فى صحبة روائى غير عادى
ربيع مفتاح
عندما تجلس معه وتكون في صحبته فأنت مع شجرة وارفة
الظلال تنوء بثمارها وربما توخزك بأشواكها ،
وفي الحالتين أنت المحظوظ لأن في الثمار متعة وفي الأشواك يقظة إنها شجرة الحكي أو تل الحكايات أو محمد مستجاب ، كلها مترادفات لمعنى واحد ، رائع حقا أن يمر الإنسان في حياته بهذا الكم الكبير و المحيط الهادر من التجارب و الخبرات والأحداث المتلاحقة و المتنوعة ، وأروع من ذلك أن يحتفظ بذاكرة حافظة تستطيع أن تستدعي ما يريده وقتما شاء في تسلسل عجيب ، ممسكا بكل خيوطها في براعة يحسد عليها . والأروع من ذلك أن يبلور ما يحكي في إطار له ملامحه الخاصة وأغواره العميقة كل هذا في أسلوب عفوي تلقائي ينساب - في هارمونية انسياب النغمات الموسيقية المتواترة دون نشاز أو تباطؤ ، سمفونية الحكي هنا مكتملة الأركان سليمة البنيان
بدأت حكاية ذاك الكاتب المشاكس في ديروط الشريف ، في أسيوط بمصر في الثانية العشرين من يوليو عام 1938 ، حيث المولد و النشأة في أسرة فقيرة بالكاد تستطيع أن توفر لقمة العيش لأفرادها ، ويمكن أن نتوقع ما سوف يحدث لمن يولد في مثل هذه الظروف . وبعيدا عن التوقع لا يخفي محمد مستجاب شيئا من معاناته وحياته المضطربة ، والتي عضها الفقر بنابه ، فيحكي عن أبيه وأمه وأخوته وجيرانه من المسلمين والأقباط ، يحكي دون تحفظ من غير أن يجمل صورته مثلما يفعل بعض الأدباء ، بعد أن يصلوا إلى مدارج الشهرة وهم يظنون أن ذلك من الوجاهة الاجتماعية وحتى لا تنقص أقدارهم في عيون الناس . فهل يعيب الكاتب المسرحي العالمي آرثر ميلر أنه ظل يعمل بائعا للخبز فترة كبيرة من حياته ، أو يعيب عملاق المسرح و الشعر وليم شكسبير أنه كان يقوم بربط الخيل أمام المسرح للسادة الأمراء و الأغنياء قبل أن يصبح كاتبا عظيما ، أو يعيب المفكر الكبير عباس محمود العقاد أنه عمل ملاحظا للأنفار في بداية حياته ولم يتعلم تعليما نظاميا ؟!..
لقد استوعب مستجاب هذا الدرس وأيقن أن الصدق لا يتجزأ ، وبدايته أن يصدق الإنسان مع نفسه حتى يصدقه الأخرون . وقد مارس مستجاب أعمالا كثيرة : كاتبا عند محامي ، عاملا بسيطا في السد العالي ، موظفا بسيطا في مجمع اللغة العربية .... أعمالا عانى فيها كاتبنا الكثير و الكثير ، حياة لم تعرف الاستقرار المادي ، حتى استقر به الحال كاتباوصحفيا متفردا فيما يكتبه ، وقد تكون هذه الانكسارات هي التي جعلت صوت إبداعه متميزا ، فمن عادة الأشياء المكسورة أن تحدث صوتا دائما وقد كان الكاتب الكبير صبري موسى موفقا حين وصف مستجاب قائلا:
" أحيانا يذكرني صديقي محمد مستجاب بالسحرة - الحواة لا مؤاخذة - حين يخرج حمامة من أذنه - لا تحاول أن تبتعد بالحمامة عن المعنى الذي أقصده - ثم يضعها على كفه ويمر عليها بكفه الأخرى فتصبح بيضة ، يلقي بها أمام عينيك فإذا بها فيل بزلومة يبرطع في الساحة ساحبا خلفه ذيله القصير !
هذا الفتي العجوز أو العجوز الفتى الذي ينتمي للصعيد بالمولد ويعتبر بقية أفاليم مصر ضواحي لهذا الصعيد ، يخبئ وراء جلبابه التقليدي قلبا طفوليا طيبا جدا لكنه عامر بشقاوة الطفوله وطقوس العرافين والكهنة ومعارف الفلاحين والكتبة من كل أقاليم مصر في بحري وقبلي .
في هذه البيئة القاسية وبين هذه العائلات التي تعض بكل انيابها على عادات وتقاليد راسخة تتسم بالخشونة ولا تعرف المرونة أو التسامح ولا سيما في الأمور المقدسة لديهم كالأخذ بالثأر أو المحافظة على الشرف ، نبت مستجاب مثل عود من أعواد القصب ، طويلا شامخا ولكن بقلب بعيد كل البعد عن القسوة وملامحه وإن كان يتماهي بلكنة الصعيد وجلبابه المحافظ مع آبائه وجدوده في ديروط الشريف . لقد سمع ورأى فرحا قليلا وحزنا كثيرا ، وخبر وعانى بإحساس الفنان ومشاعر الأديب تلك الأحداث الموغلة في القسوة . وفي قصته (موقعة الجمل ) يصور انتقام أهل القرية من المدعو (الجمل ) حين أجمعوا على قتله هو وزوجته وأبنائه :
"وما جت أصوات مفزعة - وكاد الطفلان يعودان رعبا إلى الداخل - حينئذ تحركت بلطة سوداء ، تحركت بلطة سوداء صدئة ومارت في الجو ، واندفعت في سرعة إلى راس الطفل . ثم بلطة أخرى شرسة ، وانشرخ راس الطفل وسقطت قراعتها ، وبلطة ثالثة تلمع - لتتمزق رقبة الطفلة - وارتمت الرقبة - إلى الخلف - بلطة إلى أعلى وبها قماشة الفستان .
هذه المشاهد التي يختزنها الكاتب في ذاكرته ووجدانه لا تفارقه أبدا ، وإنما ينجو من بعض تأثيرها المزلزل حين يكتبها وكأنه يقوم بعملية تطهير داخلي ، لأنه يرى الأشياء ويستدعيها بإحساس الطفولة دون تفلسف أو تفسير يفسدها . إنها بكارة الرؤية ، لأنه يتعامل مع الأشياء و الأحداث وكأنه يراها لأول مرة ، وقد أضفى ذلك نوعا من الطزاجة على معظم ما يكتبه. فأنت تقبض على الرغيف السخن الذي خرج توا من الفرن ، وذلك يجعل إبداع مستجاب متميزا من حيث اللون و الطعم و الرائحة .
عندما سألوا الكاتب المسرحي الفرنسي ( هنري دي مونترلان ) عن سر نجاح مسرحياته هذا النجاح المدوى رد قائلا :
- لقد تعودت أن أقول في مسرحياتي وبصوت مرتفع تلك الأسرار التي لا يقولها الناس إلا همسا .
وهذا يتطابق إلى حد كبير مع مايفعله مستجاب في كتاباته ، إنه يقول ويحكي يقص ويبلور كل ما هو قريب منه - يكتب عما يعرف وييشعر به وله مخزون في أعماقه ، لكن حين يفعل ذلك لا يتحفظ ولا يتجمل رغم ما في أسلوبه من رشاقة وما في لغته من طزاجة وما في سرده من فنية عالية وتشويق رائع ، سواء كان الإبداع قصصيا أو روائيا أو مقاليا .
هذه الرحلة الممتدة من ديروط الشريف في أسيوط إلى قلب القاهرة ، والمترعة بكل صور المعاناة و الألم ، إمتزجت بروح صاحبها الساخرة المتهكمة ، حيث يختلط الضحك بالبكاء والمعاناة بالفكاهة ، إنه التنكيت و التبكيت في آن لا تستطيع أن تفصل بينهما ، يصف الناقد الكبير ( إبراهيم فتحي ) هذا الضحك الممزوج بالألم فيقول " يبدو الضحك الساخر علاقة جمالية بالواقع ، ووسيلة خاصة لرؤيته ولبناء صورة حية للشخصيات ولخلق حبكات مبتكرة واستنبات فروع جديدة إلى الأنواع الأدبية من قصة ورواية " .
وهذا الضحك لا يجلجل مدويا في صخب يقرع الآذان ، ولا يملؤنا فرحا ، ولا ينهي توتراتنا من تناقضات الواقع بانفراجه للتنفيث كي يحافظ على الأوضاع و القيم الراهنة . ومعظم إبداعات محمد مستجاب تعتمد على هذه الثلاثية المتناغمة وهي :
الذكاء و الألم و السخرية .
ذلك الذكاء الفطري البري المتوحش ، الذي يصل في تحليل الأحداث و الظواهر إلى جذورها الأولى - إلى بدايات التكوين ، يساعده على ذلك امتلاكه لغة مخترقة وإحساسا عبقريا بكل ما يحيط به ، لا يستسلم لمقولات الآخرين ، فلديه معمل بسيط التكوين لكنه قادر على الفحص والدراسة و المقارنة و التحليل و الاستنباط ، ولا تملك إلا أن تندهش حين يمسك بفراشات الفكر ليطوعها ويبلورها ويفاجئك بها ، أما الألم فهو عنصر جوهري في تكوين أديبنا هذا الكاتب المشاكس ، كما النار التي تحرق الذهب فتزيده لمعانا وبريقا ، الألم الذي يصقل ويهذب ويعلم ، ومع ذلك لم يخلق فيه إحساسا بالنقص ، بل ولد لديه شعورا بالتحدي و المقاومة وهذا ما يجعله لا يفرح كثيرا عندما تأتيه الغنائم ، ولا يحزن أبدا لفقدها ، فالأهم عنده أن يحيا بكل ما في الكلمة من معنى ، يستمتع بالمكان و الزمان و الأحداث ، يتأمل الناس و البحار و الجبال ، ويتذوق الفن والفكر و الموسيقى ، يعشق الجمال و الماء و الهواء ، يقدس الحب و الصداقة و العمل أما السلاح الذي يخفيه وراء ظهره فهو السخرية ؛ فهو يستطيع أن يحول حتى الحاديث العادي إلى مادة صالحة للتهكم و السخرية - إنها مقدرة فذة لا يتمتع بها سوى القليل ، إن ندرة هذا الأسلوب في أدبنا العربي يجعل من مستجاب فارسا لا يباري في هذا المجال حتى إنه فعل ذلك وهو يقدم لنا (مستجاب الثالث) ومستجاب الرابع ، ( وآل مستجاب جميعا ).
وقد قال لي الكاتب ذات مرة إن هناك بعضا من أهله قد أشتد بهم الغضب بسبب ما يكتبه عنهم في قصصه ورواياته التي تفصح عن كل شئ من أول العنوان .
فقد جعل الكاتب من قيام وانهيار آل مستجاب قياما وانهيارا للكون الفني و العالم الواقعي سواء بسواء في أدق مظاهره وأهم عناصره .
عالم مستجاب الروائي
إن ملكة التخيل عند الكاتب هي التي تفجر الإبداع ؛ لأنها في الوقت نفسه تلملم أشلاء الواقع في أطر وأنساق فنية ، ولا يوجد إبداع دون تفاعل الخيال مع الواقع ، أما عن الواقع الذي كابده وعايشه مستجاب فإنه من الثراء و التنوع في مفرداته وعناصره إلى الدرجة التي تكفي لخلق عوالم إنسانية لا حد لها ، فإذا علمنا أن صاحبها متفجر الخيال يفيض بالعاطفة و الحس الإنساني ، لعرفنا إلى أي حد تمتد قدراته الإبداعية . فهو ينفخ من روحه وفكره في هذا الواقع ، ويبلوره في صدور و اشكال أقرب إلى الأساطير حتى يتعذر على القارئ أن يفصل بين ما هو حقيقي وما هو خيالي ، وعملية الدمج هذه تتم من خلال فنية عالية تتسم بالصدق و التلقائية ، ويزيدها جمالا تلك اللغة الشفيفة الشاعرة التي لا تكتنز ولا تترهل ، فالمبني على قدر المعنى ، وقد ظهر ذلك جليا في مجموعاته القصصية : ديروط الشريف ، قيام وانهيار آل مستجاب ، الحزن يميل للمازحة ، كما ظهر في روايته " من التاريخ السري لنعمان عبد الحافظ " " إنه الرابع من آل مستجاب " بل ومن خلال مقالاته في الصحف و الدوريات : حرق الدم ، بوابة جبر الخاطر ، زهر الفول ، نبش الغراب .
خاتمة
عندما أعترض أحد مديري الفنادق الفخمة على وجود محمد مستجاب لأنه يرتدي الجلباب الصعيدي دائما في صالة الطعام ، عندئذ هاج مستجاب وغضب وأصر على مغادرة الفندق . ساعتها تراجع مدير الفندق واعتذر ، واستمر مستجاب يتجول داخل وخارج الفندق وهو يرتدي هذا الزي التراثي . ورغم أنه - أحيانا - لا تؤمن عواقبه فإنه كان يمتلك وجدان الفنان المرهف ، وعقل المفكر العميق ، وقلب طفل لا يخلو من البراءة