2013/12/10

"التاريخ يبكي " قصة بقلم: خيري عبدالعزيز

التاريخ يبكي
خيري عبدالعزيز
تشبث الصغير بيد الشيخ الطاعن في السن, المرسل اللحية في بياض كالثلج, وأشارت يده النحيلة المعروقة في اتجاهات شتى, وتهدج صوته بحديث ظنه الصغير لن ينضب, وكأنه في سباق مع الزمن أو الموت. وملقنا قال للمرة الكثيرة بعد الألف:

"بني.. هذا وطنك.. وذاك الطير الحزين فوق أشجار الزيتون طيرك.. يحمل في حواصله أرواح الشهداء أبيك وعمك.. وهؤلاء الصغار هم رفاقك في النضال.. انظر إليهم.. انظر جيدا.. املأ عينيك بهم.. والتقط حجرا.. وارجم به قتلة الأنبياء.."

التقط الصغير حجرا, وجرى مهرولا في اتجاه الغلمان, وعلى شفتيه لمعت ابتسامة بلهاء, فبدا وكأنه يلعب لعبة من لعب الصبيان.. وقذف الحجر؛ فسقط علي وجهه, ولم يتعد الحجر بضعة أمتار.. اقبل عليه الشيخ حانيا, ومسح الغبار الذي علا جبهته السمراء, وقال: "غدا سيشتد ذراعك وتأخذ بثأر القدس.. غدا ستبيد الأوغاد أنت ورفاق النضال.." افترش العجوز الأرض وبعصى صغيره رسم بيتا وكرومه, وسماء تحتلها شمسا عن اليمين وقمرا عن اليسار, وحمائم تلهو حول الدار, ثم وضع يديه علي ركبتيه وانتحب:

"ريح تعوي بحنايا الدار.. وصرير الباب يعزف حزن.. وحوائط توسمها أصابع دم.. ولعبة طفل يكسوها الهم.. وكرومه اجتثت.. وحمائم هربت.. ومساجد دهست.. وشموس طفئت.. وقمر أعياه مجيء الفجر.." وكادت عيناه تطفر بالدموع. وفجأة انتفض, وأمسك الطفل بقوة أوجعته, وحملق في عينيه, وقال: "أما عواء الريح فيوما سيخرسها الدفء.. يوم أن يعتاد القلب الغض رائحة الدم.. ويمتشق السيف الصارم في مطلع فجر.. وفي نحر الغدر يجز بعزم.."

وفجأة هاجت السماء بصخب طائرة, لم تلبث أن ألهبت الأرض بوابل من نار, فارتمى الشيخ على الصغير يكاد يكتم أنفاسه, ومن حولهم الجحيم يكشر عن أنيابه ويفتح فاه؛ فارتفع صوت الشيخ في وجل وقال: لن أفقدك

لن أفقدك كما فقدت أبيك وعمك لن أفقدك كما فقدت الأحباب من سيحرر القدس ان فقدتك من سيطلق الأقصى من براثين الأوغاد

وانحدرت دمعتان من العينين الكليلتين, فكاد الطفل يبكي عندما رأى دمع العجوز المنحدر يملأ الأخاديد العميقة, فاحتضنه الشيخ في قسوة حانية, ومحذرا قال:

"لا تبك.. لم نخلق للبكاء.. ها هم رفاقك عادوا بعد الفرار.. وامسكوا بالحجارة من جديد.. هيا انضم إليهم.." ودفع بالصغير للأمام, ولكن الخطوات الصغيرة تعثرت في أكوام الحجارة, فلحقه الشيخ, ودفن وجهه الدامع العينين في صدره الضامر, وقبل رأسه متمتما:

"غدا ستكبر.. غدا ستكبر.. غدا ستلقنهم درسا يحفظه التاريخ بين دفتي كتابه العتيق.. سأعلمك كل ما عرفت.. كل ما سمعت.. كل ما لقنني التاريخ.. التاريخ يرثي لنا.. التاريخ يبكي لنا.. كن يا ولدي صلاح الدين من أجل التاريخ.. كن يا ولدي صلاح الدين من أجل أبيك.. كن يا ولدي صلاح الدين من أجلي أنا.." بدا الشيخ وكأن لوثة من الجنون قد عصفت بعقله, وهو يرى سيل الطلقات تطارد الغلمان وتحصد الأرواح الطاهرة, فأخذ يصرخ في لوعة مريرة, وهو يجري بحفيده ويصيح:

قم يا صلاح الدين وامتطي فرسك قم يا صلاح الدين وأشهر سيفك قم يا صلاح الدين واثأر لأبيك وعمك

ليست هناك تعليقات: