الطبيعة ألوان في شعر بغداد سايح
-
دراسة تحليلية -
بقلم: د.سمية شنوف
ينفتح النص الشعري
على تعدد القراءات واختلاف الدلالات ،وموضوع الطبيعة يفرض نفسه في أشعار (بغداد
سايح) ويقرّب فنه من فن الرسم،يقول الفيلسوف (كانط) :"الفن ليس تمثيلا لشيء
جميل وإنما هو تمثيل جميل لشيء من الأشياء".
يُنصت (بغداد
سايح) إلى تغريد العصافيروالبلابل وخرير المياه وصخب البحر وحفيف الشجر،ويستعذب
زخات المطر وهي تطرق بأناملها اللطيفة بلور الزجاج.أشعاره ترانيم ترتّلها حورية
البحر الحسناء،تمدّ ذراعيها لتحتضن الطبيعة تارة بفرح وتارة أخرى بأسى ،فإن كان
فرحا ابتسمت وأشرقت وإن كان حزينا نابت عنه الدموع وهي أفصح مترجم .يقول في قصيدة
(وشوشة من رحيق الأندلس) :
" في بلادي
يكبرالجرح يتيما
مثل غيم في المدى
يهوى نزيفه
أيها البحر بعينيك
دموعي
سندباد العشق ماعاد الخليفة "
ويقول في قصيدة
(سيدة الهيام ) من ديوان (قناديل منسية) :
"الليل أبيض
في فضاء قلوبنا
والنّور إن فُقدت
محبتنا ظلام
والثلج أسود فوق
قمة بؤسنا
والعشب تحت نزيف
نخوتنا حِمام
والبحر أخضر في
ربيع دروبنا
والموج أجمل ما
يكون إلى الأمام "
يستخدم (بغداد
سايح) الألوان في قصائده ورباعياته وكأنه رسّام يمزجها بريشة الكلمات ،يحاكي
الفصول ويضفي عليها أسلوبه التخييلي عبر الصور الشعرية والمحسنات البديعية
والثنائيات الضدية التي تعكس حالته النفسية ،وتصور الألوان إيماءاتها،تعكس ألوان
الربيع الأمل والحلم ،وألوان الخريف الكآبة والحزن.
من هنا جاءت أهمية
هذا المقال في تحليل الظاهر اللونية في شعر (بغداد سايح) من خلال فضاء الطبيعة
وتجلياتها، دون الوقوف عند احصاء عدد الكلمات والألوان بل في الكشف عن دلالات
توظيفها وايحاءاتها، فاللون بوابة الشاعر ومدخل إلى نفسيته .
اعتمدت على منهج
تكاملي يستفيد من الأسلوبية والوصفية من خلال لغة الشاعر ،نقف على الجوانب النفسية
والإبداعية ،وقدرته على توظيف اللون في فنه وصوره، ليعكس عمق روحه وخصوبة مخياله.
إنّ اللغة مادة
متجددة ،يقول (عز الدين اسماعيل) :"إنّ الكشف عن الجوانب الجديدة في الحياة
يستتبع بالضرورة بالكشف عن لغة جديدة"،استطاع (بغداد سايح) أن يعيد إلى اللغة العربية
مجدها من خلال حفره عميقا في الموروث اللغوي والأدبي، دون أن يقدم للقارىء مادة
لغوية دسمة صعبة الفهم والاستيعاب، بل زاوج بين اللغة البسيطة والفصيحة القُحة
مزجا يصل به إلى القارىء، وفي الوقت ذاته يدفعه إلى البحث والتمحيص في كتب الدلالة
والنحو وما إلى ذلك.تظهر إمكاناته في تحقيق الشعرية اللغوية مع البساطة وعمق
الدلالات .
شغف (بغداد سايح)
منذ طفولته بالألوان،وقد عبّر عن ذلك في عدد من حواراته الصحفية ،ونصوصه الشعرية
الزاخرة بألوان الطيف المباشرة وغير المباشرة.
تعرض القواميس
والمعاجم اللغوية تعريفات عدة للون "اللون:كلمة واحدة وهي لون الشيء كالحمرة
والسواد" واللون اصطلاحا "خاصة ضوئية تعتمد على
طول الموجة ،ويتوقف اللون الظاهري لجسم ما على طول موجة الضوء الذي يعكسه "
تختلف الألوان
باختلاف الحقل الدلالي ،فالألوان الرئيسة هي (الأبيض،الأسود،الأحمر،الأخضر،الأزرق)
وبقية الألوان تنضوي تحتها،الأبيض والأسود لونا التضاد (الظلمة / النور)،الأحمر
(لون الحب والحرب)،الأخضر( لون النبات والعشب والخصب)،الأصفر (لون الشحوب
والحصاد)،الأزرق (لون السماء والبحر والمطر).ويحاكي اللون طبيعة الصوت ودلالة
اللفظ ،فالأسود مثلا يدل على الغموض والغوص في باطن الأشياء ،ومن جماليات اللون
ارتباطه بالحواس كالشم والذوق كما يرى (شارل بودلير) تشويش الحواس .
يقول (بغداد سايح)
في إحدى رباعياته :
" حلو الحديث
مخفف الدم أغيد
بالمقلتين وحسنه
يتصيّد
مرّ الفراق مريرة
زفراته
عذب اللقاء به
البهاء مقيّد
يلقي على النبضات
دفء جماله
فالقلب منتبه لما
تعظ اليد
يصطاد أفئدة هواه
أقل ما
يُرخيه من قلق
المحبة أزيد
يأتي اللون الأخضر
في صدارة الألوان الموظفة في شعر (بغداد سايح) وهو من أكثر الألوان هدوء واستقرارا
في دلالته "يرتبط بالأشياء الملهمة في الطبيعة كالنباتات والأحجار الكريمة
،ثم جاءت المعتقدات الدينية وغذت هذا الاعتقاد
لارتباطه بالخصب والشباب وهما مبعث فرحة الإنسان "وهو "قرين الشجرة رمز الحياة والتجدد علاوة على
ارتباطه بالحقول والحدائق وهدوء الأعصاب
"
جمع (بغداد سايح )
بين الحلم والطير والاخضرار في الأمل والجمال الذي يماثل جمال عيون الأنثى وحسنها
.يقول في إحدى رباعياته :
" القلب قيّد
بالمشاعر هيغلا
لا عقل أبصر نبضة
فتوغلا
هذي العواطف أعشبت
ولها الهوى
كالشّوق برعمه
الفؤاد وأدغلا
عشق تشجّر
والخمائل أدمع
خضراء أهرقت البها وتغلغلا
الحب أرخصَ عاشقا
لمَ باعهُ؟
أ شراه أمنيةً؟
وهل هزم الغَلا؟ "
كما يمثل اللون
الأخضر التأمل الروحي والإخلاص فهو لون الجنة ،يقول الله تعالى "متكئين على رفرف
خضر وعبقري حسان فبأي آلاء ربكما تكذبان "،وقد اقتبس الشاعر من النص القرآني دلالة اللون يقول
الله تعالى "الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون"فاللون الأخضر خير وإن اجتمع مع نقيضه،
والنار نقيض الاخضرار .
أطلق (بغداد سايح)
هذا اللون على بعض قصائده (حلم أخضر ،المعلقة الخضراء، خماسيات خضراء...)،استلهم
من ألوان العلم الوطني الجزائري ،فالأخضر يبعث على الخير والأمل والأبيض لون
النقاء والطهر، والأحمر لون الثورة والحب وكلها دلالات واضحة في السياق لكي يرسم
رؤيا تفاؤلية مشرقة.يقول في قصيدة (تعاويذ اسمها طائر ) :
" عينان
تجتذبان منك مداهما
كي تمطراكَ ندى عن
الحبق ارعوى"
ويقول في قصيدة
(وإذا العيون تكلّمت) من ديوان (قناديل منسية ) :
" عيناك
زرقاوان من لجج الصبا
ما أطفأت بهما
الشموس مجازر
وعيوننا السوداء
تحضن فيهما
نجما جريح
الأمنيات يحاذر
بين اخضرار دمائه
وبياضها
يبكي الهلال بجنبه
ويحاور
وإذا أتتك قصائدي
من وردة
ويأتي اللون
الأزرق بدلالاته الواسعة لارتباطه بالماء والسماء ،وقليلا ما تداول الشعر العربي
اللون الأزرق ،قيل الزرق: المياه الصافية ،يقول (بغداد سايح) في إحدى رباعيته :
"قطفتِ قلبي
شهي الحبّ ردّيه
أو اغرسي النبض
ألحانا وعدّيه
رآك عشقي بياض
العمر أغنية
فإن عزفتِ الهوى
المرخى فشدّيه
نمت بأنغامك
الزرقاء ألف سما
وطال شوق جميل لن
تحدّيه
وسرت فوق الهيام
الماء أغرقني
صداك حبل مضيء فيّ
مديّه "
إنّ الطبيعة مصدرإلهام
فطري للرّسامين والشعراء والفنانين عامة ،لما تعكسه من ألوان الطيف والحركات
اللونية ،واستخدام اللون في الخطاب الشعري خاضع للدلالات السياقية والاجتماعية
والنفسية التي تصاحب الشاعر من حزن وفرح .يقول (بغداد سايح) في قصيدته (نور في
سنوات الضياع) :
" مرافىء
الحب غابات الذهول هنا
فالريح تضحكنا
والبحر يبكينا
يزقزق المطر
المجنون ...يرقصنا
كيما يُعذّب في
درب الهوى طينا
ويشرب الليل في
عينيك قهوته
ويقطف الفجر
أحلاما بأيدينا "
يقول الجرجاني في
كتاب التعريفات :"الدلالة هي كون الشيء بحاجة يلزم مع العلم به العلم بشيء
آخر والشيء الأول هو الدال والثاني هو المدلول"،ترسم الألوان في أذهان الشعراء انطلاقا من التجربة
الشخصية واللاوعي الجمعي وما يفزره السياق للنص الأدبي (اللفظ بدلالته العامة
والخاصة/الإيقاع الموسيقي/الأسلوب الفني/ اللون) .
إنّ للطبيعة حضورا
هاما في شعر(بغداد سايح ) فقد كانت مدرسته الأولى التي دفعته إلى التأمل وطرح الأسئلة
الضمنية والصريحة ليس بهدف الحصول على إجابات وافية بل لمجرد الحصول على احتمالات
كثيرة لسؤال واحد .اعتنت والدته بالورود وجعلت حديقة البيت تعبق بمختلف ألوان الزهور
.فنفذ عطرها إلى روحه وملمسها إلى يده ولونها إلى بصره واستقرت الورود صورة ذهنية
يحاكيها في شعره ،يسقطها على المرأة /الوطن ،استعار الألوان ليعبر عن الطبيعة
والمرأة انطلاقا من تجربته الخاصة .
لا تختلف كتابات
(بغداد سايح)النثرية عن الكتابات الشعرية ،كلاهما موزون ومرتب ويعبّر عن ذاته
وعواطفه،وقد صهر منهما جسدا وروحا واحدة .يقول في روايته إليها المسير
:"اللغة الخضراء يجيدها عشب يتثاءب على ظهر الأرض،واللغة الحمراء تنقلها
الزهرة في حديث لها مع الحسناوات ،اللغة البيضاء يتكلم بها الصباح كلما أقبل يوم
يأخذ نصيبه من أعمارنا،اللغة الزرقاء ثرثرة البحر لسماء لا تكتم أسراره ،اللغة
الصفراء كلمات وداع لأوراق أسقطها الخريف،اللغة السوداء لا يعرفها إلا ليل يشتاق
إلى قمر تدغدغ أنواره الزوايا الكاتمة" .
ربط الشاعر بين
المرأة والفراشة ،في حركة طفولية بريئة بلونها الأبيض الطاهر وألوان الزنبق وكأنه
يبحث عن المرأة الأنثى الطبيعية دون تزييف
أو كذب،نقاء اللون الأبيض مرتبط اجتماعيا بالفرح والطهارة والبهجة ،والياسمين زهرة
بيضاء وهو ما يؤكد العلاقة الكامنة بين الشاعر والمرأة والوطن في فضاء الطبيعة
المتعدد الألوان .يقول في رباعيته :
"لأنّ النبض
يكتب زنبقاتي
قلوب العاشقين معلّقاتي
فمن يقرأ هواي يجد
حروفي
دموعا في ملامح
عاشقاتي
ومن يحفظ خطاي ير
السجايا
مسيرا نحو أعذب
زقزقاتي
أراني في الفراشة
مستضيئا
تزيد الألوان جمال
المرأة ،فهي الطبيعة بسحرها وبياض روحها وجسدها ،ينقل الشاعر الطبيعة إلى المرأة
والعكس.يقول في إحدى رباعياته :
"قطفتِ
قلوبهم لم تغرسيها
فأنبت دمعها ولعا
وشوقا
وأعشبت الخواطر
درّسيها
إلى شهقاتها
البيضاء توقا
هي النبضات ألقت
حارسيها
وأدمنت الهوى لمسا
وذوقا
هبِي الغد أغنياتك
كرّسيها
إنّ العلاقة بين
الماء والخضرة علاقة تلازم، فما يُذكر الماء إلا وتداعت دلالة الخضرة والحياة
والتجدد المستمر.وللماء حضور قوي في أشعار (بغداد سايح) سواء أكان بحرا أو موجا أو
مطرا أو قطرات ندى أو دمعا فإنه الأقدر على بث الحياة في الجماد وامتصاص الحزن
وجزر الهموم ومد الآمال ،وهو بالنسبة إلى الشاعر مدرسة ،يقول في قصيدة (مدرسة
المطر) :
"أصغي إلى
مطر يحكي مدامعه
لمّا شمختُ كلاما
كي أصارعه
كم بلّلتني حكايات
يُلحّنها
والوقت يُرقص في
أرضي شوارعه
هل يعزف المطر
المجنون ذاكرة
أم أغوت الهدب
الأشهى أصابعه ؟
إنّي رسالته
الخضراء ضيّعها
إذ عادة الغيم أن
ينسى طوابعه
ماذا سيقرأ في درب
الهوى مطر
والعشق يكتب عن
نبض روائعه ؟
لن يقرأ المطر
التلميذ أغنية
إلايّ ذات دمٍ
أرخى فجائعه"
يبعث الشاعر
برسائله الشعرية الخضراء إلى البحر، بعد أن يضعها في قارورة رباعية أو قصيدة محملة
بالشوق والأمل محكمة الإغلاق بالرمز :
"الحب وشوشة
الأمواج للصَّدف
ترنيمة العمر
المأسور في الصُّدف "
عسى أن تنقلها
الأمواج إلى يد الأحبة ،فالبحر كاتم سر أمين له مفتاحه ووزنه، ولابد أن يصل إلى
رمل الشاطىء ويعثر على الحبيب وقد أذبله الشوق وأنحله الحنين.وجد (بغداد سايح)
الجمال في الطبيعة والمرأة ،فالمرأة بمفاتنها الروحية والجسدية ترمز إلى ما في
الطبيعة من إيقاع وسحر وجمال وألوان ، والطبيعة تتجلى في تشبيهاته وأوصافه للمرأة ،شبّه المرأة بالمطر
رمز الخصب والحياة والنماء،شوقه إليها شوق الأرض لحبات المطر .
لجأ الشاعر إلى
الطبيعة فاستعار عناصر الجمال منها ليضفيها على جسد المرأة ويحوّلها عبر اللغة
الشعرية والدلالة اللونية إلى طبيعة خاصة .يقول في قصيدة (لهيب النهر) من ديوان
(قناديل منسية ):
"وبساط شعر
يستفيق زمردا
وينام مُصفرّا
كسنبلة
وأريج خدين استرد
نداهما
فتعتقت في الوجه
أغنيتي
إنّ التي ابتلع
الهواجس حبها
لا تستحم بحزن
أزمنتي
فالحزن بحر من
دماء قبيلتي
يمتلك (بغداد
سايح) قدرة على رسم الجزئيات بالكلمات بحيث تتكامل الصورة وتكاد تكون تشخيصية
مرئية ،فهو بارع في رسم زخات المطر وألوان الطبيعة ونفوس البشر .إنّ التجربة
الشعرية البغدادية أقرب إلى تجربة الرّسام الذي ينفعل بما تراه العين، فيحاول
الإمساك بالتجربة البصرية بعُدّةٍ خاصة تلتقط الروعة وهي في أشدها لتؤثر على النفس
.وعلى الرغم من توظيفه لكثير من الألوان في شعره - لم أذكرها كلها – يبقى اللون
الأخضر مفتاح الطبيعة والنفس البشرية التّواقة للأمل والسّكينة ،وما هذه القراءة
إلا غيض من فيض.