2013/10/27

الموت حياً ... قصة: محمد نجيب مطر

الموت حياً
محمد نجيب مطر
عاد من السفر بعد مدة طويلة، استقبله أولاده بالترحاب واستقبلوا شنطة السفر المليئة بالهدايا بالأحضان، وعندما أخبرهم بأن عودته نهائية لأنه بلغ سن المعاش، قل ترحابهم وذهب فرحهم، بدل ملابسه ودخل لأخذ قسط من الراحة فلم يمهلوه، سألوه أين مدخراته فأخبرهم، سألوه عن العقارات التي يملكها فدلهم، تركوه لينام بعد أن سجلوا كل شئ.
استيقظ في كفنه وسمع صوت الدفان ينظف المقبرة ويضع فيها بعض الرمل، نادى على الدفان أن يفتح له الكفن المربوط من قمته ومن أسفله، رد عليه الدفان :
الدفان : ماذا تريد؟
الرجل : أريد الخروج من الكفن، افتحه لي.
الدفان : لن أفتحه إلا بعد ان أضعك في القبر وبعدها أغلق باب المقبرة.
الرجل : ولكني عطشان ... أريد ماء.
الدفان : انت تكذب ... فالأموات لا يعطشون..
الرجل : ولكني حي ... لست بميت ..
الدفان : وما الدليل؟
الرجل : إني أتكلم ... والموتى لا يتكلمون..
الدفان : كفى ثرثرة ... الموتى أكثر الناس كلاماً ... كل الذين دفنتهم من جيرانك تكلموا معي كثيراً وادعوا أنهم أحياء.
الرجل : أيوجد أحد من أقاربي أحدثه ..
الدفان : زوج ابنتك في الخارج، وأولادك وبناتك لم يتحملوا الصدمة ولم يستطيعوا البقاء لرؤيتك وأنت تقبر فذهبوا.
الرجل : احضره حالاً ... لأني أريد محادثته ...
زوج الابنة : ماذا تريد أيها الدفان، ألم تنتهي من مهمتك حتى الآن؟
الرجل : يا ولدي .. أنا حماك ... أنا حي أرزق يا ولدي، فك عني الكفن لكي أخرج.
زوج الابنة : كيف تقول ذلك والأجهزة الطبية قررت أنك ميت.
الرجل : ولكني اتحدث إليك... فأنا حي ..
زوج الابنة : هل تريدني أن أصدقك وأكذب الكمبيوتر الطبي ...
الرجل : الكمبيوتر جهاز الكتروني معرض للخطأ ...
زوج الابنة : والحكومة أيضاً على خطأ ... هي نفسها أعطتنا تصريح بالدفن بعد الكشف عليك ... هل نكذب الحكومة أيضاً ونصدقك أنت .
الرجل : يا ولدي أنا أتحدث إليك ... ألا تسمعني ؟؟؟
زوج الابنة : لقد قضي الأمر واتفقت الدولة وأجهزتها الطبية على أنك ميت، الموضوع انتهى و لا فائدة ترجى من الحديث الآن.
الرجل : ألا تتذكر ما قمت به تجاهك أنت وزوجتك وأولادك ؟؟
زوج الابنة : أتذكر أيضاً أنك رفضت ان تشتري لنا الشقة الجديدة التي اخترناها في الساحل الشمالي .
الرجل : لو اشتريت لكم شقة كان من الواجب أن أشترى للجميع حتى أكون عادلاً.
زوج الابنة : عن أي عدل تتحدث وقد أعطيت أولادك الذكور كل شئ ولم تترك للبنات سوى القدر اليسير.
الرجل : الرجل له في الميراث ضعف الأنثى.
زوج الابنة : الآن ... ماذا تريد ... لقد أصابتك أزمة قلبية ... وقمنا بنقلك للمستشفى المتخصصة في أمراض القلب وقد أخبرونا أنك ميت بالفعل منذ دقائق، رسم القلب أكد ذلك، ولنتأكد مرة أخرى أمرناهم بعمل رسم للمخ فأيد النتيجة، لابد أنك ميت وأنت لا تدري ؟؟ ثم أخبرني .. ماذا تريد من الحياة ... لقد عشتها بحلوها ومرها .. وموتك اليوم أفضل من الغد، أنت تموت بصحتك، لن تحتاج إلى أحد حتى يساعدك في الدخول إلى الحمام، و لا أن يطعمك ويعطيك الدواء، و لا يتأفف من إزالة مخلفاتك .. الموت اليوم أفضل بكثير من الغد .. فتوكل على الله وارض بنصيبك.
الرجل : هل جننت ... ربي هو الذي يحدد موعد موتي ولست أنت و لا الحكومة..
زوج الابنة : أنت رجل شديد التمسك برأيك حتى لو كان باطلاً ... ماذا تفيدك الأيام المتبقية، لقد تزوجت وأنجبت البنات والبنين، جمعت الأموال من هنا وهناك وسافرت ورأيت الدنيا كلها، أنت في الوقت الحالي أصبحت عبئاً على من حولك، المال الذي جمعته سوف تصرفه على المستشفيات والأطباء والدواء، الآن أنت عنصر سلبي يأخذ و لا يعطي، وستسبب الألم لكل الذين يحبونك، وستبعثر أموالك و لا يتبقى شئ للورثة وفي النهاية ستموت... فلماذا الانتظار توكل على الله وسندعوا لك الله بالجنة.
كان الدفان يسمع الحديث وهو غير مهتم بما يدور، مستمر في عمله، ولما انتهى منه، وقف قائلاً:
الدفان : هل سندفن الآن يا باشا ؟
زوج الابنة : نعم توكل على الله .
تحرك الرجل في كفنه واستطاع الخروج منه عارياً ولف الكفن حول خصره وقال :
الرجل : أخرجوا أيها الكلاب من مقبرتي التي بنيتها بأموالي لي ولكم، لن أدخل القبر حياً.
تقدم الدفان نحوه بإشارة من زوج البنت، وضربه بالقدوم الذي فتح باب المقبرة به على رأسه، فسقط غارقاً في دمه، لفوه في كفنه بسرعة وأدخلوه إلى قبره، وأغلقوا بابها، وخرجوا يتلقون العزاء ويسكبون الدموع على فقيدهم الغالي.