(القصة الفائزة بالمركز الثالث بمسابقة إحسان عبدالقدوس)
محمد نجيب مطر
التهبت
الأجواء في القاهرة فوق حرارتها العالية في هذا الوقت من العام، توترت النفوس فكل التوقعات
مفتوحة، خلت الشوارع من الناس وسط المدينة المزدحمة، وهكذا بدت معظم المدن والقرى،
فلقد بدأت المباراة الفاصلة بين الفريقين الأحمر والأبيض، وكأنها معركة حقيقية حامية
الوطيس، في إحدى الهجمات القليلة للفريق الأبيض حاول مدافع الأحمر إرجاع الكرة إلى
حارس المرمى الذي كان متقدماً على غير العادة، فسكنت الكرة الشباك معلنة الهدف
الأول للفريق الأبيض، في الشوط الثاني ومنذ الدقيقة الأولى بادر الفريق الأحمر بالهجوم
بجميع خطوطه لتحقيق التعادل وكان قاب قوسين أو أدنى، لكن الأبيض نجح من خلال هجمة
مرتدة شك الجميع بأنها تسلل في تسجيل هدف ثاني وسط ذهول المتفرجين واللاعبين، هاجت
جماهير الأحمر في المدرجات وقامت بتكسير المقاعد وأضرمت النيران فيها، ونزلت إلى
أرض الملعب، وتوقع الجميع نهاية الأمور عند هذا الحد ولكن العنف استمر لبعض الوقت
خارج الاستاد تحطمت على إثره بعض السيارات الخاصة بالفريق الأبيض وقامت الشرطة بفض
هذه المناوشات وتفرقت الجماهير الغفيرة وهي غاضبة من فريقها ومن الحكم ومن
المسئولين في النادي.
كان العقيد جالساً في مكتبه بوزارة الداخلية في
مباحث أمن الدولة يراجع بعض الأوراق الرسمية الموجودة على مكتبه، حينما رن جرس
الهاتف، وهناك على الطرف الآخر كان الضابط المناوب بالوزارة يخبره أن هناك مظاهرات
جماهيرية صاخبة اندلعت بعد نهاية المباراة في أحياء القاهرة والاسكندرية ومعظم
محافظات الجمهورية تقريباً، وأن تلك المظاهرات تخرب وتحرق وتدمر المنشآت
والممتلكات بصورة عنيفة ومستمرة وفوضوية.
اصطفت أمام العقيد كل التقارير التي تم تجميعها
من المحققين ولجنة من علماء النفس، وكذلك التقارير الأمنية الخاصة بتلك الليلة العصيبة،
توقفت عيناه على ملاحظة كتبها مراقب الأمن على جانب ورقة تشير إلى محاولة طاقم
النقل الخارجي للتلفزيون تغيير مواقع هوائي الارسال لتلافي إشارة غريبة ومكتوب رقم
ترددها وزاوية اتجاه الهوائي، جذبته تلك الملحوظة التي لم يعر لها اهتماماً من قبل
وكأن فكرة ما بدأت تختمر في رأسه، ربما تكون فكرة جنونية وغير معقولة، هل يمكن
لإشارة دخيلة يتم ادماجها داخل إشارة التلفزيون أن تسبب كل تلك المشاكل وتقوم
بالتحريض أو استفزاز الجماهير، وعند سؤاله مهندس وحدة النقل التلفزيوني أفاد بأنه
كانت هناك بالفعل شوشرة على الإشارة وكان يحاول إزالتها قبل بداية المباراة،
وعندما فشل في ذلك تغاضى عنها لأنها لا تعوق ارسال الإشارة، و لا تؤثر كثيراً على
جودة الصورة وأفاد بأن الشوشرة قد تأتي من تشغيل أي أجهزة كهربية، وأنها من خارج
الاستاد لأنه شاهد الاشارة على راسم الموجات قبل ارسالها من الاستاد ولم تكن بها
شوشرة، وعندما سأله عن إمكانية رؤية إشارة الشوشرة على هيئة صورة أجابه بأن ذلك ممكن
من خلال أجهزة خاصة، اتصل العقيد بالمسئولين بمبنى الإذاعة والتلفزيون، فقاموا
بعملية مونتاج بقص تلك الإشارات الدخيلة في منطقة الإظلام وعزلها بمفردها ثم زيادة
زمنها وتعديلها ثم لصقها في المنطقة المرئية من الصورة في خطوط متتالية وفي صور
متتالية، ثم قام بتسجيل الإشارة على شريط وعرضها.
صرخ العميد صرخة مكتومة
مما رأى، رأى صوراً لنيران مشتعلة متأججة، ورأى أشياء مهشمة وصور دماء وقتلى
وجماجم محروقة بطريقة بشعة تثير الاشمئزاز في النفوس، كما رأى صوراً لمخلوقات
سوداء مرعبة يمكن أن تكون صور لشياطين خرجوا لتوهم من جهنم.
استدعى العميد
أحد العلماء وحدثه عن ظاهرة التأثير على العقل الباطن فأخبره العالم بأن تلك
الظاهرة تسمى في العلم الحديث بظاهرة الإدراك الخفي، أي الإدراك بالعقل الباطن أو
العقل اللاواعي، بمعنى أنك لو تعرضت لصور تدور بسرعة عالية لدرجة لا تتمكن معها من
رؤيتها، لأنها تعرض في وقت قصير جداً، وبالتالي لن يتم نقلها إلى العقل الواعي،
لكن العقل الباطن يستقبلها ويحللها ويتأثر بها ويؤثر بها على الفرد بصورة أكبر من
تأثير العقل الواعي، وأخبره أن العلماء أدركوا هذه الظاهرة بعد الحرب العالمية
الثانية، وبناء على ذلك صمم أحد العلماء جهازاً خاصاً ساعد الكثير من المتاجر في
الولايات المتحدة الأمريكية وكندا على التخلص من مشكلة كبيرة وهي مشكلة السرقة و
النشل التي تحدث للبضائع على الرفوف، وكان هذا الجهاز يذيع موسيقى هادئة كلاسيكية
ولكنها تصدر في نفس الوقت رسائل صوتية غير مسموعة (سرعتها عالية جداً) تحث الناس
على الفضيلة مثل (أنا رجل أمين – أنا لا أسرق ولا أنشل) وبعد إحصاء دقيق تبين أن
السرقات انخفضت بصورة كبيرة وبنسبة لم يسبق لها مثيل، وبعد إثبات هذه الحقيقة
استخدمت هذه التقنية في السجون الغربية لإعادة تأهيل المساجين حتى خففت كثيراً من
المعارك والمشاحنات الدموية بين المساجين، ولما سأله العميد عن امكانية استخدام
هذه الطريقة في التحريض على أعمال الشر، أجابه أن هذه الطريقة تعتبر خطيرة جداً
حيث يمكن استعمالها كسلاح تدمير للعقول والقناعات، ولذلك ينصح الخبراء بعدم
الاستماع لإذاعات العدو وخصوصاً في فترة الحروب لأنها ربما تستخدم هذه الطريقة
لإشاعة روح اليأس والإحباط في نفس الشعب المقاوم، وأضاف أننا نتعرض لآلاف الرسائل
الخفية يومياً، إنها تأتينا من كل صوب وحدب، في التلفزيون وربما خلال المسلسلات
الأجنبية، وتعمل هذه الرسائل على برمجة قناعاتنا لصالح جهات معينة ربما تكون
سياسية أو أديية أو أخلاقية أو تجارية دون أي شعور منا بذلك.
قدم العميد طلباً لمقابلة الوزير
وقدم له شرحا مقتضباً عن القضية وقال له إننا نتعرض لقوى قد تكون غير مرئية ولكنها
تؤثر فينا رغم أننا قد لا نؤمن بها، فوضع بعض الاشارات السريعة في صورة التلفزيون
قد ينتهي إلى كارثة لا يمكن تداركها، وشرح ملابسات القضية وعرض بعض الصور التي
تؤيد كلامه، وبعدها قال الوزير له أن التعليمات الجديدة الخاصة بتلك القضية ستصله
في الأيام القادمة.
وصلت الأوامر الجديدة بنقل العقيد إلى ميناء سفاجا وإلى نقل القضية إلى
جهاز المخابرات، أخذ العقيد يبحث عن مخرج منطقي يقنعه بما حدث ويحدث له، وبينما هو
مستغرق بالأفكار قطع صمته نقر على الباب تبعه دخول أحد المجندين من الأمن المركزي
المنقولين وأنه يريد تسليم أوراق وصوله، عرف العقيد منه أنه منقول من عمله
لمعاقبته على التساهل مع المتظاهرين يوم المباراة اللعينة، وعلم منه أن الشرطة
كانت تعلم باندلاع المظاهرات قبلها بيومين، وأنهم انتشروا في جميع ربوع مصر من أجل
إخماد المظاهرة المتوقعة، بعدها بيومين قابل أحد المسافرين من الذين اشتبه الأمن
في هويتهم فأحضروه إليه ليفصل في أمره، ولما تحدث معه عرف أنه من العاملين في التلفزيون
وأخبره أن الشوشرة قادمة من جهاز موضوع داخل مبنى التلفزيون وأن هذا الجهاز كان
على وضع عدم التشغيل قبل المباراة ثم تغير إلى وضع التشغيل فقط أثناء المباراة وتم
تعطيله بعدها، ها هي الحقائق تسعى إليه تترى، ولو بذل كل جهده من قبل ما كان ليحصل
على تلك المعلومات وبناء على ذلك لابد أن هناك كارثة تدبر لهذه الأمة.
اتصل العقيد بمهندس التلفزيون وسأله العميد أن يلتقط له اسم الجهاز الحديث
الموضوع في غرفة المراقبة الرئيسية والذي يقوم بتحسين الصورة وأن ينقل المعلومات
المكتوبة على الملصق الخاص به، فأخبره المهندس أن اسم الجهاز هو(تاتشيستوسكوب)، فاكتفى العقيد بالاسم وشكره وبدأ في البحث على شبكة الانترنت عن المعنى
وراء هذا الاسم فوجده أنه جهاز يشبه جهاز العرض السينمائي يعمل على إظهار صور بسرعات متفاوته، و
يدرس العلماء ردود أفعال الأشخاص خلال رؤيتهم لهذه الصور التي تعرض عليهم بسرعات
مختلفة، لكن الأمر الذي أدهش العلماء هو أن الأشخاص تفاعلوا معها لا إرادياً، وأن الجهاز من
إنتاج المصانع الإسرائيلية، لأنه رأى نجمة داوود مطبوعة بالضغط على الغطاء المعدني
الأخير.
الموضوع فيه
إسرائيل وتعلمه الحكومة، وماذا يقصدون من إثارة الناس ودفعهم إلى العنف أحياناً؟
ولماذا يتم اختيار أوقات محددة لفعل هذا؟ هل الناس في مصر مغيبون عن الواقع؟
أيتعرضون لرسائل تدفعهم إلى الهدوء والسكينة مهما فعل بهم النظام، ومدفوعون للاحتجاج
في أوقات معينة أحياناً لأغراض لا يعلمها إلا الله؟ من الذي يتلاعب بعواطف وأعصاب
المصريين؟ ولماذا؟.
اتصل العميد
بالمهندس وأخبره أنه يريده في مهمة تخص أمن الدولة، وأخبره أن جهاز تاتشيستوسكوب الذي سأله
عنه مهم جداً لأنه ينقل كل الأخبار إلى رئاسة الجمهورية، وأخبره أن هذا الأمر في
منتهى السرية، ولأن هناك من يعبث بمفاتيحه فإنه يريد منه أن يتحين فرصة ويقوم
بمفرده ودون أن يدري أحد بفتح الجهاز ولحام أطراف المفتاح من الداخل على الوضع (عدم
التشغيلOFF)، بحيث يستمر على نفس الوضع حتى لو قام أحد بتغيير المفتاح من
الخارج إلى وضع التشغيل ON.
كانت الحركات
الاحتجاجية والفئوية قد أفسحت الطريق إلى حالة من الاحتقان بدأت تظهر في النقد
اللاذع لتصرفات الحكومة والوزارات، وفي منتهى الغباء قدم النظام الشرارة في
التزوير الفاضح والواضح للانتخابات، وتسريع خطوات التوريث التي استفزت كل طوائف
الشعب.
كان مندوب أمن الدولة في التلفزيون قد تلقى أوامر صارمة من رؤسائه في
الداخلية أن يتأكد من أن جهاز تاتشيستوسكوب على
وضع عدم التشغيل لأنهم رصدوا زيادة في التعبير عن الغضب في الشارع المصري، فأبلغهم
أن الجهاز على الوضع المطلوب، ليبدأ الشعب المصري في تحويل الغضب إلى دعوات على
مواقع التواصل الاجتماعي الفيس بوك والتويتر للإعداد ليوم الغضب يوم الخامس
والعشرين من شهر يناير، ولتخرج المظاهرات لتنفض عن كاهل هذا الشعب غضباً تم كبته
لسنوات طوال، وليعرف الشعب قيمة وحدته وترابطه، وبرغم إنهاء المظاهرات في الساعات
الأولى من صباح اليوم التالي إلا أن تلك الجذوة لم تنطفئ بل استمرت إلى جمعة
الغضب.
في يوم جمعة الغضب نجحت الجماهير في الوصول لميدان التحرير بأعداد كثيفة،
وفشلت الشرطة في التعامل مع تلك الحشود الجبارة وانتهى الأمر بنزول الجيش، فأمر
وزير الداخلية قراراً بسحب قوات الشرطة، وفتح السجون وإطلاق المجرمين ليعيثوا في
الأرض فساداً وليدفع المصريين ثمناً غالياً لثورتهم من الدم والرعب والخوف، وقام
الأمن بتشغيل جهاز التحكم في الأعصاب بهدف زيادة هياج الثوار ودفعهم لارتكاب أعمال
انتقامية وعدوانية لوصم الثورة بالوحشية والغوغائية.
بعدها
بأيام صدرت الأوامر إلى فريق أمن الدولة في التلفزيون بفصل جهاز التحكم في الأعصاب
(تاتشيستوسكوب)، والخروج به من المبنى، دخل الفريق غرفة المراقبة الرئيسية وكان مهندس
النقل الخارجي موجوداً فانطلقوا إلى هدفهم دون استئذان، ولما رآهم يقومون بفك
الجهاز شك في الأمر فاتصل بالعقيد وأخبره بالقصة، فطلب منه أن يحاول تعطيلهم قدر
الامكان، وبعد أن قاموا بفك الجهاز حاولوا الخروج به، اعترضهم المهندس على أساس أن
الوحدة عهدة ولا يمكن خروجها إلا بأمر من رئيس القسم، ولما رفضوا حاول منعهم
بالقوة، وعندما قاموا بدفعه من طريقهم، استغاث المهندس بزملائه فتجمعوا فأخرج أحد
أفراد أمن الدولة سلاحه وأطلق رصاصة تحذيرية لارهابهم، ورغم ذلك هجم المهندس عليهم
لاستخلاص الجهاز من بين أيديهم، فأصابته رصاصة في بطنه سقط على إثرها على الأرض
مضرجاً في دمائه، فانطلق الباقون يحاولون الامساك بهم، وبعد مطاردة مريرة في
الممرات والأدوار والاستديوهات المختلفة استطاع أفراد أمن الدولة في النهاية
الهرب، وعند وصولهم إلى بوابة الخروج ارتابت قوات الشرطة العسكرية في الجهاز الذي
يحاولون إخراجه من المبنى ولكنهم أظهروا لهم أوراقاً تبين أنهم في مهمة رسمية،
لهذا تركتهم قوات الشرطة العسكرية يمضون في حال سبيلهم، بعدها وصل العاملون إلى
البوابة وقام مهندس النقل الخارجي الجريح بإخبار الشرطة العسكرية بالأمر وطلب منهم
الخروج من المبنى والقبض عليهم، فلم تستجب له بحجة أنها لا يمكن أن تترك أماكنها
في حراسة المبنى، وقاموا باستدعاء سيارة الاسعاف له، لكن العاملين انطلقوا يبحثون
وسط الزحام عن أفراد أمن الدولة، وكان المبنى محاطاً بعدد كبير من المواطنين
فلمحهم أحدهم وهم يحاولون ركوب قارب على ضفة النيل المواجه لمبنى الإذاعة
والتلفزيون، فصاح بصوت جهير سمعه الحضور أمام المبنى : أمسكوا بأمن الدولة الذين
يحملون الجهاز، إنهم يحاولون إتلاف الأدلة، إنهم يحاولون إجهاض الثورة، وانطلق
يجري في اتجاههم وانطلقت الجماهير في إثره تتبعه ولحقوا بهم سباحة بعد أن ابتعد
القارب بعض الأمتار في النهر، ثم سحبوهم إلى الشاطئ بعد أن أوسعوهم ضرباً ، لكن
الجماهير التي تجمعت أمام المشهد هتفت في صوت جماعي ... سلمية ... سلمية .. وكأنها
كلمة سر أصابت الجميع بالتعقل والحكمة ... فرفعوا أيديهم عن أفراد أمن الدولة
وسلموهم مع الجهاز إلى أفراد الشرطة العسكرية المتواجدة أمام المبنى، وبعد أن قامت
الشرطة العسكرية بالتحقيق في الواقعة وسماع الشهود واستدعاء العقيد لسماع إفادته
أحالتهم إلى النيابة العسكرية بتهمة تكدير الأمن العام بالتواطؤ مع النظام السابق،
واصطناع المشكلات التي تضر بأمن ومصلحة الوطن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق