بين موت وموت
بقلم: هدير زهدي
كانت تبكي
في مخدعها ليلة عرسها، ولا أحد يعلم بالسر سواها ..
والفستان الأبيض منبسط على الفراش في انتظار ملامسة
جسدها الرشيق .. وأدوات التجميل أمام المرآة متراصة، في تأهب لتلوين وجه العروس ..
تتزاحم من حولها أصوات الزغاريد والأبواق والأعيرة النارية العشوائية القادمة من
النافذة، تصنع حولها ضجة يكون فيها النحيب غير مسموع ..
وبالخارج صفقات ورقصات وتبريكات تتبادل بين المدعوات من
النساء، وزهور تتقاذف من الشرفات على رجالات العائلة في البهو السفلي، وهنالك
المزامير تعزف والخيول ترقص، والمصابيح الملونة تحيط بأركان الدوار فتصنع هالة
كثيفة من الأضواء والترانيم، تخبر أصحاب الدور المترامية على مدى البصر بأن في دار
شيخ البلد ليلة عرس متوجة بالأنين !
وبين نحيب
الحزينة تشتد الطلقات النارية وتعلو الزغاريد وتتسابق الى المسامع، ويهلل الأقارب
باسم العروس أن اسرعي فقد وصل العريس!
وخلف باب الغرفة صدر يكاد من فرط الصعود والهبوط أن
يتمزق، وأنفاس وشهقات تتلاحق، وصرخات مكتومة تفتك بالروح العالقة بين محبوب سماوي
وزوج أرضي!
وتهرع إلى النافذة وترسل طرف عينها، تفتش بين الرجال عمن
تطيب نفسها لرؤيته .. فلعله جاء ليرتشف آخر نظرة وداع أرضية ثم يحلقا معا بين سحب
الأحلام .. ولم تجد العين الباكية أثرا لطلته المرجوة .. فهبطت من آمالها إلى وجه
الزوج المنتظَر، ويحيطه زينة الشبان..
وبينما هي شاردة في مصيرها المكتوب بين ملامحه، تنتبه
إلى ما تخفيه في جيبها ..
زجاجة صغيرة تستطيع تغيير كل الترتيبات البشرية، جَرعة
واحدة تنهي كل شيء وتضع حدا لكل الآلام الروحية ..تتحسسها بأناملها وتخاطب أطياف
الأفكار المتعاركة من حولها ..
لِـمَ تشاء
الأقدار دائما ما لا تهوى الأنفس ولا تشتهي؟! ثم تتمرد الروح على شرائع السماء وترغب
في اعلان العصيان وانهاء الحياة! .. كم شخص في هذا الجمع حمل إليه الدهر ما لا
ترضاه نفسه؟ كم ابتسامة كاذبة تخفي بين ثناياها المتملقة للحياة روحا ساخطة على
دنياها؟! .. إلى متى تكون السعادة مأمل غير منال ؟!
لا شك أن الدنيا مليئة بالساخطين، ولو كانت تلك الزجاجة
حلا لانتهى العالم .. يا إلهي كيف أختار بين موت وموت! كيف أقبل أن يدفن جسدي في
قبر الواقع وتحلق روحي المتمردة في أفق الآمال المستحيلة!
وتقبض
الحقيقة كفوفها على جسد الفتاة ..
وتقف في مواجهة فستانها المرصع بالفضيات، تكفكف به
دموعها وتربت على قلبها المتوجع .. ثم تستسلم إلى رغبات القدر ..
وعلى باب الغرفة طَرقات متلاحقة تصاحبها صيحات السرور،
وفتحت العروس وقد تزين قوامها برداء العرس، وأقبلت الصبايا الفاتنات مهللين
والتففن حولها في غبطة دون وعي بما يحترق داخل صدر المتظاهرة بالابتسام ..
وظلت خاضعة
..
ورباط الواقع يشتد بقسوة على عنقها حتى صعدت الروح إلى
عالم الأحلام .. وخرج الجسد من المخدع في معية الفتايات ،
والمرآة تعكس نهاية الحكاية في ملابسها القديمة ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق