ومقارباته الأثرية
بقلم: علي النجار



في زيارة لي لمدير احد المتاحف التشكيلية
العربية في بناية المتحف, تطرق الى أهم مساهمات عروض المتحف في أوربا, وكانت
بمجملها عروضا لأعمال حروفية لأشهر الفنانين الحرفيين العرب. وفي إجابته على
تساؤلي: اخبرني بأنه ومن منطلق حرصه على أن يشاهد المتلقي الأوربي أعمالا عربية تشكيلية
مميزة, لم يجد إلا أن يقدم له عروضه الحروفية هذه, كونها تحمل خصوصيتها العربية الأثرية
والمعاصرة في آن واحد. كما أنها تحمل ملامح
اختلافاتها لمعظم النتاجات التشكيلية العربية المختلفة التي تشتغل على مناطق
إبداعية أخرى(وحسب رأيه فان هذه الأعمال تحمل بعضا من بصمات مصادرها الأوربية. مما
يقلل من أهمية استقبالها كمنجز له خصوصيته المحلية). مدير المتحف إذا كان يسعى
لعرض فني تشكيلي يتميز بخصوصية واضحة
ومفترقة في نفس الوقت عن النتاج التشكيلي الأوربي, وربما يمتاز حتى بغرائبيته بعض الشيء. واعتقد أن فائق العبودي
هو الآخر تمسك بهذا الخيار الأسلوبي. وسط حاضنه الغربي الجديد المكتظ والمولد
للكثير من الابتكارات التشكيلية المعاصرة.
في
البدء لم يكن الحرف الا لسانا في الأعمال
التشكيلية الأثرية, ثم تحول الى مفردة تشكيلية بلاستيكية متداخلة ونسيج العمل حتى
ولو كانت نصا مقتطع, أو مجرد إشارة. لكن بعد إشاعة استغلاله تشكيليا, لم يتوانى
الكثير من الفنانين (الخطاطين) من ممارسة مهاراتهم الصياغية الحروفية بأعمال ذات طبيعة لغوية افصاحية. وبات
الكثير منهم(وحتى وان لم يكن على إجادة في الصياغات الخطية) يحاول دخول عالم
التشكيل من خلال أداته الحروفية, إلى حد اختلاط مناطق الأداء والإجادة من عدمها.
ثم تحول الأمر إلى استغلال أبجديات محلية مثل(الامازيغية) في المغرب العربي,
وأبجديات أثرية(الفرعونية والسومرية وغيرها). الفنان العبودي اختار الأبجدية
الأثرية(السومرية) في محاولة منه لتدوير الأثر, أكثر من كونه إعادة اعتبار. لذلك
فهو غارق في تفاصيله, مستعيدا بعض من مقاطعه النصية, مستعرضا النزر القليل من مضامينها
للمتلقي, كمأثرة تلك الأزمنة القصية. و كاشفا عن ملامحه ابن بلد أهدى للعالم أول
رقعة أبجدية مخطوطة.
لم تكن أبجدية فائق استنساخ معظمها, بل هي من
وحي هيئة وسطح الأثر سواء كان مسطحا أو مدورا أو كتلة صخرية. وان استعار لأعماله
أو اقتبس بعض من المقاطع الحروفية الأثرية. فانه لا يفضل أن يتحول عمله مجرد
استنساخ, لذلك استغل علامات وإشارات خطية هندسية. ودسها وسط مساحة مفتوحة أو مغلقة
أو ممزقة أو متشظية من أعماله. في نية منه لكسر نمطية الأداء ألمسندي الذي يعتمد
الشكل التقليدي للعمل الفني التشكيلي. وان كانت العتمة(ربما من اجل إضفاء مسحة عتق
على العمل) في أعمال فائق تعيق الانفتاح على فضاءات أكثر إشراقا. كما هو الانفتاح
على مناطق أداء الخامات المختلفة التي من الممكن استغلال طاقتها التعبيرية
والجمالية والتغريبية لإنتاج أعمال توليفية تغني التجربة الفنية , وخاصة في أعمال
كهذه, بتعداد مناطق اداءاتها, واختلافات مشهديتها. وما دام العمل الفني مفتوح
دائما على فضاءاته التجريبية, من اجل ان يبقى متحركا طاردا لكل ثبات أو جمود يؤدي إلى
التكرار الذي لا نهاية له.
فائق العبودي يتحرك ضمن فضائه الفني المفترض
الذي بناه من مخلفات عصور سابقة. لكن عليه الانتباه للحراك الزمني الصوري ومحاولة
السعي للامساك ببعض من هباته الكثيرة التي تغمر فضاءاته, لا بالاكتفاء بما لديه,
بل بما يضفي على تجربته آفاقا أرحب. فنحن أولا وأخيرا أبناء عصرنا, نعوم في
فضاءاته الواسعة بحثا عن شاطئ سلام. وعليه معاينة التجربة الحروفية الصينية أو
اليابانية الأثرية وما جرى عليها من تغييرات تعدت فعلها الأثري المحلي للصورة الفنية التشكيلية والتطبيقية العالمية
المعاصرة. ولا ننسى بأن فننا المعاصر صور متحركة, لا ثابتة. معظمها اعتمد تفكيك
وإعادة صياغة ومونتاج الأعمال الفنية الأقدم, إضافة لتدخلات التكنولوجيا الرقمية و
بعض المستجدات العلمية الأخرى.
........................................................................................................
2013ـ10ـ23
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق