بقلم: أسامة الزيني
ما الذي يريد أن يستدرجنا إليه الروائي أحمد قرني في روايته
"صلاة إبليس"؟ في تقديري هذه رواية الأسئلة بامتياز، لكنها أسئلة مفخخة،
لا سبيل إلى تحاشي التورط فيها، لأنها تحاصرك طوال قراءتك للعمل بعينين مفتوحتين
على ما يمرره المؤلف بين يديك من مضامين عميقة.
ولا يمكنك الفكاك من الإجابة عنها، لأنها أسئلة وجودية بالأساس، قد يتوهم
القارئ للوهلة الأولى أنها لا تعني سوى أصحابها من سكان بر المناشي عرنيش الجافي
وحريش الغابي والعمدة فتوح ومرعي البرادعي وعنتر النوبي وسماح وسفيرة وعزة لبيب
القمص، لكنه في الأخير يجد نفسه معنيًا بها تمامًا، ويتملكه شعور قوي بأنه أحد
هؤلاء، حين يجد نفسه منحازًا للعاشق الثائر الجسور حريش الغابي، ومتعاطفًا مع
الإمام العاشق مرعي البرادعي، ومتألمًا للعاشق الانسحابي المستضعف عنتر النوبي..
فقط الوحيد الذي لن يكون أحدنا مكانه هو فرخ الجن (جوان)، وكان هذا مدهشًا أن يكون أحد أبطال العمل من أمة الجن، والأكثر دهشة أنه هو الذي يتمنى أن يكون مكاننا. فأية دهشة يفجرها هذا العمل، وأي تساؤلات بالغة العمق؟
ونحن نواجَه بهذه الأمنية العجيبة للجني خادم الساحر عرنيش الجافي الذي تكمن معاناته مع سيده وصاحب الولاية عليه أنه طوال الوقت يهرب منه لينخرط في حياة أهل "المناشي" بدلاً من أن يبقى في وادي الحلفاء المتاخم للقرية برفقة الثعابين والحيات حتى يستدعيه سيده ليكلفه بإحدى المهام التي كانت تتركز في مراقبة عشاق القرية والتفريق بينهم بأمر من الجافي لإنفاذ إرادة من يلجأون إليه للاستفادة من خدمات خدامه من الجن؛ سواء العمدة فتوح الذي يسعى ليفرق بين حريش الغابي وسماح التي يريدها العمدة لنفسه، أو لبيب القمص الذي يسعى ليفرق بين عنتر النوبي وابنته عزة التي ليست من دينه حتى لا تحدث فتنة كبرى، أو بين مرعي البرادعي وسفيرة التي يردها فرخ الجن (جوان) نفسه بعدما وقع في عشقها.
العشق إذن بطل هذا العمل، لكنه بطل محارَب محكوم عليه بالموت في معارك شهداؤها عشاق تعارض عشقهم مع مصالح الأقوياء حتى الجني أصبح شهيد عشقه لسفيرة، العشق المحرَّم عليه بسلطان عرنيش الجافي. الذي علم بأمره فقرر عقابه "حمل الهواء طرف جلبابها القطيفة حينها تسمر جوان مكانه على النخلة بعد أن رأى جسد سفيرة بازغا أمامه كطبق البنور. كيف لقلبه أن ينبض وهو بلا قلب؟
مشهد البنت سفيرة وهى غارقة فى فدان البرسيم ظل عالقا فى رأس المجنون. أخذ يسألني كثيرا عن سفيرة ابنة حامد ويسألني كل مرة التقيه هناك فى الخور أسئلة عجيبة حتى أنه سألني مرة في خبث قائلاً: "هل يمكنني أن أفعل مثلما يفعل حريش مع سماح تحت عنباية الحاج مفتاح؟ العشق ليس لنا يا ملعون، لهذا أنت تستحق التأديب هنا في الخزان؛ لأنك تريد سفيرة وسفيرة ليست لك".
لكنّ السهم كان قد نفذ، ووقع العشق في قلب الجني، وبالفعل دخل "جوان" جسد سفيرة "أعرف أنك يا ملعون وبسبب عشقك للبنت دخلت بيت حامد دون أن يشعر بك أحد وتسللت إلى حجرتها ورأيت وجهها الطيب حين تنام، كنت تدخلها من باب الحلم وتغريها بك مرات عديدة، يالك من ملعون تستعمل حيلك التي علمتك إياها، تدخل أحلام البنت سفيرة كل ليلة. وها أنت ذقت العشق وعرفت طعم أن تدخل جسد امرأة بعد أن دخلت جسد سفيرة وبقيت فيه، كيف وجدت جسدها يا ملعون؟ كيف ذقت حلاوته؟".
ولقد استحق هذا العاشق الجريء العقاب جزاء فعلته التي تعد انتهاكًا لقانون مملكة الجافي "أيها الصبي اللاهى سوف تنال عقابك الآن بعد أن تصلب أمامي على حائط الخزان، سوف أجعلك تبوح لي بكل ما شعرت به هناك وأنت تجري في دمها وأنت تمر من بين أصابعها وأنت تلعق أناملها، سوف أذيقك أشد العذاب". بيد أن الجني ليس وحده من دفع ثمن عشقه للإنسية سفيرة.. سفيرة أيضًا دفعت الثمن في الأخير، حين وجدوا جثتها عائمة على ترعة بحر المناشي "وذهبوا به إلى بيت حامد الرديني ليخبروا أمها جملات أنهم وجدوا جسد سفيرة طافيًا على سطح ماء ترعة المناشي، ذلك الجسد الذي استباحه إبليس".
العشق إذن كان صلاة إبليس في هذا العمل، إبليس الذي يتمنى في هذا العمل لو كان في مكان آدم.. إبليس الذي أخضعه سلطان العشق. يقول الجني العاشق: "جلست تمشط شعرها الأسود الطويل، انحسر جلبابها عن فخذين وجسد طري، رأيت عيني مرعي تتسعان ورأيته ينتفض في مكانه. حلمت وأنا ممدد على سطح بيت سفيرة أن أضمها كما يضم حريش سماح أمامي تحت العنباية لتدخل جسده ويتعانقان.
لا أعرف ما الذي شعر به حريش ساعتها؟ لماذا غاب هكذا عن الدنيا... تمنيت داخلي أن أجرب إحساسًا كهذا، أمتلك جسدًا يمنحني هذه اللذة العجيبة. أود أن أجرب إحساس مخلوق ليس مثلي، كيف يمكن أن يجد المرء لذة بمجرد أن يلمس غيره؟! أتأمل عاشقين يرتعان أمامي في مرح وأنا مكبل بجسدي الذي لا تدخله الشهوة ولا يتيح لي عناق المخلوقات. كانت المرة الأولى التي هممت أن أعاتب الله أن جعلني على هذه الهيئة، تمنيت أن أكون مثل حريش لي قلب وجسد تتمناه سماح. ذلك الشعور الذي تسرب داخلي، لم أستطع أن أسيطر عليه".
لقد بلغ العشق من الجني كل مبلغ، حتى إنه طلب من سيده عرنيش الجافي أن "أعطني جسد مرعى البرادعي وأمنحك كل شيء"، لأنه في حاجة للظهور لسفيرة على الهيئة التي تحبها، هيئة حبيبها مرعي حتى يشعر باللذة معها، لذة الجسد.
اللذة التي ينتصر لها هذا العمل بقوة، ويرى أنها اللذة الحقيقية التي نبحث عنها جميعًا، وأننا حين نتحدث عن عشق الروح فإنما نردد كذبًا محضًا تحت تأثير الوهم أو قلة الحيلة أو الرغبة في الهرب، وأننا آنذاك نحمل أنفسنا فوق ما نطيق، هكذا يخلص السارد إلى "الجسد هو الفعل.. تود أن تعذب جسدك لتصير صوفياً؟ تريد أن تتخلص من شهوتك؟ تريد أن تجعله جسدًا نحيلاً لا حياة فيه، تمنعه عن الحياة وهو خلق لها؟ الصوفي يهرب بعذابه ويظن أنه يعبد الله ويتقرب إليه، لكن كيف تترك سفيره يعذبها جسدها ثم تجلس أنت خلف أعواد القطن الناشفة، هذا العذاب لا يجعلك صوفيًا ولا حتى مؤمنًا نقيًا".
هكذا ذهب أحمد قرني بعيدًا في طريقه إلى العمق وهو يقر على لسان سفيرة معاتبة مرعي البرادعي الذي كان يرى في عشقه إياها خطيئة قرر أن يتخلص منها بالتصوف والزهد، لكن سفيرة كانت ترى أن العشق ليس خطيئة، بل إنه من تمام الإيمان، وأن العاشق المؤمن هو من يدافع عن عشقه بالزواج، وليس من يهرب، وأن الحديث عن خطيئة العشق ليس أكثر من نوع من الهرب والعجز عن المواجهة، لانتزاع هذا العشق، فالعشق الإلهي فقط هو عشق الروح، أما عشق الأجساد، فهو عشق اللذة، اللذة التي هرب منها مرعي البرادعي تحت تأثير الصراع بين كونه إماماً يصعد المنبر ليخطب في الناس وكونه عاشقًا متيمًا بسفيرة التي كان جمالها يشعله، وفي الوقت نفسه كان رفض أبيها حامد الرديني ورغبة العمدة في الانتقام منه لتعرضه له على المنبر يقفان حائلاً دون بلوغه لذة هذا العشق بالزواج من سفيرة.
يقول مرعي: "لم أفلح أن أصبح عاشقًا يتمنى سفيرة ويدخل جسدها، يعانق روحها، كنت تريدها لكنك هربت، ظننت أنك ستهرب من جسدك لتكون صوفيًا يخلص للنور ويتخلص من فضلات اللذة التي هي من صفات الجسد البالي. لذت بالفرار داخلك، أن تكون صوفيًا يروض جسده ويتخلص من شهوته وينتقل إلى أرض فسيحة، أرض تتسع لأشواقه وعذاباته، أرض مثل أرض الخور ووادي الحلفاء".
وكانت أرض الخور ووادي الحلفاء معادلاً موضوعيًا لأكثر من عالم، بعضها أضداد، ففي الوقت الذي كانت فيه فضاءَ بوح يتطلع إليه العاشق الذي هجر لذة الجسد مرعي البرادعي، كانت لعاشق جسور مغامر من طراز حريش الغابي أرض الكنز التي يتطلع لاقتحامها ومواجهة حياتها ووحوشها حتى يصل إلى الكنز ويأتي به مهرًا لسماح، وكانت بالنسبة إلى العمدة فتوح جزءًا من حدود إرثه الكبير عن أجداده، القرية بحجرها وبشرها، لكن وجود عرنيش الجافي كان يحول دون حلم العمدة فتوح، على الرغم من أنهما شريكان، فلدى الجافي سلطان الوهم الذي يخضع به الناس للعمدة فتوح.
الوهم الذي يمنع الجميع من التفكير في الصعود إلى وادي الحلفاء بعدما غرس في نفوسهم الذعر من لدغ حياته المميتة وفحيح ثعابينه، لكنه في الوقت نفسه كان خاضعًا لسلطان الحكم والسلطة والقوة الذي يمتلكه العمدة فتوح، فالتقت المصالح على توجس من الطرفين، لعلم العمدة فتوح بأطماع عرنيش الجافي وأيضًا باستعداده لتوظيف خدماته الكهنوتية لأصحاب السلطة المحتملين "بيت خروشة" الذين لهم ثأر مع عائلة فتوح ويتطلعون للوثوب على انتزاع منصب العمدة من أيديهم، مستفيدين أيضًا من الآلة الإعلامية الجبارة لعرنيش الجافي الذي بوسعه غرس ما شاء من أوهام والترويج لها بين الناس تمامًا مثلما نجح في غرس أسطورة الذعر من وادي الحلفاء وثعابينه وحياته التي ستهجم على بيوتهم..
الذعر الذي دفعهم للمرة الأولى لمعارضة رغبة العمدة فتوح في إزالة وادي الحلفاء، حين حاول العمدة فتوح "مع رجال الحكومة أن تحضر اللودر لكي يزيل وادي الحلفاء لكن الناس في المناشي خرجت عن بكرة أبيها في مشهد عظيم حين قال لهم الشيخ عرنيش الجافي إنه ما إن يدخل اللودر أرض الحلفاء ستنطلق العقارب والحيات إلى بيوت المناشي وستطرد أهل المناشي من منازلهم، إنها وحوش الثعابين تسكن أرض الحلفاء هو يراها بعينيه حين يصعد إلى الخور ويمر بجوار نخلات عطية، يسمع بأذنيه فحيح الأفاعي العملاقة التي يمكن لأفعى واحدة منها أن تبتلع إنسانًا كاملاً".
هكذا حكم العمدة فتوح وعرنيش الجافي جميع أهل المناشي بالخوف والوهم، لكن العشق كان أقوى من الخوف وأقوى من الوهم، فلم يكن العاشق الجسور حريش وحده الذي تجاسر على الصعود إلى وادي الحلفاء من أجل إهداء كنوزه لسماح، أيضاً مرعي البرادعي قرر الصعود إلى وادي الحلفاء لكن بحثًا عن عشق آخر، عن العشق الإلهي الذي لم يجد غير وادي الحلفاء مهربًا إليه من عشق جسد سفيرة الفاني.
هرب أشبه بهرب عنتر النوبي من عشق عزة لبيب القمص التي احتجبت إلى الأبد خلف أسوار دير العزب بقرار من أبيها، لتحاشي فتنة العشق التي كانت على وشك أن تشعل القرية إن نجح عنتر في الوصول إليها، لكن ظرف هذا العاشق الاجتماعي لم يكن يؤهله ليتجاسر على الصعود إلى وادي الحلفاء للحاق بركب العشاق، إذ كان عمل أمه " حسنية الحفافة" في تزيين النساء عارًا اجتماعيًا كافيًا لدفعه لترك البلاد وأهلها والفرار بعاره إلى خارج البلاد تحت تأثير شعور ضاغط بالدونية، فلم يعد هناك ما يستحق مواجهة أي شيء من أجله، بعدما انتزعوا عشقه من يديه.
وكانت الرسالة هنا، أن العشق تلك الطاقة التي نستمد منها وجودنا ونواجه تحدياته مهما بلغت، حتى إن كانت أم أحدنا "حفافة"، الطاقة التي نفقد في غيابها قدرتنا على المواجهة، تماماً مثل هذا العاشق الانسحابي الذي سبق أن هرب من الصعود إلى المنبر لأداء خطبة الجمعة تحت تأثير ذاك الشعور بالوضاعة. يقول مرعي عن صديقه العاشق المنهار: " كان فرحا حين قال في رسالته الأولى إن أحدًا هنا لا يسأله عن ماضيه، عرفت ماذا يعني؟
كان يود الخلاص من تركة ثقيلة على نفسه"، وكان سقوط عنتر حسين من أحد الطرق الجبلية في الحجاز بسيارته في حادث سير مروع، نهاية لمعاناته مع تلك التركة، نهاية تسببت في ذهول عزة القمص التي ما إن أخرجوها من الدير بعد ذيوع نبأ وفاته حتى "هامت على وجهها فى طرقات المناشي على وقع سماعها الخبر, ظلت غائبة عن الوعي أيامًا لا تفيق إلا لثوانٍ وحين فاقت من سياتها ذهبت إلى ترعة المناشي، كان هذا أول لقاء جمعها به، عزة القمص قالت لمن حولها إنها رأت عنتر النوبي عند ترعة المناشي يستحم.
حسنية ذهبت إلى ترعة المناشي ونامت هناك وعادت لتقول إنها رأته يعبر الخور متجها إلى وادي الحلفاء وكان مبتسما يرتدي البياض".
عنتر النوبي إذن لحق برفاقه ركب العشاق أخيراً إلى وادي الحلفاء، هناك حيث جنة المناشي (الكنوز ونخلات عطية) وسعيرها (الأفاعي والحيات)، لكنه لحق بهم روحًا بعد فناء جسده، في مشهد يحسب للسارد فيه توظيف الروايات الميتافيزيقيةالدارجة في كثير من البيئات المحلية المعزولة في القرى، تمامًا مثل توظيف الميتافيزيقا في دور الجني (جوان) مستنداً إلى كثير من الوقائع والمفاهيم المتداولة بهذا الخصوص في تلك البيئات، ما يحيل قارئ العمل إلى تلك الأجواء الحميمية في عمق الريف المصري، ويضع العمل في مرحلة برزخية بين الواقع والخيال، مستندًا إلى رصيد الأسطورة التي وُظفت بذكاء في هذا العمل، واقتسمت أحداثه مع الواقع، من دون أن ينتابنا شعور في أي من لحظات العمل، أننا إزاء نص فانتازي على الإطلاق، فكثير من هذه التفاصيل التي جمعها العمل على غرابتها وميتافيزيقيتها لها مرجعيتها في القصص الشعبية وفي الوعي الجمعي لقطاع عريض، لا أقول من المصريين، بل من سكان منطقة الشرق الأوسط.
يذكر أن رواية "صلاة إبليس" هى الرواية السادسة للكاتب أحمد قرني بعد روايته "الأقدس" التى حصلت على جائزة اتحاد كتاب مصر 2012، ورواية "حارس السور" التى فازت بجائزة مجلة الصدى الإماراتية، ورواية "آخر سلالة عائلة البحار" التى فازت بجائزة الشارقة للإبداع العربي، وجائزة نادى القصة، ورواية "سماء الحضرة" التى حصلت على جائزة أفضل عمل روائي بالنشر الإقليمى عام 2014، ومؤخرًا أصدر رواية "كما يليق بحفيد"، كما فازت روايته "مثل قطعة كريستال" بجائزة أفضل رواية فى مسابقة مجلة الثقافة الجديدة التى أقيمت تحت رعاية وزارة الثقافة.
فقط الوحيد الذي لن يكون أحدنا مكانه هو فرخ الجن (جوان)، وكان هذا مدهشًا أن يكون أحد أبطال العمل من أمة الجن، والأكثر دهشة أنه هو الذي يتمنى أن يكون مكاننا. فأية دهشة يفجرها هذا العمل، وأي تساؤلات بالغة العمق؟
ونحن نواجَه بهذه الأمنية العجيبة للجني خادم الساحر عرنيش الجافي الذي تكمن معاناته مع سيده وصاحب الولاية عليه أنه طوال الوقت يهرب منه لينخرط في حياة أهل "المناشي" بدلاً من أن يبقى في وادي الحلفاء المتاخم للقرية برفقة الثعابين والحيات حتى يستدعيه سيده ليكلفه بإحدى المهام التي كانت تتركز في مراقبة عشاق القرية والتفريق بينهم بأمر من الجافي لإنفاذ إرادة من يلجأون إليه للاستفادة من خدمات خدامه من الجن؛ سواء العمدة فتوح الذي يسعى ليفرق بين حريش الغابي وسماح التي يريدها العمدة لنفسه، أو لبيب القمص الذي يسعى ليفرق بين عنتر النوبي وابنته عزة التي ليست من دينه حتى لا تحدث فتنة كبرى، أو بين مرعي البرادعي وسفيرة التي يردها فرخ الجن (جوان) نفسه بعدما وقع في عشقها.
العشق إذن بطل هذا العمل، لكنه بطل محارَب محكوم عليه بالموت في معارك شهداؤها عشاق تعارض عشقهم مع مصالح الأقوياء حتى الجني أصبح شهيد عشقه لسفيرة، العشق المحرَّم عليه بسلطان عرنيش الجافي. الذي علم بأمره فقرر عقابه "حمل الهواء طرف جلبابها القطيفة حينها تسمر جوان مكانه على النخلة بعد أن رأى جسد سفيرة بازغا أمامه كطبق البنور. كيف لقلبه أن ينبض وهو بلا قلب؟
مشهد البنت سفيرة وهى غارقة فى فدان البرسيم ظل عالقا فى رأس المجنون. أخذ يسألني كثيرا عن سفيرة ابنة حامد ويسألني كل مرة التقيه هناك فى الخور أسئلة عجيبة حتى أنه سألني مرة في خبث قائلاً: "هل يمكنني أن أفعل مثلما يفعل حريش مع سماح تحت عنباية الحاج مفتاح؟ العشق ليس لنا يا ملعون، لهذا أنت تستحق التأديب هنا في الخزان؛ لأنك تريد سفيرة وسفيرة ليست لك".
لكنّ السهم كان قد نفذ، ووقع العشق في قلب الجني، وبالفعل دخل "جوان" جسد سفيرة "أعرف أنك يا ملعون وبسبب عشقك للبنت دخلت بيت حامد دون أن يشعر بك أحد وتسللت إلى حجرتها ورأيت وجهها الطيب حين تنام، كنت تدخلها من باب الحلم وتغريها بك مرات عديدة، يالك من ملعون تستعمل حيلك التي علمتك إياها، تدخل أحلام البنت سفيرة كل ليلة. وها أنت ذقت العشق وعرفت طعم أن تدخل جسد امرأة بعد أن دخلت جسد سفيرة وبقيت فيه، كيف وجدت جسدها يا ملعون؟ كيف ذقت حلاوته؟".
ولقد استحق هذا العاشق الجريء العقاب جزاء فعلته التي تعد انتهاكًا لقانون مملكة الجافي "أيها الصبي اللاهى سوف تنال عقابك الآن بعد أن تصلب أمامي على حائط الخزان، سوف أجعلك تبوح لي بكل ما شعرت به هناك وأنت تجري في دمها وأنت تمر من بين أصابعها وأنت تلعق أناملها، سوف أذيقك أشد العذاب". بيد أن الجني ليس وحده من دفع ثمن عشقه للإنسية سفيرة.. سفيرة أيضًا دفعت الثمن في الأخير، حين وجدوا جثتها عائمة على ترعة بحر المناشي "وذهبوا به إلى بيت حامد الرديني ليخبروا أمها جملات أنهم وجدوا جسد سفيرة طافيًا على سطح ماء ترعة المناشي، ذلك الجسد الذي استباحه إبليس".
العشق إذن كان صلاة إبليس في هذا العمل، إبليس الذي يتمنى في هذا العمل لو كان في مكان آدم.. إبليس الذي أخضعه سلطان العشق. يقول الجني العاشق: "جلست تمشط شعرها الأسود الطويل، انحسر جلبابها عن فخذين وجسد طري، رأيت عيني مرعي تتسعان ورأيته ينتفض في مكانه. حلمت وأنا ممدد على سطح بيت سفيرة أن أضمها كما يضم حريش سماح أمامي تحت العنباية لتدخل جسده ويتعانقان.
لا أعرف ما الذي شعر به حريش ساعتها؟ لماذا غاب هكذا عن الدنيا... تمنيت داخلي أن أجرب إحساسًا كهذا، أمتلك جسدًا يمنحني هذه اللذة العجيبة. أود أن أجرب إحساس مخلوق ليس مثلي، كيف يمكن أن يجد المرء لذة بمجرد أن يلمس غيره؟! أتأمل عاشقين يرتعان أمامي في مرح وأنا مكبل بجسدي الذي لا تدخله الشهوة ولا يتيح لي عناق المخلوقات. كانت المرة الأولى التي هممت أن أعاتب الله أن جعلني على هذه الهيئة، تمنيت أن أكون مثل حريش لي قلب وجسد تتمناه سماح. ذلك الشعور الذي تسرب داخلي، لم أستطع أن أسيطر عليه".
لقد بلغ العشق من الجني كل مبلغ، حتى إنه طلب من سيده عرنيش الجافي أن "أعطني جسد مرعى البرادعي وأمنحك كل شيء"، لأنه في حاجة للظهور لسفيرة على الهيئة التي تحبها، هيئة حبيبها مرعي حتى يشعر باللذة معها، لذة الجسد.
اللذة التي ينتصر لها هذا العمل بقوة، ويرى أنها اللذة الحقيقية التي نبحث عنها جميعًا، وأننا حين نتحدث عن عشق الروح فإنما نردد كذبًا محضًا تحت تأثير الوهم أو قلة الحيلة أو الرغبة في الهرب، وأننا آنذاك نحمل أنفسنا فوق ما نطيق، هكذا يخلص السارد إلى "الجسد هو الفعل.. تود أن تعذب جسدك لتصير صوفياً؟ تريد أن تتخلص من شهوتك؟ تريد أن تجعله جسدًا نحيلاً لا حياة فيه، تمنعه عن الحياة وهو خلق لها؟ الصوفي يهرب بعذابه ويظن أنه يعبد الله ويتقرب إليه، لكن كيف تترك سفيره يعذبها جسدها ثم تجلس أنت خلف أعواد القطن الناشفة، هذا العذاب لا يجعلك صوفيًا ولا حتى مؤمنًا نقيًا".
هكذا ذهب أحمد قرني بعيدًا في طريقه إلى العمق وهو يقر على لسان سفيرة معاتبة مرعي البرادعي الذي كان يرى في عشقه إياها خطيئة قرر أن يتخلص منها بالتصوف والزهد، لكن سفيرة كانت ترى أن العشق ليس خطيئة، بل إنه من تمام الإيمان، وأن العاشق المؤمن هو من يدافع عن عشقه بالزواج، وليس من يهرب، وأن الحديث عن خطيئة العشق ليس أكثر من نوع من الهرب والعجز عن المواجهة، لانتزاع هذا العشق، فالعشق الإلهي فقط هو عشق الروح، أما عشق الأجساد، فهو عشق اللذة، اللذة التي هرب منها مرعي البرادعي تحت تأثير الصراع بين كونه إماماً يصعد المنبر ليخطب في الناس وكونه عاشقًا متيمًا بسفيرة التي كان جمالها يشعله، وفي الوقت نفسه كان رفض أبيها حامد الرديني ورغبة العمدة في الانتقام منه لتعرضه له على المنبر يقفان حائلاً دون بلوغه لذة هذا العشق بالزواج من سفيرة.
يقول مرعي: "لم أفلح أن أصبح عاشقًا يتمنى سفيرة ويدخل جسدها، يعانق روحها، كنت تريدها لكنك هربت، ظننت أنك ستهرب من جسدك لتكون صوفيًا يخلص للنور ويتخلص من فضلات اللذة التي هي من صفات الجسد البالي. لذت بالفرار داخلك، أن تكون صوفيًا يروض جسده ويتخلص من شهوته وينتقل إلى أرض فسيحة، أرض تتسع لأشواقه وعذاباته، أرض مثل أرض الخور ووادي الحلفاء".
وكانت أرض الخور ووادي الحلفاء معادلاً موضوعيًا لأكثر من عالم، بعضها أضداد، ففي الوقت الذي كانت فيه فضاءَ بوح يتطلع إليه العاشق الذي هجر لذة الجسد مرعي البرادعي، كانت لعاشق جسور مغامر من طراز حريش الغابي أرض الكنز التي يتطلع لاقتحامها ومواجهة حياتها ووحوشها حتى يصل إلى الكنز ويأتي به مهرًا لسماح، وكانت بالنسبة إلى العمدة فتوح جزءًا من حدود إرثه الكبير عن أجداده، القرية بحجرها وبشرها، لكن وجود عرنيش الجافي كان يحول دون حلم العمدة فتوح، على الرغم من أنهما شريكان، فلدى الجافي سلطان الوهم الذي يخضع به الناس للعمدة فتوح.
الوهم الذي يمنع الجميع من التفكير في الصعود إلى وادي الحلفاء بعدما غرس في نفوسهم الذعر من لدغ حياته المميتة وفحيح ثعابينه، لكنه في الوقت نفسه كان خاضعًا لسلطان الحكم والسلطة والقوة الذي يمتلكه العمدة فتوح، فالتقت المصالح على توجس من الطرفين، لعلم العمدة فتوح بأطماع عرنيش الجافي وأيضًا باستعداده لتوظيف خدماته الكهنوتية لأصحاب السلطة المحتملين "بيت خروشة" الذين لهم ثأر مع عائلة فتوح ويتطلعون للوثوب على انتزاع منصب العمدة من أيديهم، مستفيدين أيضًا من الآلة الإعلامية الجبارة لعرنيش الجافي الذي بوسعه غرس ما شاء من أوهام والترويج لها بين الناس تمامًا مثلما نجح في غرس أسطورة الذعر من وادي الحلفاء وثعابينه وحياته التي ستهجم على بيوتهم..
الذعر الذي دفعهم للمرة الأولى لمعارضة رغبة العمدة فتوح في إزالة وادي الحلفاء، حين حاول العمدة فتوح "مع رجال الحكومة أن تحضر اللودر لكي يزيل وادي الحلفاء لكن الناس في المناشي خرجت عن بكرة أبيها في مشهد عظيم حين قال لهم الشيخ عرنيش الجافي إنه ما إن يدخل اللودر أرض الحلفاء ستنطلق العقارب والحيات إلى بيوت المناشي وستطرد أهل المناشي من منازلهم، إنها وحوش الثعابين تسكن أرض الحلفاء هو يراها بعينيه حين يصعد إلى الخور ويمر بجوار نخلات عطية، يسمع بأذنيه فحيح الأفاعي العملاقة التي يمكن لأفعى واحدة منها أن تبتلع إنسانًا كاملاً".
هكذا حكم العمدة فتوح وعرنيش الجافي جميع أهل المناشي بالخوف والوهم، لكن العشق كان أقوى من الخوف وأقوى من الوهم، فلم يكن العاشق الجسور حريش وحده الذي تجاسر على الصعود إلى وادي الحلفاء من أجل إهداء كنوزه لسماح، أيضاً مرعي البرادعي قرر الصعود إلى وادي الحلفاء لكن بحثًا عن عشق آخر، عن العشق الإلهي الذي لم يجد غير وادي الحلفاء مهربًا إليه من عشق جسد سفيرة الفاني.
هرب أشبه بهرب عنتر النوبي من عشق عزة لبيب القمص التي احتجبت إلى الأبد خلف أسوار دير العزب بقرار من أبيها، لتحاشي فتنة العشق التي كانت على وشك أن تشعل القرية إن نجح عنتر في الوصول إليها، لكن ظرف هذا العاشق الاجتماعي لم يكن يؤهله ليتجاسر على الصعود إلى وادي الحلفاء للحاق بركب العشاق، إذ كان عمل أمه " حسنية الحفافة" في تزيين النساء عارًا اجتماعيًا كافيًا لدفعه لترك البلاد وأهلها والفرار بعاره إلى خارج البلاد تحت تأثير شعور ضاغط بالدونية، فلم يعد هناك ما يستحق مواجهة أي شيء من أجله، بعدما انتزعوا عشقه من يديه.
وكانت الرسالة هنا، أن العشق تلك الطاقة التي نستمد منها وجودنا ونواجه تحدياته مهما بلغت، حتى إن كانت أم أحدنا "حفافة"، الطاقة التي نفقد في غيابها قدرتنا على المواجهة، تماماً مثل هذا العاشق الانسحابي الذي سبق أن هرب من الصعود إلى المنبر لأداء خطبة الجمعة تحت تأثير ذاك الشعور بالوضاعة. يقول مرعي عن صديقه العاشق المنهار: " كان فرحا حين قال في رسالته الأولى إن أحدًا هنا لا يسأله عن ماضيه، عرفت ماذا يعني؟
كان يود الخلاص من تركة ثقيلة على نفسه"، وكان سقوط عنتر حسين من أحد الطرق الجبلية في الحجاز بسيارته في حادث سير مروع، نهاية لمعاناته مع تلك التركة، نهاية تسببت في ذهول عزة القمص التي ما إن أخرجوها من الدير بعد ذيوع نبأ وفاته حتى "هامت على وجهها فى طرقات المناشي على وقع سماعها الخبر, ظلت غائبة عن الوعي أيامًا لا تفيق إلا لثوانٍ وحين فاقت من سياتها ذهبت إلى ترعة المناشي، كان هذا أول لقاء جمعها به، عزة القمص قالت لمن حولها إنها رأت عنتر النوبي عند ترعة المناشي يستحم.
حسنية ذهبت إلى ترعة المناشي ونامت هناك وعادت لتقول إنها رأته يعبر الخور متجها إلى وادي الحلفاء وكان مبتسما يرتدي البياض".
عنتر النوبي إذن لحق برفاقه ركب العشاق أخيراً إلى وادي الحلفاء، هناك حيث جنة المناشي (الكنوز ونخلات عطية) وسعيرها (الأفاعي والحيات)، لكنه لحق بهم روحًا بعد فناء جسده، في مشهد يحسب للسارد فيه توظيف الروايات الميتافيزيقيةالدارجة في كثير من البيئات المحلية المعزولة في القرى، تمامًا مثل توظيف الميتافيزيقا في دور الجني (جوان) مستنداً إلى كثير من الوقائع والمفاهيم المتداولة بهذا الخصوص في تلك البيئات، ما يحيل قارئ العمل إلى تلك الأجواء الحميمية في عمق الريف المصري، ويضع العمل في مرحلة برزخية بين الواقع والخيال، مستندًا إلى رصيد الأسطورة التي وُظفت بذكاء في هذا العمل، واقتسمت أحداثه مع الواقع، من دون أن ينتابنا شعور في أي من لحظات العمل، أننا إزاء نص فانتازي على الإطلاق، فكثير من هذه التفاصيل التي جمعها العمل على غرابتها وميتافيزيقيتها لها مرجعيتها في القصص الشعبية وفي الوعي الجمعي لقطاع عريض، لا أقول من المصريين، بل من سكان منطقة الشرق الأوسط.
يذكر أن رواية "صلاة إبليس" هى الرواية السادسة للكاتب أحمد قرني بعد روايته "الأقدس" التى حصلت على جائزة اتحاد كتاب مصر 2012، ورواية "حارس السور" التى فازت بجائزة مجلة الصدى الإماراتية، ورواية "آخر سلالة عائلة البحار" التى فازت بجائزة الشارقة للإبداع العربي، وجائزة نادى القصة، ورواية "سماء الحضرة" التى حصلت على جائزة أفضل عمل روائي بالنشر الإقليمى عام 2014، ومؤخرًا أصدر رواية "كما يليق بحفيد"، كما فازت روايته "مثل قطعة كريستال" بجائزة أفضل رواية فى مسابقة مجلة الثقافة الجديدة التى أقيمت تحت رعاية وزارة الثقافة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق