"فتنة التراب"
دراسة لرواية سيرة الزوال
لهانى القط
بقلم/ أحمد الملواني
تعرض رواية سيرة الزوال للكاتب هاني القط ـ الفائزة
بجائزة الشارقة عام 2010 ـ في سياق سردي متميز، نظرة وجودية لرحلة الإنسان مع
الحياة والموت وغواية ما بينهما. في تتبع روائي جميل لرحلة الإنسان، ويمثله (صالح)
ـ شخصية الرواية الرئيسية في رأيي من بين ثمانية شخصيات يقوم عليها الحدث الروائي
ـ من لحظة انسلاخه عن الأصل/الأبوين، والأرض التي لم يعرف سواها في طفولته/ جزيرته
الصغيرة التي أغرقها فيضان النهر.. لحظة وقوفه على عتبة الحياة، والخروج لعمر
الشباب (برغم أن الكاتب لا يذكر صراحة عمر صالح في بداية الرواية، إلا أنه يبدو من
الإشارات ضمن السرد في سنوات المراهقة الأولى) حاملا أشباح الماضي، وميراث خاص
(جلباب الأم الملطخ بدمائها) قد يحمل تذكرة بالمصير المحتوم؛ الموت. وميراث من
متاع الدنيا الزائف (عقد الأم الذي يكتشف لاحقا أنه فالصو). ويكبر الولد بحثا عن
الذات وسر الحياة ومنتهى النهر. هي سيرة إنسان منذ خروجه للدنيا وحتى اكتشافه
لحتمية المصير: الزوال. والزوال هنا ليس زوال الإنسان.. وهذا ما يؤكده الكاتب
بالإبقاء على أغلب شخصيات روايته في حالة من الانتظار أو الدخول في لعبة دائرية مع
الحياة وآلامها.. فهم ما زالوا مستمرين.. ولكن الزوال هو زوال الدنيا.. زوال سحر
الغواية.. وهو ما يمثله الكاتب في حدوتة يرويها أحد شخصيات الرواية (السيد مصطفى)
عن الملك الذي امتلك أجمل وأكبر جوهرة في الدنيا، ولكنها كانت في عينيه حفنة من
التراب! ويطل علينا الموت كذلك بحتميته من صفحات الرواية.. فنقرأ في جمل
حوارية:
"بداخل كل جسد روحان، واحدة مشتاقة إلى الموت
والأخرى إلى الحياة" ص26
"كل حي يموت كي يحيا" ص56
"لقد ولدنا لنموت يا مصطفى" ص50
تتبع الرواية حيوات متعددة، لشخصيات روائية ثرية.. سير
منفصلة تبدو لنا منذ البداية بلا رابط واضح، إلى أن تتلاقى المسارات وتتقاطع،
وتتشابك راسمة نهايات للشخصيات، هي في الحقيقة ملامح لنهاية واحدة كبيرة. جميع
الشخصيات لكل منهم غوايته، ولكل منهم إرثا يحمله، في لعبة امتداد ودائرية لحيوات
البشر والأجيال المتعاقبة يصدرها الكاتب في روايته. فمثلا ورثت (فرح) الغواية عن
أمها حتى أنها تقول: الغواية موروثة في عيني!
(إبراهيم) ورث عن أبيه حب الحياة.
(مصطفى) حاول مقاومة إرثه/ الحكمة، فسقط في الغواية
وأضاع من يده كل شيء.. ومضى يبكي عصيانه لتعاليم والده الذي طالما تعامل معها
باستهزاء.. حتى أنه يحلم إنه يجلد أباه!
(الجد سالم) ينتظر إرثه/ الخلود من جد عاش منذ آلاف
الأعوام..
و(سالم الصغير) ورث عن أبيه نبوءة تحمل موته.. ربما لهذا
فهو يقف دائما على باب الحياة لا يستطيع دخولها.. حتى الغواية يفشل في الاستجابة
لها، لإصابته بسرعة القذف!
وتبقى (زينب) خالية من الإرث وأشباح الماضي.. راضية
بواقعها دائما.. أزماتها لا تنبع منها.. وإنما من إحاطة القدر بها.. فهي البسيطة
التي تعيش عيشة بسيطة ولكنها ممزقة بين زوج غائب، وابن بكري ستفقده حتما إذا ما
عاد الأب كما أبلغتهم النبوءة. ولكنها في النهاية تجد حريتها للمرة الأولى عندما
تقرر ألا تعاند قدرها.. عندما تستسلم وبيديها تشتري لابنها الكفن والعطر.
حتى ميراث صالح المزيف (العقد الفالصو) ورثته أمه عن
جدته! ربما لهذا لم يغوه متاع الدنيا، وإنما شغفه بالرحلة في حد ذاتها.. سعيه
للمعرفة.. للوصول لكشف مصير جثمان الأب الذي حمله النهر.. وحده صالح لا تهزمه
الفتنة، وينتهي بالدخول في لعبة التدوير، عندما يعثر على الإجابات من حيث بدأ.. من
عند قبر أمه يكتشف أن الحقيقة كانت حاضرة عند نقطة البداية.. فيحمل حكمة ومعرفة
غامضة مستعدا لتسليمها وبدء الرحلة من جديد مع صبي آخر ركب النهر لتوه للمرة
الأولى. ربما وجدت لعبة التدوير تطل علي حتى في إخراج الكتاب.. فإذا اعتبرنا أن
الكلمة على الغلاف الخلفي من عتبات النص، ومن أول ما يطالعه القارئ.. فقد أختير
لها مقطعا من نهاية الرواية.. هذا الاختيار قد يعبر في رأيي عن فكرة الدائرية،
فنحن نبدأ في قراءة الرواية من آخر صفحاتها!
يختار الكاتب لسرد حكاياته، وحيوات أبطاله، أسلوب الرواة
المتعددين.. حيث يتنقل السرد بين أكثر من راو ـ ثمانية بالتحديد (صالح ـ الريس
ابراهيم ـ السيد مصطفى ـ الجد سالم ـ فرح ـ زينب ـ حسن ـ سالم) ـ كل منهم يحكي
بالتبادل جزء من سيرته، ورؤيته، فتتنوع الأشكال واللمحات السردية بين الشخصيات وإن
بدوا جميعا في حالة مونولوج داخلي.. ويحاول الكاتب أن يصنع أسلوبا أو لازمة مميزة
لكل شخصية، وإن تشابهت لغة الشخصيات إلا قليلا..
ـ فنجد على سبيل المثال (السيد مصطفى) يسرد حكايته غالبا
بضمير المخاطب.. ربما لأنه الشخصية الأكثر انشقاقا وتشتتا.. والأكثر مقاومة لأصله
وإرثه الذي أنكره في اتباعه لفتنة التراب! ولكن هذا الانفلات البعيد.. احتاج
لارتداد عنيف.. فيرتد مصطفى في النهاية لإرث أكبر.. لسر الخلود المتوارث منذ أجداد
الأجداد.. فيصل إلى ما يشبه حالة الوجد في انتظار الجد الأكبر الذي وعد أحفاده
بالعودة يوما ليمنحهم سر الخلود.. فربما كان هو ذات السر الذي حاول يوما والد
مصطفى أن يواجه الموت به في خلوته. فتتحول لغة مصطفى للغة صوفية في آخر فصول سرده.
ـ (حسن) ذلك المراهق الفتي العاشق.. يستخدم ضمير الأنا
في بداية الجمل معتمدا الجمل التقريرية أساسا لسرده (أنا من جلس بجوارها ليطبع
قبلة على جبينها، أنا من رأى وجهها مصفرا وجسدها يرتعش، أنا من ابتسمت له...)
ـ (زينب) تبدأ فصولها دائما بلفظة (أف) فهي المختنقة
بإحكام القدر..
ـ (فرح) تلك الملعونة بالغواية تبدأ غالبا سردها بمقاطع
مصفوفة من كلمات وجمل قصيرة منتقاة بحيث تحمل عناصر لسيرة تلك الجميلة الفاتنة
والمفتونة، كما في توارد المعاني. تزين هذه العبارات تنهدات تحمل لوعتها وحسرتها
كما يليق بروح قلقة مثلها:
"آه علي
علي آه
العواء البعيد.
آهة في الصدر. لظى الجحيم. لبابة الخبز
أنا. هم. جسدي
نشوة العناق. نهداي. حسنة في الخد. حزني. طيف الغواية
النسيان. ليتني مثلهم
بسمتي. شبق البهائم. ليتني ما كنت. عتمة اليل"
وينقسم السرد إلى عدد من الفصول يحمل كل منها اسم
الشخصية التي يروى الفصل على لسانها، وتبدأ الفصول بمفتتحات تبدو كتعليقات راو
عليم حكيم يعلم ما كان وما سيكون وبواطن الأمور.. يعلق بحكمه ومقاطعه الشعرية
أحيانا على الأحداث والأشخاص وما في النفوس.. ففي مفتتح الفصل الأول مثلا يخبرنا
ذلك العليم المجهول أن: "محال: ما مضى لا يعود" كتعليق على بداية رحلة
(صالح) الخارج من بلده التي لا يعرف اسمها.. إلى جهة يجهلها. أو يعلق على شبق
(الريس إبراهيم) وعشقه للنساء في مفتتح الفصل الثاني "لهمود الريح وقت...
لهبوبها وقت.. وللعشق كله". والمفتتحات غالبا موفقة وأعجبتني.. وأذكر منها
"ليس من شيء هباء.. فللظلمة نورها، وللشمس ظلها.. وللحزانى في صمتهم
كلام".. و"لا تحزن.. فلغدك على صفحة النهر ظل". وربما كان المفتتح
أحيانا غير موفق من الكاتب، كجملة لا تحمل حكمة أو لغة مميزة أو طزاجة، مثل
"الحب سهم طاعن.. يدمي الحبيب إذا انطلق" أو "للموت وجه، وللحياة
ألف وجه"
يشذ عن هذه القاعدة أول فصل ترويه (زينب).. الفصل ذاته
مختلف، فهو عبارة عن مقطع غنائي، بلا سرد يقع في منتصف الرواية تقريبا، وهو الفصل
الوحيد الذي لا يبدأ بمفتتح. وهو تدعيم لاختلاف زينب عن باقي الشخصيات كما ذكرت
سابقا، فزينب تفخر فيه بكونها من أبناء الرمال/ البدو، الذين يبدون أثقب رؤية،
وأكثر حرية من السقوط في فتنة التراب!
"نحن أولاد الرمل أسياد الصحراء. وحده البدوي سيدها
ملوك فيها بحريتنا. نعيش في أي مكان نشاء
نملك ولا نملك
نرحل من مرعى لمرعى وفق هوانا وهوى النهر
فالبلاد بلادنا والصحراء بيتنا
نرحل مع النجوم التي نؤمن بنبوءتها
نرحل ورزقنا حيث نذهب
نعرف أين السراب وأين نجد الماء القراح"
وربما نجد في نهايات الرواية، أن تتماهى لغة السرد ولغة
الشخصيات بلغة المفتتحات.. فلا نجد فرقا كبيرا.
ويمكن أن نرصد سمتان تميزان سرد الرواية بشكل عام
باختلاف رواتها، أولهما، تجهيل الكاتب للمكان والزمان.. لممارسة شيء من التجريد،
وتغريب النص الأدبي.. فكل ما نعرفه من الأوصاف أننا في زمان قديم، الأماكن يسهل
لنا التعرف عليها من أوصافها، دونما أن يذكر الكاتب لها اسما.. فنحن نعلم أن
الكاتب عندما يكتب كلمة (الصرح) فهو يقصد الهرم. وتمثال الأسد ذو وجه الرجل هو أبو
الهول. والنهر هو نهر النيل.
السمة الثانية هي التسامي على الواقع، فبين نبوءة وأحلام
وحكايات شعبية.. ورمزية الشيخ العجوز ذو العيون الحزينة الذي يظهر في الأحداث على
فترات.. والعرافة التي لا ترى في الودع سوى مستقبل أسود ونبوءات مشؤومة؛ فمن جلس
أمامها بابتسامة، قام بالهم والنكد! وحتى من خلال تجريد الحدث من واقعية الزمان
والمكان؛ يصطبغ السرد بصبغة روحية.. ولغة تسمو أحيانا على لغة الواقع بشاعرية أو
بمجاز أحيانا.. لتكمل الأجواء الروحية لرواية تتعامل مع أطروحات وجودية بالأساس..
وينهي الكاتب حكايات شخصياته بلا نهايات أو مصائر واضحة
قاطعة.. وإنما تنتهي بمزيد من الدوران في نفس حلقات الحياة المفرغة.. فـ (إبراهيم)
ينتهي بجوار قبر ابنته في مونولوج يحمل حزن الأعوام، ما أن ينهيه حتى يعود ويبدأه
من جديد! و(فرح) في انتظار النور.. و(زينب) تواجه انهيار يقينها بأنها من أبناء
الصحراء، ملوك حياتهم، المعصومون من غواية الدنيا، حين تراودها صور من ذاكرة بعيدة
عن طفولة عاشتها بالمدينة! و(مصطفى) ينعزل عن الناس في انتظار الجد الأكبر..
و(سالم) ما زال في انتظار عودة والده بصحبة الموت.. و(صالح) تنتهي رحلته كما بدأت
وإن تبدلت الأدوار.. و(حسن) ربما مات ولحق بحبيبته، وربما فقد عقله!! في حين لا
يشير الكاتب بأي شكل لمصير الطفل الذي أنجبته (فاطمة) من (حسن).
فيترك الكاتب الدائرة بلا إغلاق.. ويترك آلة الحكاية
دائرة.. ويترك للقارئ مساحة لمشاركته لعبة التدوير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق