرك.
مد أصابع مرتعشة إلي النظارة يدفعها إلي الخلف،كأنها وشيكة علي السقوط،وانثني رأسه يتأمل ما تحت قدميه.
ملت عليه أرجوه بكل معاناة السنوات التي فرت منا:
- سيصير زمام الأمور في أصابعنا،هل نسيت أملك القديم؟
كور قبضته الضعيفة علي الورقة  التي غلفت شطيرته وألقاها بقوة فسقطت قريبًا منه:
- صلاح أريد أن أسمع صوتك،إنه صوتنا كلنا.
وجدت عينيه تهيمان وراء أشياء مجهولة،وفجأة صرنا في قبضة صمت قاس ومتوحس،تأملت رأسه فوجدته  مكسوا بفروة نحيلة من الشعر الأبيض فصرخت حتي حدجني بعض المارة بفضول:
- صلاح أريد أن أسمع صوتك.
رفع إلي رأسه بعصبية كبيرة ،ودفعني من أمامه بقبضته الضعيفة،وسار متأرجحًا،وأخذت أتفحصه بعينين مرتعبتين،وقد انضم إلي جموع السائرين،وإن بدا مميزًا بينهم بالانحناءة وتاج الشعر الأبيض،واكتشفت علي نحو مفاجئ أني وكل أفراد جيلي نحمل نفس التاج الأبيض ونفس الانحناءة.

ليست هناك تعليقات: