2015/08/27

من سمات الشَّخصية الرُّوسِيَّة قراءة في القِصَّة الرُّوسيَّة مطلع القَرن العِشرين بقلم: د. محمد مبارك البندارى



من سمات الشَّخصية الرُّوسِيَّة
قراءة في القِصَّة الرُّوسيَّة مطلع القَرن العِشرين

بقلم: د. محمد مبارك البندارى
عضو هيئة التدريس في جامعة الأزهر 

نحاول أن نتعرّف على بعض سمات الشخصية الروسية من خلال بعض الأعمال السردية الروسية   التى ترجمت في بدايات القرن الماضى في المجلات المصرية ،  كمجلة البيان لعبدالرحمن البرقوقى التى خصصت بابا للقصص المترجمة ، وصحيفة " النفائس المصريّة " 1908م لخليل بيدس ، وبالطبع كانت " البيان " سبَّاقة عن غيرها من الصحف الأدبيَّة – آنذاك – في نقل القصة الروسيّة .
والأدب الروسىّ له مكانته بين الآداب العالميّة ، فقد أثرت الواقعيّة الروسية على الحركة الأدبيَّة القصصية في أوربا ، بما قدمت من تراث إنسانى خالد عن طريق كبار كتّابه ، وناهيك بما للأدب الروسى الآن من السلطان الفكرى في أوربا ، بل لقد بزَّ الآداب الفرنسية والإنجليزية والألمانية والإيطالية ، وسما عليها جميعًا في الروائيات والنفسيَّات ؛ حسبه أنه أخرج للعالم تولستوى ،  ومكسيم غوركى ، وتورجنيف ، ودستؤفسكى ، وأندريف ، وجوجول ، وبوشكين ، وكوربوتكين ، مهذبى الفكر الحديث ، وهادمى الآداب البالية .
لقد ترجم المصريون كثيرا من القصص  الروسي الواقعيّ ، لأنَّ أغلب ما ترجم  من الأعمال القصصية في بداية القرن الماضى كانت موضوعاتها تمس ، ولو بطريق غير مباشر قضايا قريبة من المشاكل الموجودة في المجتمع العربى وفى مصر خاصة آنذاك، فالآداب الروسية أشبه الآداب بنا وأجداها علينا لما يربطنا بها من صلة شرقيّة ، جعلت عادتنا ربما تبدو متجانسة متشابهة  .
وكانت هذه الترجمات للمجموعات القصصية الروسية تعطينا فكرة عن الاتجاهات الأدبية ، والشعب الروسى ومشاكله الاجتماعية والنفسيّة ، وعلاقة الإنسان بخالقه وبأخيه الإنسان ، وبالعالم كله .  

وتميّزت الشخصية الروسيّة في أعمالها الأدبيّة بالتحليل النفسىّ ، وهى تهتم بأدق الجوانب النفسيّة على مستوى الأفراد والجماعات في عصر وموقف معينين .
        ولعل من أوائل ما ترجم قصة " هل كان مجنُونًا ؟ " للروائى ليونيداس اندريف ، وهى تدلل على علاقة الأدب بالعلوم الأخرى  ؛ وذلك لغرابة موضوعها وحوادثها ، إذ بلغ من أهميتها أن عُقِدَ مجمع للأخصائيين في الأمراض العقلية للتباحث في أمرها ، وتحليل دقائقها تحليلًا طبيًّا نفسيًّا إلى درجة أنها كانت مثارًا لتضَارب آراء المفكرين والباحثين ، وانقسامهم حولها .
وقد امتازت هذه القصة – شأن كثير من القصص الروسى – بعنصر الصدق والبساطة في سرد الأحداث ؛ رغم ما يحيطها من غموض ، فهى قصة طبيب قتل صديقه المحامى ورفيق دربه في المراحل الدراسية ؛ في حين لم يكن للقتل سبب ظاهر ، فقد كان صديقه " ليكسيز " رجلًا طيبًا ، وثَّاب الشعور ، وذا شخصيَّة كبيرة تدعو إلى الاحترام .
ولم يصادف الدكتور " أنطونى كرجنتزف " في الدنيا أحدًا كصديقه ، والذى يعدّه رجلًا بريئًا لا يستحق القتل .
       وتدور محور الأحداث بعدئذٍ على سؤال القاتل لنفسه لماذا قتل صديقه ؟ في مذكرة يقدمها إلى أطبائه في مستشفى الأمراض النفسيّة ، راح يبسّط فيها ما وقع من أمره ، محاولًا البحث عن حقيقة ذاته في الدوافع من وراء القتل هل هو الانتقام أم أنه مصابٌ بداء الجنون .
      وتظهر الحقيقة من خلال إفضاء البطل بما يدور بأعماق نفسه من حقائق من الصعب الإسرار بها في مثل قوله : " ولا أستطيع أن أتذكر متى كان أول تفكيرى في قتل الكسيز ، وكل ما أعلم أننى ألفت هذه الفكرة حتى لكأنها ولدت معى وأعرف أننى كنتُ أريد أن أنزل بتاتيانا ( زوجة المقتول ) العذاب والألم ... وكنت أعرف ما هو القتل ، وأعلم أنه جريمة يشتد القانون في العقاب عليها ، ولكن أليست كل أعمالنا جرائم مختلفة الضروب والأنواع .

كنت لا أشعر خوف من نفسى ، وهذا كل شئ عند المجرم ، إن أخوف ما يخافه القاتل والمجرم ليست الشرطة ولا القاضى ولا العقاب ، وإنما نفسه التى يخاف ، هى أعصابه وإرادته وضميره ، وجعلتُ أفكّر في هذا الموضوع وأروئ فيه البصر ، جعلت أدرسه وأعيه وأفحصه ... والآن وقد تحققت خطتى عساكم تسألون ترى أيحزننى الآن ضميرى ، وهل أشعر بندم أو أسف ؟ وأجيبكم كلا ، ولا ذرَّة من ندم . أشعر بألم شديد هائل ، ما أظن أحدًا غيرى في العالم عاناه . [1]

    وقد صورت  القصة الروسية العواطف الإنسانية  في الإنسان الروسى ، وهاجمت الشخصيّة التركية ودعت إلى ترك الحروب وصورت ما فعلته الحروب بالبشر ، ففى قصة " محمد بك " للروائى الروسى دانشينكو روح متمرة تهدم فكرة الحروب ، وتنعى على مثيريها ومضرميها ، ووصفها بعض النقاد بأنها من أولى الروايات الإنسانيَّة المبكيَّة المحزنة ، لأنها مأساة تفيض تأثيرًا وعظمة وسموًا وعلاءً .
ولعل مكمن الجمال فيها أن القاص جعل وقائعها عامة ؛ لم تختص بها أمة أو ينفرد بها شعب ، أو قصد أن يمدح قومه الروس وينتقص من قدر الترك ، بل حملت مشاعر إنسانية اشتركت فيها جميع الأمم ، فكانت من أسمى القصص الروسى .
 ولئن كانت شخصية الروس في هذه الرواية زاهية مشرقة لامعة ؛ فإن شخصية " محمد بك " وهو الأسير التركى فيها أسمى وأروع من الضابط الروسى معتقه ؛ لأنه هو الذى أثار في تلك الأثواب العسكرية الخشنة تلك الروح السامية العالية ، هو الذى خلق من ذلك القلب للجندى الفظ ، ذلك الفؤاد الرقيق الإنسانى النبيل ، هو الذى جعل الضابط يخرج على شرائع الحرب ويهزأ بقوانين الأسر ، ويعصى مصطلحات الجندية ...
ولعل هذه القصة تحمل في طياتها رؤية انطباعية للحروب التر رأيناها في القرن الماضى  ، وكأنها تمثّل ويلات الحروب .
 ولعلنا بذلك كله ندرّب الأديب الناشئ على كيفية تذوق النص المترجم .
و نجد قصة  " قصة عجيبة " للكاتب الروسى إيفان تورجنيف توضح الفرق الأساسى الذى يميز الشعب الروسى عن الشعوب الغربية ن فهذه القصة العجيبة هى بحث ( سيكولوجى ) .  
وهذا الفرق أبرزه القاص من خلال شخصية فتاة غفل تدعى " صوفيا " آمنت بمبدأ خاطئ في ذاته نادى به أحد المشعوذين ن ادعى فيه أنه رجل قديس ، وانتهى بها إيمانها بأقوال ذلك الرجل إلى الموت .

ولعل تحليلنا مبنى على مقولة البطلة عن الإرادة : " إنك تحدثنى عن الإرادة ، والذى أرى وأعتقد هو أن الإرادة يجبُ أن تُسحق وتُمحق " .
فما " صوفيا " في هذه القصة إلا رمز لشخصية وإرادة الفرد الروسى ، فكلمتها تلك تبين بوضوح جلى أرسخ عقائد النفس الروسية ، وأعمق أمانيها وأغراضها ن فالروسى لديه رغبة دائمة في تعريض نفسه لآلام الحياة ومنغصاتها ، وذل النفس بقهرها لتداس تحت أقدام الغير ، وهذا يدل على إرادته الضعيفة ، فالاستسلام والاستكانة أسهل عليه من أن يكون مقتدرًا وقويًّا وعالى الهمة ، بل إن هذا الاستسلام منبع فضائله ومناقبه المميزة له عن غيره ، والتى تميّزه عن طبيعة الإرادة عند الغرب ن ولعل طبيعة الشعب ظهرت من ناحية تطبيقية في شخصية " صوفيا " .[2]
وكذلك إذا أمعنا النظر في شخصية " صوفيا " وجدنا أن فرط رغبتها في ضحية نفسها وراسخ عقيدتها في أن الحق والصواب هو تعريض النفس لمكابدة الآلام والمشاق هو أشبه بأخلاق الروس وغرائزهم ... ومن ثمَّ مصدر تلك الروح المخيفة – روح الجيل الحديث في مطلع القرن الماضى الذى ضحى نفسه في حركة ( النيهلست )[3] ، فإن باعث " تضحية النفس " كان يدفع " بالشاب " الغيور المتوقد إلى غايته المقصودة على الرغم من كافة المؤثرات والعوامل الحائلة بينه وبين غرضه ، وعلى ذلك فإن " صوفيا " بطلة القصة هى فتاة نهلستية سابقة لأوانها .
وكذا ورواية " الصورة المشهورة " لنيغولايف جوجول ...
وترجمة مجلاتنا الأدبية لهذه الأعمال الروسية كان مقصدها الأول مواكبة التطور في الأدب ، وإظهار مستجدات الأدب العالمى على مائدة الأدب العربىّ ، وخاصة أنه قد راج هذا النوع من القصص في الأدب منذ النصف الثانى من القرن التاسع عشر ، وامتد تأثيره بعدئذٍ على جوانب التحليل النفسى في القصص الأوربى .

  فهذا " محمود تيمور " أحد رواد القصة العربية ، ممن ظهروا في بدايات القرن العشرين ؛ ظل طوال حياتهمتعلقًا بالأدب الروسى ؛ وواقعًا تحت تأثير تشيخوف ، بل إنه كتب قصصه وحيًا من فنّه .[4]
 وتشيخوف الروسى أعجب به النقاد أيما إعجاب فقد وصف بأنه فاق أقرانه بعدة مميزات ، منها أن له يدًا طولى في نهضة الآداب الروسية الحديثة ، ومقدرة فائقة في تصوير الطبقات المتوسطة ، ثم مقدرته الفنية التى خلف بها تورجنيف ، وسوداويّته التى شابهت إلى حد ما سوداوية شوبنهور وإن كانت أخف منها للروح الإنسانية والفكاهة التى سادت حكاياته [5].
فلم يكن من الأدباء العاديين الذين يقعون على التافه من الموضوعات ، بل اجتهد في أن يبرز الشخصية الروسية وأن يبث كل جديد أو مغزى اجتماعى صالح ، أو تحليل نفسانى غريب في رواياته .
فمثلا يصور التحلل الأخلاقى ونتائجه كشرب الخمر مثلا في قصته " رأس العائلة " ، وهى تعرض قصة شقاء أسرة بسبب رب البيت الذى فقد رجولته وهمته جراء استسلامه للشهوات من خمر وقمار مع الإسراف فيها ، وعادته بعد صحوه من الثمالة أن يصب جم غضبه وسخطه على ابنه الصغير " فيديا " ... فيوقف في ركن الحجرة ويسبه ويعاقبه ورغم بكاء الطفل إلا أنه يقول له لن أرحمك ، يجب عليك أن تؤدى واجبك ....إن أباك يشتغل ، وعليك أن تشتغل ... كن رجلا !
لقد حاول تشيخوف تصوير الحياة على حقيقتها ،وبكل ما فيها من شفافية ،  وقد نجد ذلك في بعض البيوت المصرية ، وقد تبدو هذه المشكلة بسيطة للوهلة الأولى ، بيد أن النظر إليها بعمق وعلى نحو دقيق يفتح الأعين والأذهان على أغوار الحياة الحقيقية وصراعاتها ونقائضها .




[1] -  مجلة البيان ع 10 – 1914 ص 545  .
[2] - مجلة البيان لعبدالرحمن البرقوقى ، ع 6 ، 1919م ، ص 341 .
[3] -  النيهيست : تعنى العدمية ، وهى نظرية تقول بأنه ليس يوجد شئ على الإطلاق ، وإذا كان شئ فالإنسان قاصر عن إدراكه ، وإذا أدركه فلن يستطيع أن يبلغه لغيره من الناس ، وللأسف تنكر القيم والأخلاق ، كما أنها عقيدة حزب سياسى في روسيا ، تدور على تحرير الفرد من كل سلطة ، وأول من أطلق لفظ العدمية الأديب الروسى تورجنيف في رواية " آباء وأبناء " . والكاتب جان بول سارتر أحد من ربط العدمية بنظرياته الوجودية في رسالته " الوجود والعدم " . ينظر : المصطلحات العلمية والفنية للمجامع والجامعات العربية ، إعداد وتصنيف : نديم وأسامة مرعشلى ، ط . دار الحضارة العربية بيروت 1974 م ،( باب العدم ) ، ود . كمال عيد : " فلسفة الأدب والفن  ، ط . دار العربية للكتاب بليبيا ط . 1 –1978م ، ص 197 .
[4] - محمد إبراهيم عبدالرحمن : الأدب المقارن بين النظرية والتطبيق ص 134 ، مكتبة الشباب بالقاهرة 1976م ز
[5] - مجلة البيان للبرقوقى ع 4 ، 1921م ، ص190 .

ليست هناك تعليقات: