2012/06/03

"نحت جديد لتمثال أسود" قصة بقلم: محمد الكامل بن زيد


نحت جديد لتمثال أسود
محمد الكامل بن زيد
الجذوة تتصاعد في غليان عظيم إلى أرنبة الأنف..ولا خلاص من الاستسلام ورفع الراية البيضاء أمام عنادها..فجل المحاولات لكبح وطرها المنقلب كيوم الميعاد باءت بالفشل..حتى كأن عطبا كاملا أصاب أباريق الماء المحفوظة في ظل قمقم الرأس.. ولم تعد تمد بالماء البارد..الوقت:صيف وخير ما يكون الماء باردا ومنعشا يكون في الصباح الباكر..يا قمقم الرأس أصبحت كما الصيداء.. وأباريقك مسها التــفاج..
تحول الوجه إلى تمثال أسود..فاتحا الذراعين عن حضن  جاف من الهواء المتعفن..فاغرا الشفاه عن مأساة مفجعة أصرت أن تتجاهلها عمدا أو كرها .. نظرات الأمل البنفسجي التي ما فتئت تزين مسارح الماضــــي التحقت بسفن الحيّل الجنائــزية
 المعلنة منذ أسبوع...
إنتصب المحظور كجبل يرفض أن ينفطر عن قاعدته.. أو كومضة ليس لها عنوان..جاءت من حيث لا تدري.. ومضة رادعة حول ما يصول بخاطرها من المساءلة.. فالسبيل أمامها تشنجت أمتار دروبه  و اختصرت على لافتة حمراء .. قف هاهنا النهاية..استوقفتها فواصل متعددة فوق عتبات العشرينيات الماضية... عمرها لم يتبق منه إلا لوحات ممنوعة من البوح عن غيابات المستقبل..ويدها اليمنى المبتورة تحاول أن تمسك بخط النجاة عبر حديثها مع أحدهم.. تحس أن به مسا من حنان نحوها..
ـ إنـهم يقولون عما قريب..
ـ إن شاء الله
تصادفنا ذات ظهيرة مسائية ممطرة..تنعمت على المدينة بقطرات شحيحة بعد جفاف شديد..هذا العام كثر الحديث عن الماء..وكثرت الشكاوي المملة حول الماء..إلقيتها وفي يدها
اليسرى دلو أســـود مهشمة أطرافــــه العلوية..تتـــمايل في
 خطواتـها كأنـها تتبادل حملا ثقيلا لكنها تبدي جهادا عنيفا في مقاومته..تستعيذ بالرحمان من عمل الشيطان تارة..  و تطلب العون و القوة والجهد تارة أخرى.. حتى إذا رأتني ابتـــسمت..مرسلة إلي إشارة مـــن طرفي جفنيها :
ـ الماء.. عما قريب.. والسكن أيضا أليس كذلك؟
و عندما تجاوزتني رأيت هرما عظيما.. قدسيا يخالط أنجم هذه السماء..يترصد بكل جميل بينها. فإذا ما أمسكه.. عانقه..بكل ما أوتي من كبرياء و شموخ.. هرما ينغرس في بـهو الأرض ليتشبث بطبقاته السبع..فهناك منبــع الأرض و الطيبة..
ـ إن شاء الله.. عما قريب..
كان مرة..دون علمها.. أخذت لها صورة فوتوغرافية..صرخة
 من براثن الجسد الحي الميت و مسكة قوية البنيان على خبز جاف.. صورة معبرة عن واقع تسلط عنوة فوق الرقـــاب..جاء التصفـــيق من كل  جانب.. الفنان  صاحــــب  الصــــورة أخذ حقـــوق العرض  كاملــة..في حين كانـت هي ساذجة.. حتى أن الصورة أخذت لها خفية ساعة ما كانت مارة بسوق زقاق بن رمضان الشعبي..لمحها الفنان..أخذ لها بورتريه بيديه ( يا له من مشهد..لقطة لا بد أن أستغلها  قبل أن تغادر المــكان )..أسرع إلى حقيبته اليدوية أخرج الكاميرا..و كان العرض.. وكان النجاح له.. وحده فقط ...جاءها الخبر عن طريق أحد الأقارب...ابتسمت ربما خجلا..لم تعلن الرفض..أجابت في همس صحراوي :
ـ أصبحت مشهورة...
أبدت هدوءا حيّـر القريب ثم ضحك لسذاجتها.. وسلم للأمر الواقع :
 ـ إنـها رائعة..حقا.. وإن شاء الله السكن.. عما قريب
تجاعيد الوجه مغلقة عن ماض رهيب..أسنان مفقودة في مثلث برمودا اليومي..الماء..الخبز.. السكن ..تحتل أفضل الأمكنة..تبحث عنها بين الجمـــوع المحتشدة .. المعانقـــة في يـــد  واحدة في سبيل الحصول على زاويــة من زوايا المثلـــث.. في  المظاهرات.. في الاضرابات..في الملتـقيات.. في الانتخابات..لا تسمع إلا صوتـها يجلجل كما الأسد يعشق عرينة.. بالروح..بالدم..يا سيدي الوالي..بالروح.. بالدم..نفديك..فقط؟؟..الماء..أوالخبز..أو السكن أعطينا..  يا سيدي الوالي..
الطوابير الطويلة تمل امتداداها إن لم تكن هي بينها..يصبح الصبر ضجرا..خاصة عـندما تسرب  منه أثــــناء رؤيتها لشخص ذا هندام نظيف.. متناسق الأعلى و الأسفل.. يحمل حقيبة يد.. تـهرول إليه مقبلة يديه..يمنة ويسرة.. يا ولدي..الله يصونك..سمعت أنـهم يعطون الديار..هل صحيح..أم لا.. لوجه الله.. قل لي نعم؟
دار البلدية مأوى ثان لها..منذ سنة...سنتين.. عشر..عشرين البيت القديم تـهدم..ارتسمت نوائب الدهر..وازدادت شراسـة..ساعية  إلى إزالة الهرم القدسي من الوجود..إلى أن تجعله كريشة حمقــــاء في مهــــب الريح..البلديـــة منذ زمـــن طويـــل لم تعلن عن قائمة المستفيدين..آخر عملية كانت سنة 1995..أحدهم رق قلبه لها فوعدها بالنظر في الأمر.. لكن هذا أحدهم.. نقل ليس فقط من منصبه بل إلى خارج الولاية..لأنه صرخ في وجه الجميع أثناء جلسة اعتيادية..دفاعا عن حقوقها و حقوق الآخرين..
في المرة السابقة لم يكن لها نصيب..لكن هذه المرة أملها كبير..
وكبير جدا..
أديم الأرض من تحت أقدامها يلعن نفسه.. الأفكار المؤرقة تعتصر الأجفن دموعا..يابسة..لامست أرنبة أنفها في امتعاض وصل حدود الجهل والكفر بما يدور حولها.. لا يهمها شيء سوى أن تصل إلى سيدي الوالي وكفى..أوتار الوعي تقترب دون جواز سفر رسمي.. لم تعد واعية بالمشاهد المتحركة   و الجامدة ..تتدفق الفوضى..تسود الجوانب ليطويها البكاء..العويل..سفن الأسئلة العطشى توغل بين حركـــات الصياح المشتعلة أمام الحواجز الحديدية..سيدي الوالي..نحن أولى بالسكن..
رجال الأمن وقفوا أمام الحواجز الحديدية..الانشداه يتصفد عرقا من جبينهم..مئات من النسوة يتقاذفن بأجسادهن نحوهم.. رجال الأمن سقطوا في متاهة سؤال واحد لا غير..ما العمل؟.. ها هنا العمة.. الأخت.. الأم.....أمواج البحر العاتية في مد وجزر.. الفنان صاحب الصورة ظهر من جديد يحمل في حقيبة يده الكاميرا سيحاول أن يستغل الظروف لالتقاط مشاهد اصدق من ذي قبل.تربص بـها.. ترصدت له.. الحبل الممتد بينهما انقطع..أسرعت إليه..رفعت الدلو الأسود المهشمة أطرافه العلوية.. وانقضت عليه كجلمود صخر حطه السيل من عل..ثارت ثائرة النسوة بثورتـها..و انقضضن على صاحب الصورة..رجال الأمن أسرعوا لنجدته.. تشابكت الأيدي و الأسلحــة..تصدحـــت في الأفق.. شهـــب  سوداء.. انطلقت رياح عنيدة  تضرب بكف عشواء..السماء خرج منها  ماء دافق..الأرض تصدعت عنها..الخفائر..وتلاقت  العيون عــبر صيحة مجهول....لقد خنقت الابتسامة..يا سيدي الوالي.. وتـهدم الهرم..البتول
        
      تمت في باب الوادي العاصمة يوم 06ماي 2000

ليست هناك تعليقات: