ظهيرة
حجرية
لحسن باكور - المغرب
.. الهواء ساكن تماما ومخنوق بلزوجة الصهد وثقله
الذي يمتزج بالأنفاس. على الإفريز وريقات النباتات الهشة هامدة تماما، وبدت بحاجة
إلى الماء. فوق الأبنية وفي الفضاء المفتوح ترسل الشمس أشعتها العمودية مثل سياط
لاهبة تجلد بها كائنات عاقة غير مرئية. الشارع مقفر لا نأمة فيه. أمامي الآن مقهى
" المنظر الجميل " الفارغ إلا من زبون لا يكاد يبرحه، تعودت على رؤيته
يوميا جالسا في الركن ذاته منذ مجيئي إلى هنا. من مكاني أستطيع أن أرى النادل
جالسا في ارتخاء، مستغلا فجوة الظهيرة ليصيب قسطا من الراحة. السيارات هاجعة
بمحاذاة الرصيف، على جانبي الشارع، تغطي طبقات سميكة من الغبار أسطحها وعجلاتها
وزجاجاتها الأمامية، وبدت لي مثل طيور خرافية عملاقة أرهقها التحليق والعطش فحطت
هنا مضطرة. مارة قلائل يعبرون بين الفينة والأخرى بخطى حثيثة، يعتمرون
القبعات أو يغطون رؤوسهم بأي شيء يقيهم ضربة الشمس، وقد يعرجون على المقهى لشرب
قليل من الماء.
حاولت مرة أخرى أن أقتحم بياض الصفحات
على شاشة الحاسوب، وأجعله ينطق بشيء، لكنه كان متمنعا أكثر من السابق، فعدلت عن
ذلك خائبا. أحسست أنه علي أن أحفر في صخر أصم قد يدمي أظافري دون أن يبوح بشيء،
فقمت متذمرا لأغير المكان. تأففت من الحر الخانق الذي لا يسعف على الكتابة، وكنت
أعلم أني إنما أحاول التمويه على عقمي. هربت إلى الشرفة محتميا بسقيفتها المتوجة
بقرميد أخضر، فطالعني مشهد الظهيرة الذي رويت بعض تفاصيله أعلاه. مسحت ببصري
الأماكن التي شملها مجال رؤيتي فرأيت ما رأيت، ثم فجأة، وفي ما يشبه الومض الخاطف،
اختفى كل شيء. انفض جمع الكائنات غير المرئية، بعد أن عوقب العصاة أمام الملأ.
حركت الطيور الخرافية أجنحتها العملاقة ببطء ثم طارت، بعد أن ارتوت واستعادت
قواها. ابتلعت الأماكن الظليلة العابرين فلم يعد يمر أحد.. وطفا أمام ناظري مشهد
ظهيرة آخر مختلف تماما..
.. أراني
طفلا جالسا تحت جدار حجري واطئ لمنزل في البادية، هو منزل جدي الذي تعودت قضاء عطلتي الصيفية عنده. أستميت لكي أبقي جسدي
النحيف في رقعة الظل الصغيرة التي يصنعها الجدار، والتي ما فتئت تتقلص، فأحس
بالأطراف المدببة للحجارة تخزني و تنغرس في ظهري. الظهيرة حارقة. الشمس استنفرت كل
مخزونها من الحرارة وأشهرته في وجه الكائنات والأشياء. في الداخل كل أفراد العائلة
مستسلمون لغفوة القيلولة. غافلت أمي وخرجت، لكي أشبع رغبتي في تأمل هذا المشهد
الذي يفتنني و لا أمل من رؤيته: فراغ مطلق يعربد في الأرجاء، ممتدا إلى أقصى الأفق
حيث تبرز القمم الجبلية الجرداء التي بدت لي على الدوام أقرب مما هي عليه في
الحقيقة. حجارة حجارة حجارة في كل مكان. صفراء أو بنية وفي مختلف الأحجام. بعضها
جلاميد ضخمة انتزعها السيل من صخر الجبل. نحتها وجعلها أداة طيعة في يد البشر.
بيوت القرية من حجارة غير مبلطة من الخارج. حدود الحقول الصغيرة مرسومة بخطوط
حجرية متناسقة رتبت بعناية وصبر. فوهات آبار المياه الدائرية مصنوعة من حجر أصفر
نحت شكله الفلاحون وصقلته المياه وحبال الدلاء. وكذلك في البعيد، في مرمى البصر
يبدو الأفق الجبلي حجرا.. تجلد الشمس هذا الكون الحجري بأشعتها فلا يئن. وقد يعكس
أشعتها أحيانا فترتد عن الحجارة التماعات خاطفة تبهر البصر. تمر بعض العصافير
محلقة بوهن على علو منخفض، وتبدو فاتحة مناقيرها المتعطشة للماء. تحط بالقرب من
الآبار، حيث برك المياه الصغيرة وتغرز مناقيرها في إكسير الحياة. ترتوي وتبلل
سيقانها ثم تطير من جديد لتحط بأجسادها الهشة في أماكن ظليلة، فوق أغصان الأشجار
وتحت الأحجار الضخمة.
يمر مجذوب القرية المسالم. يخترق حقل جدي
القريب دون أن يعبث بثماره المغرية النضج. أتساءل في كل مرة كيف لا يمرض ولا تفتك
به الحمى على الرغم من تسكعه كل يوم تحت هذه الشمس برأسه الحاسر المشعث الشعر؟
وأفكر أن أسأل جدتي عندما تطعمه مرة أخرى في المساء. يأتيها دائما في وقت معلوم من
كل يوم، لحظة اعتدال الجو بعد العصر. تعطيه دورق لبن طازج وبيضا مسلوقا وخبزا.
يأكل بشهية وتمسح هي، بحنو أمومي، لعابه السائل بمنديل تضعه في جيب سترته. أحيانا
تتركه منهمكا في الأكل وتغيب قليلا داخل البيت. تعود وفي يدها بعض الملابس. تنزع
عنه ملابسه الممزقة والمتسخة، وتساعده في ارتداء الملابس الجديدة. يستسلم ليديها
الحانيتين، وهو يشخص ببصره إلى نقطة محددة في الأعلى، وعندما يحس بأنها انتهت،
ينهض ويواصل طريقه، وهي تتبعه بنظراتها المشفقة. يبتعد المجذوب شيئا فشيئا، دون أن
يتلكأ أو يتباطأ في مشيه، كأنه يعرف وجهته بالضبط، إلى أن يغيب عن ناظري.
أضع يدي بشكل أفقي فوق عيني وأنظر بعيدا.
أرى ألسنة السراب المائعة تتراقص مثل ماء حقيقي، وتعشي بصري إلى أن تدمع عيناي إما أطلت التحديق فيها.
أحيانا ألمح الأجساد الصغيرة لأطفال أشقياء هربوا من رقابة ذويهم وخرجوا في هذه
الظهيرة الحارقة، وهم يجدون في السير باتجاه الحقول الخالية من الرقابة، ليقطفوا
ثمارها، وعندما يشبعون ويملأون جيوبهم بالثمار،
يروعون الطيور الهاجعة في أعشاشها ويعبثون بالأعشاش، ثم بعد ذلك يعرجون على
النهر ليسلموا أجسادهم الغضة العارية الجذوع لإغراء الماء.. وقد يسعفني الحظ فأرى
شيخا أخرجته ضرورة ملحة يركب أتانه العجوز. يسلك الطريق الترابية الضيقة الممتدة
بين الحقول. في يده عصى يلكز بها عنق الدابة برفق. أوشك أن أسمع صوت ارتطام حوافر
الأتان بحجارة الأرض الناتئة. يبتعد الرجل شيئا فشيئا، يتأرجح فوق مطيته فتعلو
لذلك وتهبط عمامته الصفراء في انسجام مع ضربات حوافر الأتان. تحف بالأخيرة الآن
ألسنة السراب المتراقصة، وهي تغذ السير نحو وجهة صارت تعرفها بالسليقة. تمشي وتمشي،
لكن يبدو كأن الطريق لا تنتهي، وأنا لا أريدها أن تنتهي أبدا. أعشق أن أظلل عيني
في كل مرة، وأنظر لأرى العمامة تعلو وتهبط لا تزال، وألسنة السراب تحف بالراكب
والمركوب، وهما يسيران ويسيران..
* مقطع
من رواية" البرزخ"
التي صدرت مؤخرا عن دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق