الرسالة الحادية
عشر لماريو يوسا
"الأواني
المستطرقة"
خيري عبدالعزيز
الأواني المستطرقة, كتجربة فيزيائية شهيرة, هي اتصال مجموعة من الأنابيب
الزجاجية, مختلفة الشكل والحجم, ما يعني أنه عند ضخ عدة سوائل مختلفة في الأنابيب
منفردة, فإن السوائل تنساب, ويجري فيما بينها تفاعل, تمتزج بفضله, في وحدة تجعل
منها شيئاً جديداً مختلفاً.
فكرة الأواني المستطرقة, هذه,
يشير إليها "ماريو يوسا" في رسالته الحادية عشر, من كتاب "رسائل
إلى روائي شاب", أنه يمكن استخدامها كأحد طرائق السرد, وتقنية من تقنيات
الكتابة التي يُمكن للكُتاب تناولها في نصوصهم. وتتلخص في تناول "الراوي"
لعدة أحداث, في أزمنة وأمكنة مختلفة, ومستويات واقع مختلفة (ووارد أيضاً أن تكون
في ذات الزمان والمكان, الفيصل يكمن في جوهر اختلاف الأحداث عن بعضها البعض, وإن
جمعها الزمان والمكان أو لم يجمعها) بطريقة متضافرة بشكل واعي, فينتج حدثاً عاماً
يجمع كل هذه الأحداث المتفرقة زماناً ومكاناً وموضوعاً وواقعاً (المقصود بالواقع
درجة اقتراب الحدث من الواقع أي احتمالية تحققه في الحياة) في بوتقة سردية واحدة,
تماماً كما منظومة الأواني المستطرقة. هذا التضافر والمزج الواعي بين الأحداث
المختلفة يصنع حدثاً مغايراً, بمدلول مختلف, تفشل الأحداث منفردة في تقديمه. كما
أنه يقدم تلطيفاً عند تناول أحداث حادة بمزجها بأحداث ناعمة على سبيل المثال, مما
يخرج مشهداً مغايراً بذائقة مختلفة. وأيضاً هذا المزج بين واقعتين يصنع حاله وسطية
من الواقع (أي يرتفع بمستوى الواقع ككل), على سبيل المثال, أحد الحدثين ملتصق بالواقع
والآخر خيالي بحت.
في رواية "مدام
بوفاري", يتناول الراوي مشهداً, يمزج فيه ثلاثة أحداث بطريقة متشابكة, هذا
المشهد أسماه الكاتب "المعرض الزراعي", وهو الفصل الثامن من القسم
الثاني من الرواية, ويتكون من مهرجان ريفي يعرض فيه المزارعون منتجات مزارعهم,
ويلقي المستشار لييفان خطبة سياسية لجمع من المسئولين, وفي ذات الوقت تستمتع
"مدام بوفاري" بكلمات الحب من عشيقها بقاعة الاجتماعات. يتم تصوير المزارعين
مثل آلات غارقة في أعمال روتينية قاسية, تجعل منهم هيئات مبتذلة خالية من الحساسية
والخيال, ويظهر مسئولي السلطة مثل شخصيات صغيرة ثرثارة ومضحكة, سمتها الأساسية هي
النفاق والرياء, والحدث الثالث لمدام "بوفاري" مع عشيقها في قاعة
الاجتماعات. عند تناول المشهد الأول الخاص بالمزارعين الحمقى البلهاء, فنجده مشهداً
قاسياً لدرجة تبعده عن الواقع واحتمالية وجود بشر بهذا النمط المزري, أما حدث
الساسة والمسئولين فيدعو للسخرية المفرطة والتهكم, من هنا يأتي نعومة حدث العشق
الخاص بمدام "بوفاري", ليقلل من قسوة وسخرية هذه اللوحة القاتمة للمعرض
الزراعي, حيث أن مشهد العشق إن أُخذ منفصلاً هو الآخر لظهر مبتذلاً فجاً. ما يريد
"يوسا" قوله أنه عند تناول كل حدث على حدة فإنه ينتقل بالحدث إلى منطقة
"اللاواقع", فكيف لمزارعين بهذه الهيئة أن يكونوا حقيقيين, وأيضاً أمثال
هؤلاء الساسة, ومشهد الغرام المبتذل في قاعة الاجتماعات, كيف يحدث مثل هذا الابتذال
في يوم مهرجان وفي قاعة الاجتماعات, ولكن عند المزج بتقنية الأواني المستطرقة
ترتفع احتمالية المنطق ككل, ففي وجود مزارعين بلهاء كالآلات الصماء, وساسة مشغولين
بالأكاذيب والثرثرة, من الممكن أن تمارس مدام "بوفاري" الحب مع عشيقها
في قاعة الاجتماعات الخاصة بالمهرجان, ليس هذا فحسب, وأيضاً فإن هذا المزج يُقلل
مستوى القسوة المنبعث من المزارعين من ناحية, والسخرية المنبعث الساسة من ناحية,
والابتذال من مشهد الغرام من ناحية, بحيث يعطوا متضافرين مشهداً مستساغاً ضاجاً
بالتأويل والرمز.
وهكذا بالضبط تفعل الأواني
المستطرقة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق