بقلم: عبد القادر كعبان
لا تزال التجربة الروائية الجزائرية تعرف
تطورا كبيرا بعدما تجاوزت مراحل التمرين و ممارسة الكتابة القصصية و كذا النضج
الفني، و هذا من خلال صدور روايات متنوعة المواضيع رغم هيمنة تيمة الإستعمار و
الثورة التحريرية في بدايتها، لكن اليوم نجد أسماء غيرت مسارها لتدخل حلبة المنافسة
في الوطن العربي بجدارة.
نقف اليوم أمام أحد هذه الأسماء و هو بشير
مفتي الذي اتخذ من الأفق الصوفي مجالا لتشكيل متخيله السردي في روايته الموسومة
"أشجار القيامة" (2005) التي لا تنحصر في صوت بل جاءت متعددة الأصوات غير
أن الخطاب الصوفي قد احتل المرتبة الأولى خلال عملية السرد.
المتأمل في عنوان الرواية سيجد حتما دخول
بشير مفتي الى عالم التصوف بشكل مباشر من خلاله، فعنوان "أشجار القيامة"
يقوم هنا مقام الوسيط بين الروائي و القارئ لمحاولة فهم محتوى الرواية.
يتكون العنوان من مفردتين "أشجار" واحدته
شجرة و هي نبات يقوم على ساق صلبة أما "القيامة" يعني يوم يقوم بعث
الخلائق للحساب، و من هنا نستنتج أن بشير مفتي يتيح لنا كقراء مجالا مفتوحا لفهم
محتوى صفحات الرواية مسبقا أين نعود الى القرآن الكريم لنشهد الميل الصوفي بكلام
الله لقوله عز و جل: "ألم ترى كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة
أصلها ثابت و فرعها في السماء (24) تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها و يضرب الله
الأمثال للناس لعلهم يتذكرون (25) و مثل كلمة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من
قرار (26) يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا و في الآخرة و
يضل الله الظالمين و يفعل الله ما يشاء (27)" (سورة إبراهيم: 24-27)، كما
نجد حتما هذه الكلمة قد وردت في مواطن أخرى من كتاب الله. أما عن كلمة
"القيامة" فنذكر على سبيل المثال قوله عز وجل: "كل نفس ذائقة
الموت و إنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار و أدخل الجنة فقد فاز و
ما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور" (سورة آل عمران: 185).
إن قارئ عنوان هذه الرواية سيجد مفهوم المقام
الصوفي لا ينحصر في الصعيد الإصطلاحي للمفردتين بل في أفقه الدلالي لأنه يوحي
بالحياة التي تتمثل في الأشجار و الموت و البعث المتمثل في يوم القيامة لكن يبقى
المعنى غامضا و لا بد من قراءة العمل الروائي بشكل كامل لفهم الخلفية الدلالية
العاكسة لوعي الكاتب بإمتياز.
تنقسم العتبات النصية في رواية "أشجار
القيامة" إلى ثمانية عنوانين فرعية لكن عاد التكرار يلعب دوره في تلك
العناوين من خلال شخصية "الراوي" و شخصية "كريمة" و هي من
الشخصيات المحورية التي تدور في فلكها سائر شخصيات الرواية كشخصية "ساعد"
و "زهرة" خاصة، فضلا عن الشخصيات الأخرى التي يلقها مصادفة و تنشأ بينه
و بينها علاقات تختلف مساراتها و صورها و نهاياتها.
تعرف تشكلات الخطاب السردي تنوعا و تعددا وفق
مكوناتها السردية إلا أنه يمكن التركيز على نقطتين أساسيتين في الخطاب السردي ألا
و هما "خطاب الرواي" و "خطاب المروي" و هما يخلقان بدورهما
ازدواجية تكاملية تعكس جمالية دلالية داخل العمل الروائي.
الخطاب الرواي الذي يعكسه السارد في
"أشجار القيامة" يتجلى في أكثر من صورة، تتخفى وراءها ذات الروائي بشير
مفتي، فهناك السارد العليم الذي يتولى سرد جوانب من محكي شخصية "الرواي"
الذي يفتح بدوره عالمه السردي من خلال الخاتمة التي تتمثل في انتحاره في حادث
سيارة و قد جاء خطابه بضمير المتكلم المفرد.
يسعى بشير مفتي من خلال روايته لفتح المجال
أمام شخصيات أخرى أيضا كي تصوغ خطابها بنفسها بضمير المتكلم لتتحول إلى ساردة و
موضوع سرد في آن واحد كما هو شأن شخصية "كريمة" التي تعد أيضا من
الشخصيات الرئيسية التي عشقت الرواي بجنون
و التي لم تتحمل حبه لشخصية "زهرة" و بالتالي حاولت التفرقة
بينهما بشتى السبل.
كل ما يتعلق بالخطاب المروي في "أشجار
القيامة" يعكسه ذلك التناوب في عملية السرد من خلال شخصيات الرواية، فالحكاية
الإطار هي حكاية الراوي الذي أسند إليه الكاتب دور البطولة في مختلف مساراتها و
تحولاتها و مصائرها. و هي الحكاية التي ضمنها بشير مفتي عددا آخر من الحكايات تتصل
بشخصيات أخرى و نذكر على سبيل المثال شخصية "كريمة" و كذا شخصية
"زهرة".
تتداخل الأزمنة في رواية "أشجار
القيامة" من خلال ذلك التزاوج بين الحاضر و الماضي لكن يبقى الحاضر مهيمنا
على تيمة العمل الأدبي من خلال جملة التجارب و الوقائع الذاتية للشخصيات بشكل عام.
تطغى نبرة الجدل و الحجاج من خلال ملامح النص
الصوفي إجمالا في هذه الرواية حيث يقول الراوي: "كنت أرغب في الرحيل، ليس
الرحيل النهائي الذي يتأتى في رمشة عين. الذي هو بداية لرحيل آخر، أعرف أنني أهذي،
أن عيناي تصرخان و تتضرعان، و أن قلبي من فرط ما هونت قواه صار يأمل في الغياب،
الغياب الكلي، المطلق، النسيان المدمر، حيث تفقد الذاكرة لوقت طويل سلطانها
علي." (ص 18-19). من خلال هذا المثال يطرح مفتي رغبة شخصيته في الترحال و
السفر كالمتصوفين لكنه يتشكل في نوع آخر من الترحال يفوق تغيير المكان ألا و هو
رحيل يجعله في إتصال بالذات الإلاهية أين يحاول الروائي تصوير علاقة الإنسان
بخالقه في سياق يتقاطع مع بعض أوجه الخطاب الصوفي ساعيا بشكل عام إلى إنشاء نص
روائي حداثي يبعد عن النمط الكلاسيكي المعروف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق