لم تصنع نفسك .. لكنك تستطيع!
فـؤاد قـنـديـل
طبعا لا أنا ولا أنت كان لنا الفضل في صنع أنفسنا ولا رسم ملامحنا النفسية والفكرية والعصبية.. لا أنا ولا أنت كانت لنا اليد الطولي والكلمة الأولي في اختيار طباعنا وأخلاقنا
لأننا ورثنا الكثير جدا مما نحن عليه.. أنت لم تختر شكلك المادي.. ولا طولك وعرضك, ولا لون بشرتك, وكذلك لون عينيك وشعرك, ودرجة تحملك للأمراض ومدي إقبالك علي الاندماج في الجماعة المحيطة. أنت تسلمت تركة كاملة من الإمكانات والمعالم الداخلية والخارجية والأدوات غير القابلة للحصر, وبدأت التعامل معها وبها مثل أوراق اللعب علي مائدة الحياة وفي إطار توجيهات العائلة والمجتمع التي ربما تساعدك علي استثمار طاقاتك أو تكبيلها فيضيق معها أفق الرؤية للمستقبل . أنت ـ كما هو معروف ـ ورثت عن والديك وعائلتك دينك ووطنك وهم اختاروا لك اسمك, ولم تكن لديك أية فرصة مهما كانت ضئيلة لتبدي رأيك فيما ورثت, وربما لا يعلم الكثيرون أن طباعنا مثل الإرادة والصبر والطموح أو الخمول والكرم والرضا والنخوة والشجاعة أو البخل والكسل والجبن في الأغلب موروثة عن الآباء والأجداد بدرجات متباينة. تدلنا تجارب الحياة مع ما سجله علماء الوراثة من اختيارات وملاحظات علي أن كثيرا من طبائع الإنسان موروثة وبعضها تمت صياغته عبر آليات وأساليب التربية وثقافة الأهل وحسب ظروف المعيشة والحراك الاجتماعي, ولعل هذا التأثير الثقافي والاجتماعي يعد أيضا نوعا من الوراثة ليس بالمعني البيولوجي أي عبر جينات خلقية ولكن بالمعني الثقافي, وهي وراثة لأن دور الفرد فيها غائب أو شبه غائب .
إن شقيقين ولدا لأسرة فقيرة اضطرت ظروف معينة لانتقال احدهما وهو في سن صغيرة للعيش مع أسرة ثرية ومثقفة سوف يختلفان بعد عدة سنوات بسبب المناخ.وأحسب أن الكثيرين من البسطاء يعرفون ذلك فقد عالجت السينما والأدب هذه القضية من عدة أوجه .. صَبيان شقيقان افترقا لأية أسباب وعاش كل منهما مع أسرة تختلف عن الأخري تماما في المستوي الثقافي والاجتماعي والمالي . قد يكبر من توفرت له كل الإمكانات المتحضرة فيصبح عالما أو طبيبا أو مهندسا شهيرا ويكبر الثاني فإذا هو مجرم أو سائق أو عامل أو عاطل أو قاتل أو مدمن.
نحن إذن نتاج مجموعة مشتركة من العوامل هي الطبيعة والحياة والظروف والحظوظ التي يحلو للبعض تسميتها بالقدر والبعض الآخر يسميها حظا, ونقصد بها تلك الحالات المتباينة من الحراك الشخصي الذي يصعد بأناس إلي مكانة أعلي من قدراتهم ويهبط بآخرين رغم ملكاتهم, ودورنا في الأغلب محدود ويتباين من شخص إلي آخر حسب تمتعه بالارادة والهمة..
أقول هذا لأننا بحاجة ماسة إلي قدر غير قليل من التسامح ومحاولة فهم الآخر وتقبله علي ما هو عليه, لأنه لم يخلق نفسه, فاللص ليس دائما هو من دفع نفسه لذلك ولا المرتشي أو القاسي أو العربيد أو ناكر الجميل أو الحاقد. كما أن الديكتاتور المستبد أيا كانت مسئولياته ومكانته لم يرد في الأغلب أن يكون كذلك, وإنما اجتمعت عليه تشكيلة الجينات والظروف الاجتماعية وثقافة العائلة والعادات والتقاليد وكذلك الحاشية, وأكثر ما ينتج مثل هذه الشخصيات المستبدة ما صادفه من الخنوع والنفاق والمداهنة
وفي أحيان كثيرة تصيبني الدهشة عندما تقع عيني علي شخص يتصرف علي نحو يتسم بالغرور والصلف, ويتعامل مع الناس بتأفف وبقدر كبير من التعالي, ومنهم من تعود الهجوم علي النابهين بالحق والباطل, ولا أجد مطلقا ما يبرر ذلك مهما تكن المكانة التي حازها أو السلطة التي يمتلكها سواء كانت سلطة سياسية أو إدارية أو دينية أو اجتماعية أو علمية أو عسكرية, ليس لأحد أن يتعالي علي العباد لأنه ليس دائما من نوعية خاصة أراد الله لها أن تكون كذلك, بل هو مجرد إنسان تأهل بشكل معين كي يقوم بدور ما في خدمة العباد. ولا يمنع أن يكون الله قد أراده طاغية أو قاتلا أو سارقا أو مدمنا أو هاتك عرض من أجل التأثير على الآخرين حتى يتلقوا الدروس ويحصلوا العلم ، يقول سبحانه في القرآن الكريم " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض " أي أن الإرادة الإلهية تستخدم الشر أحيانا كي يفيد منه البشر ، وما أسوأ ألا يفيد البشر من الشر! .
أخشي أن يحسب البعض أني أتنكر للإرادة والثقافة والعمل الجاد والاخلاص والطموح, والتعاون, فليس هذا واردا بالمرة ،بل أنا أقدر جدا كل من يحاول التأثير علي الحياة بتغييرها إلي الأجمل والأفضل, وأقدر جدا من يحاول تغيير قدره ومن يستنفر كل طاقاته لتحقيق التقدم والنهضة له وللناس, لكن الذي أود التأكيد عليه هو أننا لسنا في كل الأحوال بالضبط ما نتمني, ولكن علينا قدر الطاقة أن نكون إضافة إيجابية للحياة, ولو استطعنا مقاومة السييء مما ورثنا فإن ذلك لمن عزم الأمور. إننا أضعف مما نتصور ولا يقوينا إلا أن نكون ذا نفع للبشر فالتواضع مطلوب ويتعين أن يرتبط بكل سلوك وقول, فما أهمية الإنسان إذا كانت الدنيا جميعها لا تساوي عند الله جناح بعوضة.. وأتفه الأمراض تصرعنا من الصداع إلي المغص وألم الأسنان ..احتباس البول وحده يجعل أثري الأثرياء مستعدا للتنازل عن نصف ماله حتي يتخلص من آلامه, بل لقد عرفت من عشاق الخيل من وعد بمليون جنيه لقاء شفاء جواده الحبيب..
إننى أتمنى أن يحرص كل إنسان على تأمل ذاته والنظر في مراياها ليحاول معرفة حقيقته وتقييمها وفرز الطباع السيئة من الحسنة .. عليه أن يبحث عن الجمال والصيت الطيب والنهاية الآمنة وأن يوفر أسباب العيش في سلام ومحبة مع البشر ولا يتحقق ذلك إلا إذا سعى لدعم الصفات الحسنة وترسيخها والتخلص قدر الإمكان من السيئة ..ليس من شك أنه أمر صعب أن يدرك شخص أنه بخيل أو جبان أو أناني أو متعسف وغليظ القلب لكنه يجب أن يسعي بكل وسيلة كى يخفف من حدة الصفة الرديئة على الأقل حتى لا ترتبط به وتمثل سمعة مسيئة له ولذويه.
وفي الوقت الذي أطالب فيه بمحاولة صناعة ملامح جديدة مشرفة لصاحبها إلا أننى أري أن ما ينفع الإنسان حقا ويخفف عنه أعباء الحياة وهمومها أن يتمتع بالرضا والتواضع والتسامح والتعاون مع جيرانه وأهله وزملائه وأن يتحمس لسبل الخير ويناصر الحق ، والبعض يحسب أن مساعدة المحتاج سينقص المال ، ولكنه يزيده ، والسؤال عن المريض مضيعة للوقت بل زيادة في الرزق وحماية من المرض ، وقد يحس شخص جبان بأن رئيسه ظالم له ولغيره فلاh يجب الصمت عليه أو نفاقه أو البحث له عن أعذار لأن هذا يشجع على خلق الفراعين والمستبدين ، و يجب مهما كانت درجة الجبن والخوف على المصالح أن نختبئ وراء الأستار بل مقاومة الظالم ولو بالمعروف واللين ،والأديان السماوية وأقوال الرسل والحكماء حافلة بما يعين على شق طريقنا في الحياة بسلاسة وقوة يحققان لنا السلام مع النفس والناس ، وفي كل الأحوال يجب أن يتأكد كل شخص أنه إنسان قبل كل الأماني والطموحات وعليه أن يرسخ هذا الشعور ، فأجمل ما في الوجود إنسانية الإنسان ، ولا يمنع هذا من إقامة أكبر المشروعات التي تسهم في تعمير الأرض وتشغيل العاطلين بما لا يتعارض مع سلامة الحياة في شتي مناحيها
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق