2013/10/02

صفحة من كتاب الحرب " وكانت الساعة الثانية بعد الظهر " بقلم: حسن النجار



صفحة من كتاب الحرب
" وكانت الساعة الثانية بعد الظهر "
حسن النجار 
  ( ليلة الحرب..)
1 

ولما كانت الليلة الأخيرة قبل الحرب ..
 لم يكن أحد لديه يقين كامل بأن الحرب ستكون يوم الغد " وبدت الجبهة مطوية تحت جنح السكينة إلا من بعض تحركات هنا وهناك يقتضيها الواقع المعيشي . وكان المذياع يذيع كعادته برامجه المعتادة تتخللها أغان وطنية وقومية .  وقد شنفت أغنية " يابيوت السويس يابيوت مدينتي " أذان أفراد السرية الذين كانوا يواجهون العدو في منطقة الشط  بالسويس .
قال باسم :
_ هذه الأغنية فَرضتْ علينا الدفاعَ عن السويس أكثر من المدن الأخرى.
رد عليه إبراهيم الطامي بحدة : كل المدن سواسية يادفعة .
قال عبد الباسط يحاول إسكات هذه الفقاعات من
الكلام:
_ نعم كل المدن سواسية ..
ثم ألمح :
_ مارأيكم في أغنية " شط إسكندرية ".. إن صوت مغنيها أشبه بسلاسل من الفضة .
لم يسكتهم سوي مشهد بعض الجنود عائدين من دورية علي الساتر الترابي .
قال لهم فتحي :
_ كيف حال العدو .. هل مازال يغط في نومه ؟
قال حمدين :
_ دعهم يغطون لنستريح بعض الشئ من تعب المراقبة .
قال عبد الباسط موجها الحديث لرفاق الملجأ :
 ـ استريحوا أنتم حتي أري من اعتلي الساتر من بعدكم.
ثم خرج يستطلع الأمر ..

 في تلك الليلة ومن أول دروب المساء , توافدت أعداد كثيرة من جنود الاحتياط الذين سرحوا من الخدمة منذ نحو ثلاثة شهور ، عادوا إلي وحداتهم الذين غادروها بأوامر استدعاء  ، وكان نصيب الموقع خمسة جنود جاءوا مرتدين زيهم الخاكي نظيفا وأعطوا تمام الحضور . استقبلهم  زملاؤهم بفرح غامر وكأنهم غابوا عنهم سنوات .
ليست هذه أول مرة يُسرحُ فيها جنود من الخدمة ويعودون، فقد تم تسريح الكثير منهم علي مدار عام كامل، ثم يعودون ثانية إلي الجبهة بكامل لياقتهم.  ولم يردْ في ذهن أحد من المقيمين إقامة دائمة كأنهم أصبحوا عُهدة ، ولا العائدين إليهم أن الحرب أصبحت وشيكة . وفي كل مرة يستقبلهم زملاؤهم بنفس فرح الشوق .
اتخذوا أماكنهم المعتادة في الملجأ والخندق بين أقرانهم . وبسط كل واحد منهم صرة بها طعام  ليأكل زملاؤهم المقيمون من خيرات ماحملوا . وقضوا الليلة في أحديث سمر وتناول شاي الملجأ حتي بعد انتصاف الليل . ولو اكتشف العدو  هذه الفرحة الغامرة في وجوه الجنود لتصور أن شيئا ما قد يحدث في أي وقت .فالعدو لديه إمكانية التنصت علي مافي القلوب ..وبدا موقع السرية هادئا مطمئنا في تلك الليلة ، يغمره دفء التلاقي . إلا الجندي طومان فقد غط في نوم عميق . وصوت شخيره يعلو ويهبط في تتابع شد انتباه الجميع .
قال الجندي باسم في سخرية :
_ أخشي أن يسمع العدو هذا الشخير فيعرف أننا لن نحارب أبدا .
كان اسم طومان مثار دهشة وسخرية زملائه عندما حل علي الوحدة منذ خمس سنوات ، لكنهم اعتادوا
عليه بفعل المعايشة اليومية ،  وكان يقول لهم ردا
علي سخريتهم :
ـ أنا أحمل اسما لم يحمله أحد من قبل ، إنه اسم يميزني عن كل الناس ولا أظن أحدا سيأتيه يوم وينساه .
إلا الجندي باسم فكان يناديه دائما ب ( تومان ) فحرف الطاء مجروش عنده .
وطومان من قرية في الغربية ولا يدري كيف أطلق عليه أبواه هذا الاسم عند ولادته . ربما سمعا أو أحد منهما ولعله الأب  هذا الاسم من المذياع عندما كان المذيع يحكي تفاصيل تاريخ حياة طومان باي في مصر فاكتفيا بطومان  دون " الباي "
 وكنت أناديه دائما بطومان باي ، فتاريخ هذا الوطن مخبوء في ذاكرتي من أيام دراستي في الجامعة ، ومن قبلها في المرحلة الثانوية بحكم الدراسة . وكان يرد بنوع من الحميمية كأنه يخاطب أباه :
ـ نعم  .. أفندم ..
ومرت الليلة بسلام..
  2
 صباح اليوم التالي:
 خرجت من اجتماعنا بالعقيد فاروق عزت قائد التشكيل وأنا تتنازعنيٍٍ أفكار شتي . وربما كانت هذه  الأفكار هي التي تنازعت قادة السرايا الآخرين ، وجعلتهم لا يتطرقون إلي ما دار في الاجتماع  ، فهذه ليست المرة الأولي التي ندعي فيها لاجتماع كهذا.
ومضي كل إلي موقع سريته .
والعقيد فاروق لا يشك أحد في مقدرته علي فهم طبيعة المهمة التي أوكلت إليه  ، وإلا لما كان يقودنا في هذا المكان المتقدم من الجبهة ، وفي منطقة الشط تحديدا التي تلامس حافة القناة ، وبيننا وبين العدو مسافة أمتار .
لقد حل العقيد فاروق عزت علي التشكيل منذ عامين محل العقيد محمد هاشم الذي نقل إلي إحدى الوحدات الإدارية الخلفية  التي لا تلامس الحد الفاصل . فقد كان يؤلمنا دائما بسلوكه الفظ ..كأن يعنف ضابطا بشدة أمام جنوده بدلا من أن يكون ذلك  بعيدا عن أعين الجنود . ويبدو أن علاقته بأفراد أسرته في القاهرة كانت غير سوية ، مما جعله في كثير  من الأحيان يقطع أجازته الميدانية ويعود إلي الوحدة شديد التجهم ، مما ينعكس ذلك علي أفراد التشكيل جميعا . بعكس العقيد فاروق الذي يبدي تعاطفا مع ضباطه وجنوده ويقدر محنتهم التي طالت بطول زمن الحرب ، ويسعى دائما للحصول علي أجازات .
ومنذ عام ونحن نمارس هذه الاجتماعات بشكل دوري كلما استجدت أمور ، حتى قبل أن تلتحق بنا سرية المدفعية المعاونة . وفي كل اجتماع  كان  قائد التشكيل يضغط علي حروف الكلمات التي توحي بأن ثمة حربا وشيكة ، ثم لا يحدث شيء ..وكأنه كان يستدعي الحرب قبل الأوان . لكن الذي لا حظته في اجتماع اليوم أن العقيد فاروق عزت الذي ستحل أجازته الميدانية بعد يومين قد ألغي هذه الأجازة علي غير العادة ، وهو المتلهف دائما علي موعدها ويحسب الأيام التي تسبقها يوما بيوم . فهو الأخ الأكبر لأربع شقيقات لم تتزوج واحدة منهن وهو حريص علي أن يكون بينهن أكثر الأوقات ، فهو العائل لهن بعد وفاة الوالدين .
 ولهذا السبب لم يتزوج رغم تقدمه في السن وظهور بعض الشعرات البيض علي فوديه .

كان اليوم هو السبت العاشر من رمضان / السادس من أكتوبر ، والساعة تقترب من الثامنة والنصف صباحا .إنه اجتماع غير عادي إذن ذلك الذي دعينا إليه علي عجل . والجنود بعضهم صائم والبعض الآخر غير صائم بناء علي الفتوي التي تبيح الإفطار لأفراد الجبهة .

عدت إلي موقع السرية وجمعت قادة الفصائل ومعهم الرقباء
وأطلعتهم علي ما جري في الاجتماع ، وأعطيتهم تعليمات
برفع درجة الاستعداد القصوي ، فنحن نتوقع أن يشن العدو
هجوما مباغتا علينا خلال 48 ساعة علي أقصي تقدير ..كما
فهمت من قائد التشكيل الذي كان يبدو غامضا في تقديراته
علي ما أتصور .
وجلست وحدي أعيد علي سمعي ما دار في الاجتماع فربما قد
نسيت شيئا . ثم أدرت مؤشر المذياع لعل وسائل الإعلام تشير
إلي شيء جديد . كان المذياع كعادة كل يوم في مثل هذه
الساعة من الصباح يبث الأغاني مابين عاطفية ووطنية ..
تتخللها قصائد شعر في حب الوطن . وأذكر أنه قد أذيع لي
أربع قصائد علي فترات , واستمع إليها أفراد التشكيل في
وقتها وثمنوها , رغم أن معظمهم لم يستوعبوا مضامينها.
وخرجت أنظر إلي مواقع العدو من خلال نظارة الميدان ، فلم ألحظ شيئا غير ذي بال ،عدا ثلاث عربات ربما كانت تنقل طعام جنود العدو .. واختفت سريعا خلف الساتر الترابي ، كتلك التي نشاهدها كل يوم .
اتصلت بقائد السرية اليمني  النقيب عبد الستار ، وهو أقرب نقطة إلي العدو وسألته إن كان قد لاحظ شيئا غير اعتيادي في مواجهته فأجاب :
 ـ لاشيء علي الإطلاق .
مررت علي جنود السرية لأتأكد من حالة الاستعداد ، وأن الذخيرة معبأة في خزائنها ،وأن صناديق الذخيرة قد وضعت في المكان المناسب  ، وأن قوارب المطاط قد تهيأت للحظة الحسم ، وأن المكان كله مهيأ للحرب ..
هؤلاء الجنود أعرفهم واحدا واحدا من طول المعايشة ،فقد
خدم معظمهم تحت إمرتي في اليمن عندما كنت قائد موقع
علي جبل عال هناك ،ولكم شربوا معي ذل الهوان ومطر
الشتاء القاسي  .
كان أكثر ما يعوقنا في اليمن كثرة السيول الجارفة التي تحيط
بجبل الموقع إلي حد الحصار أياما ،
 وكان الجندي إبراهيم عبد الموجود وهو اسكندراني وكان
يعمل في البحر قبل الجندية..يصنع الحيل لفك حصار الطبيعة
لنا ، فيجمع بعض الألواح الخشبية ويربطها ببعضها ويصنع
منها ما يشبه قاربا يركبه جنديان إلي المنطقة الجافة فيأتيان
لنا بالطعام من مطبخ التشكيل الذي كان يبعد نحو كيلومترين .
ولم تكن لدينا مشكلة في المياه , فالحفر كلها مليئة بمياه
الأمطار التي تكفينا أياما .
توقفت عند الجندي جابر وهو من الصعيد الجواني كان يردد
في خفوت أغنية حب صعيدية عن الهجر وغدر الزمان .. وقد
استند بمرفقيه علي حافة الخندق وعيناه كعيني صقر تمسحان
الأرض من كل الاتجاهات . .هذا الجندي كانت له قصة غرام
يعرفها أفراد السرية حين أغرم بفتاة يمنية تدعي " تقية "
أحبته علي الطريقة اليمنية وهي لا تختلف كثيرا عن أي حب
عربي ( ترد تفاصيلها في سياق الرواية )
وقد أصبح له في نفسي معزة خاصة ، بتوجهه للحب في زمن
الحرب أيا كان الميدان الذي ندق فيه أوتادنا فيه .
3 
في أجازتي الماضية ذهبت إلي قريتي التي لم أزرها منذ عام
تقريبا منذ استوطنت القاهرة مرغما ، وقضيت وقتا ممتعا بين
الأهل والأقارب ، ومررت علي بعض الأصدقاء . وزرت
قبر أبي وقرأت علي روحه الفاتحة وطمأنته علي أني مازلت
علي عهدي بما  نصحني به أن أرعي شقيقاتي وأن أكون
لهن بمثابة الأب الوفي .

فجأة أبلغني الجندي المراقب أن ثمة سيارة جيب للعدو ظهرت ثم اختفت وراء الساتر سريعا فطلبت منه زيادة المراقبة , وكم من الوقت استغرقت خلف الساتر ؟
 هذا العدو لا يستطيع أن يأمن المرء غدره ..

ثم عدت إلي شريط الذكريات :

في عودتي للبيت اشتريت دراجة صغيرة لولدي الصغير الذي بلغ منذ أيام الخامسة من عمره ، واشتريت كذلك بعض ما يلزم البيت من حاجيات شهر رمضان الذي سيحل بعد أيام . أعدنا طلاء المطبخ الذي اسودت جدرانه ، وأعدنا كذلك تنجيد مراتب الأسرَّة التي أصبحت مثل جلد الحوت ..وأهم من هذا وذاك اشتريت لزوجتي جلبابا نسائيا  لشغل البيت كما طلبتْ.
ثم عدت في اليوم التالي إلي الجبهة ..لأري التشكيل في هذه الحالة من الاستنفار العالي. 
                            *
في الساعة العاشرة طلبنا  قائد التشكيل ثانية لاجتماع عاجل ، ربما كان هذا الاجتماع هو الأهم في نظري . فذهبت ومعي قائد سرية المدفعية المعاونة الذي التحق علي سريتي في الأيام الأخيرة باعتباري قائد سرية المجهود الرئيسي .
التأم الاجتماع , وطلب لنا قائد التشكيل أن نشاركه تناول الشاي في البداية , وطلب الصائم منا ضرورة الإفطار في هذا اليوم .. وخامرني شعور غريب بأن شيئا ما يدبر له لا نعرفه , وإن كانت شواهده بدت ظاهرة للعيان .
وتحدث معنا حديثا وديا لم نعهده من قبل .. ليس عن العدو بالطبع ، بل عن أحوالنا وعن أحوال أسرنا .
سألته : هل آن أوان الحرب الآن إذن ؟
قال : ليتك كنت انتظرت ..
 ثم أخرج مظروفا سريا .. فضه وقرأ ما بداخله ثم طواه في يده موجها إلينا نظرات ثاقبة وقال :
ـ صدر الأمر الذي انتظرناه طويلا .. سنبادر بالهجوم اليوم عند الساعة الثانية بعد الظهر .
وران علينا صمت .. قطعه النقيب عبد الستار بالقول :
  _  ونحن في أتم الاستعداد .
وردد الآخرون ما قاله النقيب عبد الستار ..
وأعاد علينا ما سبق أن قاله في المرات السابقة من أن نلتزم بخطتنا العسكرية التي احتشدنا لها منذ عام تقريبا , من أن نكون عند حسن ظن الوطن بنا .
ثم خرجنا من عنده وما زال يلف بعضنا الصمت .. خاصة قائد سرية المعاونة بعد أن عانق قائد التشكيل كل واحد منا عناقا حارا أظنه قد يكون العناق الأخير .وعانقنا بعضنا بعضا نحن قادة السرايا..فلا يعرف أحد أين ستمضي بنا الأيام القادمة .
كانت المسافة بين نقطة ملاحظة قائد التشكيل وبين موقع سريتي في الخط الأمامي أطول من كل المسافات التي قطعتها في حياتي .. إنها مسافة بطول الزمن العربي  وعرضه . .
وجرفتني ذكريات سنوات الشَّدَّة  التي بلغت عقدا من السنين يضاف إليها عدة شهور.
                              *
 عند الساعة الواحدة ظهرا جاءني صوت العقيد فاروق عزت عبر جهاز اللاسلكي بنبرة فيها حنو يسألني  :
_  هل  كل شيء علي مايرام ؟
_ تمام .. كل الأمور تسير علي ما يرام .

تأملت الشاطئ أمامي .. ونظرت إلي السماء العالية من فوقي  أستمد العون في شبه صلاة مؤكدة ، وعلي يميني وبالقرب مني قائد سرية المدفعية  الذي يصاحبني كظلي .. نظر إلي في اطمئنان ومودة. وسحبت نظراتي إلي أفراد السرية  المنتشرين علي أهبة الإستعداد لأطمئن علي أن كل شيئ يسير في الاتجاه المرسوم .
_ هؤلاء هم الذين أرسم بهم خارطة الزمن الجديد ..
هكذا قلت في نفسي .
ومن خلال نظارة الميدان ألقيت النظرة الأخيرة علي سيناء أقيس المسافة بيني وبين أوان اللحظة المرتقبة .. 
   
كانت تمام الثانية
النسر مسَّح ريشّه في الماءِ
حطُّ علي غلال الأرض ،
وجرَّ وراءه ثورّ انتصابِ الريح
ثم تقصَّد الرؤيا
وباض علي قصيدة .
 ______________________________________  
من كتاب ( الأوديسة المصرية ـ  وقائع أيام الشَّدَّة) 
         حسن النجار

ليست هناك تعليقات: